الرئيسية / القرآن الكريم / صيانة الآثار من منظار القرآن الكريم

صيانة الآثار من منظار القرآن الكريم

( 53 )

المبحث الرابع :

ذرائع الوهابية في هدم الآثار

استدلّت الوهابية بروايات نذكرها واحدةً بعد الأُخرى :

الأُولى : رواية أبي الهياج الأسدي

روى مسلم في صحيحه قال : حدّثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن الحرب ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدّثنا وكيع عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي عليّ ابن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله . . أن لا تدع تمثالا إلاّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته(1) .

زعم المستدلّ أنّ معناه : ولا قبراً عالياً إلاّ سوّيته بالأرض .

أقول : الاستدلال بالحديث فرع صحّة سنده ، وتماميّة دلالته ، ولكنّه موهون من كلا الجانبين .

سند الرواية وأقوال العلماء فيه :

أمّا السند ، فيكفي أنّ علماء الرجال تحدّثوا في رجال الحديث ونقلوا تصريح الأئمة بضعفهم ، وهم عبارةً عن :

1 ـ وكيع .

2 ـ سفيان الثوري .

3 ـ حبيب بن أبي ثابت .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مسلم ، الصحيح 3  : 61 كتاب الجنائز; الترمذي ، السنن 2  : 256 باب ما جاء في تسوية القبور; النسائي ، السنن 4  : 88 باب تسوية القبر .


( 54 )

4 ـ أبو وائل الأسدي .

وإليك أقوال العلماء في حقّهم :

1 ـ وكيع :

هو وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي الكوفي ، روى عن عدّة ، منهم : سفيان الثوري ، وروى عنه جماعة منهم : يحيى بن يحيى وهو كما ورد في حقّه المدح ، ورد في حقّه الجرح كثيراً ، وهذا ابن حجر يعرّفه في تهذيب التهذيب بالنحو التالي : عن الإمام ابن حنبل : كان وكيع أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيراً ، وقال في موضع آخر : ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع ووكيع أكثر خطأً منه .

وقال ابن عمار : قلت له : عدّوا عليك بالبصرة أربعة أحاديث خلطتَ فيها؟ فقال : حدّثتهم بعبادان بنحو من ألف وخمسمائة ، وأربعة ليس بكثير في ألف وخمسمائة .

وقال عليّ بن المديني : كان وكيع يلحن ولو حدّثَ بألفاظه لكان عَجَباً .

وقال محمد بن نصر المروزي : كان يُحدّث بآخره من حفظه فيغيّر ألفاظ الحديث كأنّه يحدّث بالمعنى ولم يكن من أهل اللسان(1) .

وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعدما مدحه : قال ابن المديني : كان وكيع يلحن ولو حدّث بألفاظه كان عجباً(2) .

2 ـ سفيان الثوري :

وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ، فقد مدحوه ، ولكن الذهبي يقول : إنّه كان يدلِّس عن الضعفاء ، ولكن كان له نقد وذوق ، ولا عبرة بقول من قال يدلِّس ويكتب عن الكذّابين(3) .

وقال ابن حجر : قال ابن المبارك : حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلِّس ، فلمّا رآني استحيا وقال : نرويه عنك؟(4) .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تهذيب التهذيب 11  : 123 ، 131 .

(2) ميزان الاعتدال 4  : 336 .

(3) ميزان الاعتدال 2  : 169 برقم 3322 .

(4) تهذيب التهذيب 4  : 15 في ترجمة سفيان .


( 55 )

وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ : قال أبو بكر وسمعت يحيى يقول : جهد الثوري أن يدلِّس عليّ رجلا ضعيفاً فما أمكنه(1) .

والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينهما واسطة فلا يذكر الواسطة .

وقال أيضاً في ترجمة سفيان : قال ابن المديني عن يحيى بن سعيد : لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص ولا حيان بن إياس ، ولم يسمع من سعيد بن أبي البردة ، وقال البغوي : لم يسمع من يزيد الرقاشي ، وقال أحمد : لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية(2) يضع ما له حيث يشاء ، ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً ولا من ابن عون إلاّ حديثاً واحداً(3) .

وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مُدلِّساً ، ربّما يروي عن اُناس يوهم أنّه لقيهم ولم يلقَهُم ولم يسمع منهم .

3 ـ حبيب بن أبي ثابت :

هو حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار ، وَثّقهُ بعض ، ولكن قال ابن حبّان في الثّقات : كان مدلّساً ، وقال العقيلي : غمزه ابن عون ، وقال القطّان : له غير حديث عن عطاء ، لا يُتابع عليه وليست محفوظة .

وقال ابن خزيمة في صحيحه : كان مدلّساً(4) .

وقال ابن حجر أيضاً في موضع آخر : كان كثير الإرسال والتدليس ، مات سنة 119 هـ .

ونقل عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخطّ المنذري أنّه نقل فيه حديثاً عن أُبيّ بن كعب في قول جبرئيل : لو جلست معك مثلما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر ، وقال : لم يُعِلْه ابن الجوزي إلاّ بعبد الله بن عمّار الأسلمي شيخ حبيب بن ثابت(5) .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تهذيب التهذيب 11  : 218 .

(2) العبد المعتق .

(3) تهذيب التهذيب 4  : 115 .

(4) تهذيب التهذيب 2  : 179 .

(5) تهذيب التهذيب 1  : 148 .


( 56 )

4 ـ أبو وائل الأسدي :

هو شقيق بن سلمة الكوفي ، كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب ، قال ابن حجر : قيل لأبي وائل : أيّهما أحبُّ إليك عليّ أو عثمان؟ قال : كان عليّ أحبّ إليّ ثمّ صار عثمان(1) .

ويكفي في قدحه أنّه كان من ولاة عبيد الله بن زياد ، قال ابن أبي الحديد : قال أبو وائل : استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة .

هذا كلّه حول سند الرواية وهؤلاء رواتها ، ولو ورد فيهم مدح فقد ورد فيهم الذم ، وعند التعارض يقدم الجارح على المادح فيسقط الحديث عن الاستدلال .

ويكفي أيضاً في ضعف الحديث أنّه ليس لراويه ـ أعني أبا الهياج ـ في الصحاح حديث غير هذا ، فكيف يستدلّ بحديث يشتمل على المدلِّسين والمضعِّفين؟ وكيف يُعْدَل بهذا الحديث عن السيرة المستمرّة بين المسلمين؟!

والآن إليك بيان عدم دلالة الحديث على الموضوع بتاتاً :

ضعف دلالة الحديث

إنّ توضيح ضعف دلالة الحديث يتوقّف على بيان معنى اللّفظين الواردين فيه :

1 ـ قبراً مشرفاً .

2 ـ إلاّ سوّيته .

أمّا الأوّل : فقال صاحب القاموس : والشرف ـ محركة ـ العلو ، ومن البعير سنامه ، وعلى ذلك يحتمل المراد منه مطلق العلوّ ، أو العلوّ الخاص كسنام البعير الّذي يعبّر عنه بالمسنَّم ، ولا يتعيّن أحد المعنيين إلاّ بالقرينة .

أمّا الثاني : فهو تارةً يُستخدم في بيان مساواة شيء بشيء في الطول أو العرض ، فيقال : هذا القماش يساوى بهذا الآخر في الطول .

وأُخرى في التسوية ، أي كون الشيء مسطّحاً لا انحناء ولا تعرّج فيه .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تهذيب التهذيب 4  : 362 .


( 57 )

والفرق بين المعنيين واضح; فإنّ التسوية في الأوّل وصف للشيء بمقايسته مع شيء آخر ، وفي الثاني وصف لنفس الشيء ولا علاقة له بشيء آخر .

