( 7 ) قاعدة في شمول قدرته وانبساط وجوده وسعة رحمته على الأشياء
قال تعالى :
« وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » وقال :
« وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ » وقال :
« وَا للهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » .
اعلم أن موجودية الممكنات بهوية الحق الأول وبه قوام كل شيء وحياة كل حي كما أن بالروح الإنساني وهو خارج عن هذا العالم وجود أجزاء البدن وقوام آلاته وقواه وبه حياة كل عضو من الأعضاء وحسه وحركته إلا أن الروح قد ينفعل عن البدن ويستعين به وبآلاته وأعضائه في تحصيل الكمالات بخلاف الباري الأول فإنه غني عن العالمين وهو مبدأ وجوب وجود الأشياء بذاته وهو واسع لها منبسط على كلها لما مر أنه بسيط الذات لا يعزب عنه وعن علمه الذي هو عين ذاته شيء فالأشياء كلها بالقياس إليه واجبات وإن كانت بالقياس إلى أنفسها ممكنات فلو فرض شيء من الأشياء مسلوبا عنه تعالى من حيث هو هو فحيثية كونه هو غير حيثية كونه ليس بكذا وإلا لكان شيء واحد من جهة واحدة هو ولا هو .
مثلا لو فرض أن ذاته « ألف » وقد صدق عليه أنه ليس « بب » فنقول حيثية كونه « ألف » هل هي بعينها حيثية كونه ليس « بب » أم لا فعلى الثاني يلزم في ذاته شيء دون شيء فلم يكن واحدا محضا وهذا خلف .
وعلى الأول يلزم أن يكون المعقول من كونه ألف هو بعينه المعقول من كونه ليس بب وهو محال لأن المعقول من الأول هو الثبوت ومن الثاني هو السلب ويستحيل أن يكون المعقول من السلب نفس المعقول من الإيجاب وإن كان كل منهما مضافا إلى شيء آخر فإن المضاف إليه معناه خارج عن معنى المضاف والإضافه فالتخصيص به تخصيص بأمر خارج والتخصيص بالأمر الخارج لا يغير حقيقية الشيء في نفسها فإذن لو كان معنى ثبوت ألف بعينه معنى سلب ب لكانت طبيعة الثبوت بعينها طبيعة السلب فيكون الشيء غير
نفسه وهو محال .
فقد ثبت أن الأول تعالى لكونه بسيط الحقيقة يجب أن يكون كل الأشياء الوجودية على وجه أعلى وأشرف ولهذا ورد من الأذكار الشريفة « يا هو يا من هو يا من لا هو إلا هو » فإذا كان هذا هكذا فجميع الموجودات آثار ذاته فلا قدرة بالحقيقة إلا قدرته كما لا وجود إلا لمعة من وجوده .
وكما لا ينافي كونه أصل الوجود تعدد الموجودات المصحوبة بالنقائص والإمكانات كذا لا ينافي كونه مؤثرا في جميع المقدورات ثبوت الوسائط من القادرين بينه وبين المقدورات فإن الإيجاد كالوجود مترتب ذو درجات ومراتب بعضها أعلى وبعضها أدون قال تعالى :
« أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّه ُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » وقال :
« هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِله ٌ وَفِي الأَرْضِ إِله ٌ » وقال :
« هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ » وقال :
« أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَه ُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ » وقال :
« أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ » إشارة إلى أن الأفعال المنسوبة إلى القوى المؤثرة كالمصورة في تصوير الأعضاء وتشكيلها وكالماء والنار في التسخين والتبريد وكالإنسان في أفاعيله الصادرة عنه وغير ذلك كلها بالحقيقة صادرة عنه تعالى واقعة بتأثيره مع كمال وحدانيته وفردانيته فكل ما هو مقدور ومجعول لفاعل فهو من حيث صدوره عن ذلك الفاعل صادر عن الحق تعالى كما أن وجود كل ممكن من حيث وجوده شأن من شئون الحق ووجه من وجوهه ولذلك نسب الأفعال إليه تعالى من حيث نسب إلى مباديها المباشرة لها كما في قوله :
« قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ » وقوله :
« وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى » وقال أيضا :
« وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ » وفيه دلالة على أن الوجود كله خير لكن الخيرات متفاوتة بعضها أشد وبعضها أضعف فبعضها خير محض لا يشوبه شر بوجه من الوجوه أصلا وبعضها مشوب بشر أو شرور قليلة أو كثيرة بالإضافة فالخير الذي في عالم الجسم ليس مثل الخير الذي في عالم الروح بل عالم الأمر خير كله وعالم الخلق لا يخلو من شر أو شرور ومع ذلك خيره غالب على شره لأن وجوده خير وعدمه شر
محض والإنسان من جملة المخلوقات له أن يسلك سبيل القدس وصراط الحق ويتطور في الأطوار الوجودية ويستبق في الخيرات حتى تزول عنه الشر بالكلية ويدخل في دار السلام ولذلك أمر اللَّه لنا في الاستباق في الخيرات والافتراق من الشرور والظلمات والدخول في دار السلام كما في قوله تعالى :
« ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ » وقال : « اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ » .