الرئيسية / من / طرائف الحكم / سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي

سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي

[8]

يقوم ما كان لها من نمو وسمو وتقدم واطراد، أو تأخر وانحطاط، فكذلك المعرف الوحيد للفرد آدابه وسننه الشخصية التي تحكي عن أفكاره وتصوراته. ويتلخص ما بدا إلى اليوم من الآداب والسنن بين المجتمعات البشرية في أربعة أقسام: 1 – الآداب والسنن الخرافية. 2 – الآداب والسنن العامية. 3 – آداب وسنن العلماء وذوي البصائر. 4 – آداب وسنن الأنبياء والمرسلين، والأئمة المعصومين (عليهم السلام). وليس بإمكاننا أن نعين زمنا معينا أو مكانا معينا لبدء ظهور السنن الخرافية والعامية، بينما بإمكاننا أن نقول بلا تردد: أنه قد ظهر بين الموحدين سلسلة من الآداب والسنن من لدن آدم (عليه السلام) حتى اليوم تتفاوت مع سائر السنن البشرية، وأن هذا النوع من السنن والآداب يفوق نطاق العقل ومحيط الفكر البشري، فإنه ليس بإمكان الإنسان أن يدركها بعقله وشعوره، بل هي خارجة عن نطاق فهم البشر، وإنما يتلقاها عدد من صفوة الناس يسمون ” الأنبياء ” إلهاما ووحيا من بدء الخلق، ويبلغونها إلى الناس أجمعين. وإن نظام هذا النوع من الآداب والسنن إنما هو نظام إلهي يضمن سعادة الإنسان في دنياه وآخرته في جسمه وروحه. وقد نسب الله تعالى في القرآن الكريم هداية الأنبياء إلى نفسه، وأمضى وصدق كيفية عشرتهم مع الناس وآدابهم وسننهم. ففي سورة الأنعام بعد أن أثنى على إبراهيم (عليه السلام) ذكر سائر الأنبياء من نسله وكذلك نوحا والأنبياء من ذريته فقال: ” ووهبنا له اسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وايوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم الى صراط مستقيم * ذلك

[9]

هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون * اولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين * اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجرا ان هو إلا ذكرى للعالمين ” (1). ويقول – عز من قائل – في سورة الممتحنة: ” قد كانت لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه ” (2) وقد نقل عن مجمع البيان: أن المراد من * (الذين معه) * هم سائر الأنبياء. ويقول تعالى في سورة آل عمران: ” ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ” (3) إلى غيرها من الآيات… وروى الطبرسي (رحمه الله) في ” مكارم الأخلاق ” والشريف الرضي في ” نهج البلاغة ” عن علي (عليه السلام) أنه قال في خطبة له: ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) كاف لك في الاسوة، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها وكثرة مخازيها ومساويها، إذ قبضت عنه أطرافها، ووطئت لغيره أكنافها، وفطم عن رضاعها وزوي عن زخارفها. وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله حيث يقول: ” رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ” (4) والله ما سأله إلا خبزا يأكله، لأنه كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذب لحمه. وإن شئت ثلثت بداود صاحب المزامير وقارئ أهل الجنة، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه، أيكم يكفيني بيعها ؟ ويأكل قرص الشعير من ثمنها. وإن شئت قلت في عيسى بن مريم (عليهما السلام): فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في

(1) الأنعام: 84 – 90. (2) الممتحنة: 4. (3) آل عمران: 68. (4) القصص: 24.

[10]

الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم. ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه (1). ونقل الديلمي في كتابه ” إرشاد القلوب ” عنه (عليه السلام) أيضا بشأن التأسي بحياة الأنبياء (عليهم السلام) أنه قال: وأما نوح (عليه السلام) مع كونه شيخ المرسلين وعمر في الدنيا مديدا ففي بعض الروايات: أنه عاش ألفي عام وخمسمائة عام، ومضى من الدنيا ولم يكن بنى فيها بيتا، وكان إذا أصبح يقول: لا امسي، وإذا أمسى يقول: لا اصبح. وكذلك نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) فإنه خرج من الدنيا ولم يضع لبنة على لبنة، ورأى رجلا يبني بيتا بجص وآجر فقال: الأمر أعجل من هذا. وأما إبراهيم (عليه السلام) أبو الأنبياء فقد كان لباسه الصوف وأكله الشعير. وأما يحيى بن زكريا (عليهما السلام) فكان لباسه الليف وأكله ورق الشجر. وأما سليمان (عليه السلام) فقد كان – مع ما هو فيه من الملك – يلبس الشعر، وإذا جاء الليل شد يديه إلى عنقه، فلا يزال قائما حتى يصبح باكيا، وكان قوته من سفائف الخوص يعملها بيده، وإنما سأل الله الملك لأجل القوة والغلبة على ملوك الكفار ليقهرهم بذلك، وقيل: سأل الله القناعة (2). والخلاصة: أن الأحاديث بهذا الشأن كثيرة، وقد ورد في حديث مستفيض: ” إن أحسن السنن سنة الأنبياء ” (3) ولا سيما سنة رسول الله خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، فإن سيرة حياته آخر برنامج صحيح لحياة الإنسان فتحه الله على عباده. وقد جاء في الحديث أيضا: ” خير السنن سنة محمد (صلى الله عليه وآله) ” (4). وقد أثنى القرآن الكريم في موارد عديدة على أخلاقه وسلوكه ومعاشرته

(1) نهج البلاغة: 226، الخطبة 160، ورواه الزمخشري في ربيع الأبرار: باب اليأس والقناعة. (2) إرشاد القلوب: 1: 157. (3) من لا يحضره الفقيه 4: 402، ح 5868. (4) الاختصاص: 342.

[11]

للناس وسيرة حياته فقد جاء في سورة آل عمران: ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ” (1). ووصفه في سورة القلم بالخلق العظيم بصراحة الآية الشريفة ” إنك لعلى خلق عظيم ” (2). ثم أمر في سورة الأحزاب أن يتخذ الناس سيرته في حياته اسوة وقدوة فقال: ” ولكم في رسول الله اسوة حسنة ” (3). ويقول في سورة آل عمران: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) * (4). ويقول أيضا: ” يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ” (5). وروى الشيخ المفيد في أماليه في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول عند وفاته: لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي (6). وروي في جامع الأخبار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه كان يقول: اكرموا أولادي، وحسنوا آدابي (7). وروي في حديث مشهور مستفيض عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي (8). وروى ابن شعبة الحراني في ” تحف العقول ” في حديث عن علي (عليه السلام) أنه قال: فاقتدوا بهدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنه أفضل الهدي، واستنوا بسنته فإنها أشرف السنن (9).

(1) آل عمران: 159. (2) القلم: 4. (3) الأحزاب: 21. (4) آل عمران: 31. (5) الأنفال: 24. (6) أمالي الشيخ المفيد: ص 53. (7) جامع الأخبار: الفصل 101 ص 140. (8) البحار 16: 210. (9) تحف العقول: ص 150.

[12]

وقد جاء في الخطبة التي مضى بعضها عن علي (عليه السلام) أنه يقول: فتأس بنبيك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله)، فإن فيه اسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزى. وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه والمقتص لأثره. قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبي أن يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره. ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغر الله ورسوله، لكفى به شقاقا لله ومحادة عن أمر الله. ولقد كان (صلى الله عليه وآله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه. ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: ” يا فلانة – لإحدى أزواجه – غيبيه عني فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها “. فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكي لا يتخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده. ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته. فلينظر ناظر بعقله، أكرم الله محمدا بذلك أم أهانه ؟ ! فإن قال: أهانه فقد كذب – والله العظيم – بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه فليعلم أن الله قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه. فتأسى متأس بنبيه واقتص أثره، وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمدا (صلى الله عليه وآله) علما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله وأجاب داعي ربه. فما أعظم منة الله عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتبعه وقائدا نطأ عقبه ! والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك ؟ ! فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم

[13]

السرى (1). وروي في ” مكارم الأخلاق ” عن الصادق (عليه السلام): إني لأكره للرجل أن يموت وقد بقيت عليه خلة من خلال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يأت بها (2). والأخبار في هذا المقام كثيرة. وبهذا الصدد علينا أن نلتفت إلى نقطة مهمة وهي: أن السنة في موضوع بحث هذا الكتاب تتفاوت معنى مع المصطلح بين المؤرخين وأهل السيرة والحديث وكذلك الفقهاء، فإن السنة في مصطلح المؤرخين وكتاب السيرة عبارة عن تاريخ حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ميلاده إلى غزواته، وتاريخ حياة أولاده وعشيرته وأصحابه، ونحو ذلك. وفي اصطلاح المحدثين هي عبارة عن أقوال وأفعال وتقارير المعصوم (عليه السلام)، وهو عند العامة رسول الله فقط، وعند شيعة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) هو بإضافتهم إليه. وفي اصطلاح الفقهاء هي عبارة عن عمل مستحب في مقابل الأحكام الأربعة الاخرى: الواجب والحرام والمكروه والمباح. والسنة في الأحاديث اطلقت على جميع الأوامر والأحكام التي قالها وعمل بها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كعدد ركعات الصلوات اليومية والقراءة والتشهد والسلام فيها، وكيفية الحج والتمتع فيه، ونكاح النساء والتمتع بهن وطلاقهن، فعلى جميع هذه الأوامر والأحكام تطلق السنة في الأخبار والأحاديث. بينما السنة في مصطلح هذا الكتاب – كما اتضح مما مر – أخص من جميع هذه المعاني، فهي عبارة عن الأعمال المستحبة التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدأب ويداوم عليها في سيرته في حياته. لا يخفى على أهل العلم والبصيرة كثرة سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآدابه، وأنها متفرقة بين مئات الكتب ضمن آلاف الأحاديث، وقد نقل كل من المحدثين شطرا منها حسب مناسبة أبواب كتبهم. وحسب اطلاعي قلما نجد كتابا بين مؤلفات

(1) نهج البلاغة: 227، الخطبة 160. (2) مكارم الأخلاق: 95، الحديث 183.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...