فلو استعمل في المعنى الأوّل لتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بلا واسطة ، والآخر بمعونة حرف الجرّ ، قال تعالى حاكياً عن لسان المشركين وأنّهم يخاطبون آلهتهم بقولهم : ( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(1) ، أي نعدّ الآلهةَ الكاذبة مساويةً لربّ
العالمين في العبادة أو في الاعتقاد بالتدبير .

وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة : ( يَوْمَئِذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصُوا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاَْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)(2) ، أي يودّون أنْ يكونوا تراباً أو ميتاً مدفوناً تحت الأرض ، ويكونون كذلك والأرض متساوية .

ترى أنّ تلك المادة تعدّت إلى مفعولين وأُدخل حرف الجرّ على المفعول الثاني .

وأمّا إذا استعمل في المعنى الثاني أي فيما يكون وصفاً للشيء بلا علاقة له بشيء آخر فيكتفي بمفعول واحد ، قال سبحانه : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى)(3) ، وقال سبحانه : ( بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ)(4) ، وقال سبحانه : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)(5) ، ففي جميع هذه الموارد يراد من التسوية كونها وصفاً للشيء بما هو هو ، وهو فيها كناية عن كمال الخلقة وأنّها بعيدة عن النقص والاعوجاج .

هذا هو مفهوم اللفظ لغةً ، وهلمّ معي ندرس الحديث وأنّه ينطبق على أيٍّ من المعنيين .

نلاحظ أنّه تعدّى إلى مفهوم واحد ، ولم يقترن بالباء ، فهو آية أنّ المراد هو المعنى الثاني ، وهو تسطيح القبر في مقابل تسنيمه ، وبسطه في مقابل اعوجاجه لا مساواته مع الأرض ، وإلاّ كان عليه ـ عليه

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الشعراء : 98 .

(2) النساء : 42 .

(3) الأعلى : 2 .

(4) القيامة : 4 .

(5) الحجر : 29 .


( 58 )

السلام ـ أن يقول : سوّيته بالأرض ، ولم يكتف بقوله سوّيته .

أضف إلى ذلك أنّ ما ذكرناه هو الّذي فهمه شرّاح الحديث وهو دليل على أنّ التسطيح سنّة والتسنيم بدعة وأمر عليّ ـ عليه السلام ـ أن تكافح هذه البدعة ويسطّح كلّ قبر مسنّم ، وإليك ذكر نصوصهم :

قال القرطبي في تفسير الحديث : قال علماؤنا : ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون واطئة(1) .

أقول : إنّ دلالة الحديث على منع تسنيم القبور ظاهر ، وأمّا دلالتها على عدم ارتفاعها كما هو ظاهر قوله: «ومنع رفعها» فغير ظاهر ، بل مردود باتّفاق أئمة الفقه على استحباب رفعها قدر شبر(2) .

2 ـ قال ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري ما هذا نصّه :

مُسنّماً بضمّ الميم وتشديد النون المفتوحة أي : مرتفعاً ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر وعمر كذلك ، واستدلّ به على أنّ المستحب تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية .

وقال أكثر الشافعية ونصّ عليه الشافعي : التسطيح أفضل من التسنيم; لأنّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ سطّح قبر إبراهيم ، وفعله حجّة لا فعل غيره ، وقول سفيان التمّار : رأى قبر النبيّ مسنّماً في زمان معاوية ، لا حجّة فيه ، كما قال البيهقي; لاحتمال أنّ قبره ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقبرَي صاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنّمة ـ إلى أن قال : ـ ولا يخالف ذلك قول علي ـ عليه السلام ـ : أمرني رسول الله أن لاأدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته ، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار، ونقله في المجموع عن الأصحاب(3).

3 ـ وقال النووي في شرح صحيح مسلم : إنّ السنّة أنّ القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً ، ولا يُسنَّم بل يُرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ، ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أنّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القرطبي ، التفسير 2  : 380 تفسير سورة الكهف .

(2) الفقه على المذاهب الأربعة 1  : 42 .

(3) إرشاد الساري 2  : 468 .


( 59 )

الأفضل عندهم تسنيمها ، وهو مذهب مالك(1) .

ويؤيّد ذلك أنّ صاحب الصحيح (مسلماً) عنون الباب بـ «باب تسوية القبور» ثمّ روى بسنده إلى تمامه ، قال : كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم ، فتوفّي صاحب لنا ، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوّى ، قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يأمر بتسويتها ، ثمّ أورد بعده في نفس الباب حديث أبي الهياج المتقدّم(2) .

وفي الختام نذكر أُموراً :

1 ـ القول بوجوب مساواة القبر بالأرض مخالف لما اتّفقت عليه كلمات فقهاء المذاهب الأربعة ، وكلّهم متّفقون على أنّه يندب ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر(3) .

ولو أخذنا بالتفسير الّذي يرومه الوهابي من حديث أبي الهياج من مساواة القبر بالأرض يجب أن يكون القبر لاطئاً مساوياً معه .

2 ـ لو افترضنا صحّة حديث أبي الهياج سنداً ودلالة ، فغاية ما يدلّ عليه هو تخريب القبر ومساواته بالأرض ، ولا يدلّ على هدم البناء الواقع عليه ، فتخريب القباب المشيّدة الّتي هي مظاهر الودّ لأصحابها استناداً إلى هذا الحديث عجيب جدّاً .

3 ـ إنّ الصحابة دفنوا النبيّ الأكرم في بيته من أوّل يوم ، وقد وصّى الخليفتان بأنْ يُدفنا تحت البناء جنب النبيّ الأكرم تبرّكاً بالقبر وصاحبه ، فلو كان البناء على
القبور أمراً محرّماً ومن مظاهر الشرك; فلماذا وارت الصحابة جثمانه الطاهر
ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ تحت البناء؟ ولماذا أوصى الخليفتان بالدفن تحته؟

ولمّا واجهت الوهابية عمل الصحابة في مواراة النبيّ قامت بالتفريق وقالت : إنّ الحرام هو البناء

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح مسلم بشرح النووي 7  : 36 ط الثالثة ، دار إحياء التراث العربي .

(2) المصدر السابق .

(3) الفقه على المذاهب الأربعة 1  : 42 .


( 60 )

على القبر لا الدفن تحت البناء ، وقد دفنوا النبيّ تحت البناء ولم يبنوا على قبره شيئاً(1) .

ونترك هذا الجواب بلا تعليق; إذ هو في غاية السقوط ، إذ أيّ فرق بين الأمرين؟ فإنّ البناء على القبر مَدْعاة للإقبال إليه والتضرّع إليه ، ففيه فتح لباب الشرك وتوسّل إليه بأقرب وسيلة . . .(2) .

فإذا كان البناء على وجه الإطلاق ذريعة للشرك وتوجّهاً إلى المخلوق ، فلماذا نرخّص في بعض صوره ونحرّم بعضها الآخر؟ وما هذا إلاّ لأنّ الوهابية وإن كانوا ينسبون أنفسهم إلى السلفية ، إلاّ أنّ السلفية بعيدون عنهم بُعد المشرقين .

إلى هنا تمّت دراسة حديث أبي الهياج ، ولندرس حديث جابر الّذي هو المستمسك الآخر لمدمّري آثار الرسالة .

الثانية : حديث جابر

إنّ الوهابيين يستدلّون بحديث جابر على حرمة البناء على القبور ، وقد ورد بنصوص مختلفة ، ونحن نذكر نصاً واحداً منها :

روى مسلم في صحيحه : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدّثنا حفص بن غياث ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن
يجصّص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يُبنى عليه(3) .

وحديث جابر هذا لا يحتجّ به ، لكونه غير صحيح سنداً وضعيفاً دلالةً .

أمّا الأوّل : فلأنّ جميع أسانيده مشتملة على رجلين هما في غاية الضعف :

1 ـ ابن جريج : وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) عقيل بن الهادي ، رياض الجنّة ، ط الكويت .

(2) محاسن التأويل 7  : 30 .

(3) لاحظ للوقوف على متونها المختلفة وأسانيدها : صحيح مسلم ، كتاب الجنائز 3  : 62; وسنن الترمذي  2 : 208 ط المكتبة السلفية; صحيح ابن ماجة 1  : 473 كتاب الجنائز; صحيح النسائي 4 : 87-88; سنن أبي داود 3  : 216 باب البناء على القبر; مسند أحمد 3  : 295 و332 ، ورواه أيضاً مرسلا عن جابر :   ص399 .


( 61 )

2 ـ أبو الزبير : وهو محمد بن مسلم الأسدي .

أمّا الأوّل : فإليك كلمات أئمة الرجال في حقّه :

سئل يحيى بن سعيد عن حديث ابن جريج قال : فقال : ضعيف ، فقيل له : إنّه يقول : أخبرني؟ قال : لا شيء . . كلّه ضعيف ، وقال أحمد بن حنبل : إذا قال ابن جريج : قال فلان وقال فلان جاء بمناكير .

وقال مالك بن أنس : كان ابن جريج حاطب ليل .

وقال الدارقطني : يُجتنب تدليس ابن جريج; فإنّه قبيح التدليس ، لا يدلِّس إلاّ فيما سمعه من مجروح .

وقال ابن حبّان : كان ابن جريج يدلِّس في الحديث(1) .

وأمّا الثاني : فإليك أقوال علماء الرجال فيه :

فعن إمام الحنابلة عن أيوب أنّه كان يعتبر أبا الزبير ضعيف الرواية .

وعن شعبة : لم يكن في الدنيا أحبّ إليّ من رجل يقدِمُ فأسأله عن أبي الزبير ، فقدمت مكّة فسمعت منه ، فبينا أنا جالس عنده إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة
فردّ عليه ، فافترى عليه ، فقلت : يا أبا الزبير تفتري على رجل مسلم؟ قال : إنّه أغضبني ، قلت : ومن يغضبك تفتري عليه؟ لا رويت عنك شيئاً .

وعن ورقاء قال : قلت لشعبة : ما لَكَ تركت حديث أبي الزبير؟ قال : رأيته يزن ويسترجع في الميزان .

وقال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن أبي الزبير ، فقال : يُكتب ولا يحتجّ به ، قال : وسألت أبا زرعة عن أبي الزبير ، فقال : يروي عنه الناسُ ، قلت : يُحتجُّ بحديثه؟ قال : إنّما يحتجّ بحديث الثّقات(2) .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تهذيب التهذيب 6  : 2-4 و 5-6 ط دار المعارف العثمانية .

(2) تهذيب التهذيب، ترجمة أبي الزبير9: 442 ط حيدرآباد ـ دكن عام1326; ولاحظ الطبقات الكبرى 5: 481.


( 62 )

بالله عليك ، أيصحّ الاستدلال بهذا الحديث؟ أفهل يصحّ هدم آثار النبوّة والرسالة والصحابة بهذه الرواية؟

على أنّ بعض الأسانيد مشتمل على عبد الرحمن بن أسود المتّهم بالكذب والوضع .

هذا كلّه ما يتعلّق بالسند .

وأمّا الثاني : أي المتن ، ففيه ملاحظتان :

الأُولى : أنّ الحديث روي بصور ستّ ، مع أنّ النبيّ نطق بصورة واحدة ، ولو رجعت إلى متونه المبعثرة في المصادر الّتي أوعزنا إليها ترى فيها الاضطراب العجيب ، وإليك صورها :

1 ـ نهى رسول الله عن تجصيص القبر والاعتماد عليه .

2 ـ نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن الكتابة على القبر .

3 ـ نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن تجصيص القبر ، والكتابة والبناء عليه ، والمشي عليه .

4 ـ نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن الجلوس على القبر ، وتجصيصه ، والبناء والكتابة عليه.

5 ـ نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن الجلوس على القبر وتجصيصه والبناء عليه .

6 ـ نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عن الجلوس على القبر وتجصيصه والبناء عليه ، والزيارة والكتابة عليه(1) .

مضافاً إلى اختلافات أُخرى في أداء مقصود واحد ، فيعبّر عنه تارةً بالاعتماد ، وأُخرى بالوطء ، وثالثة بالقعود .

ومن المعلوم أنّ الاعتماد غير الوطء ، وهما غير القعود ، فمع هذا الاضطراب والاختلاف في المضمون لا يمكن لأيّ فقيه أن يعتمد عليه؟!

الثانية : أنّ الحديث على فرض صحّته لا يُثبت سوى ورود النهي من النبيّ ، ولكن النهي منه تحريمي ومنه تنزيهي . وبعبارة أُخرى : نهي تحريم ، ونهي كراهة . وقد استعمل النهي في كلمات الرسول في القسم الثاني كثيراً ، ولأجل ذلك حمله الفقهاء على الكراهة ، فترى الترمذي يذكر هذا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لاحظ في الوقوف على المتون المختلفة للحديث المصادر الّتي أوعزنا إليها .


( 63 )

الحديث في صحيحه تحت عنوان كراهية تجصيص القبور ، والسندي شارح صحيح ابن ماجة ينقل عن الحاكم النيسابوري أنّه لم يعمل بهذا النهي (بالمضمون التحريمي) أحد من المسلمين ، بدليل أنّ سيرة المسلمين قائمة على الكتابة على القبور .

وأمّا الكراهة فربّما تكون مرتفعة بالنسبة إلى المصالح العظيمة المترتّبة عليه ، كما إذا صار البناء على القبر سبباً لحفظ الآثار الإسلامية ، وإظهار المودّة لصاحب القبر الّذي فرض الله مودّته على الناس(1) ، أو يكون لاستظلال الزائر وتمكّنه من تلاوة القرآن وإهداء ثوابه إلى صاحب القبر ، إلى غير ذلك من الأُمور الّتي يتمكّن الإنسان منها تحت الظلّ لا تحت الشمس ولا في برد الليل ، فالنهي التنزيهي أشبه بالمقتضيات الّتي ترتفع بأقوى منها .

الثالثة : أحاديث ثلاثة في الميزان

فقد ورد في ذلك المجال أحاديث أُخر نذكرها بسندها ومتنها :

روى ابن ماجة في صحيحه ما يلي :

1 ـ حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا محمد بن عبد الله الرقاشي ، حدّثنا وهب ، حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن القاسم بن مخيمرة ، عن أبي سعيد : أنّ النبيّ نهى أن يُبنى على القبر(2) .

ويذكر ابن حنبل حديثاً آخر بسندين هما :

2 ـ حدّثنا حسن ، حدّثنا ابن لهيعة ، حدّثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن ناعم مولى أُمّ سلمة ، عن أُمّ سلمة قالت : نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن يُبنى على القبر أو يُجصّص .

3 ـ عليّ بن اسحاق ، حدّثنا عبد الله بن لهيعة ، حدّثني بريد بن أبي حبيب ، عن ناعم مولى أُمّ

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال سبحانه : (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )(الشورى : 23) .

(2) صحيح ابن ماجة 1  : 474 .


( 64 )

سلمة : أنّ النبيّ نهى أن يجصّص قبر أو يبنى عليه أو يجلس عليه(1) .

فسند الحديث الأوّل يشمل على (وهب) ، وهو مردّد بين سبعة عشر رجلا ، وفيهم الوضّاعون والكذّابون(2) .

والحديث الثاني والثالث لا يُحتجّ بهما ، لاشتمالهما على «عبد الله بن لهيعة» الّذي يقول فيه ابن معين : ضعيف لا يحتجّ به ، ونقل الحميدي عن يحيى بن سعيد : أنّه كان لا يراه شيئاً(3) .

هذه حال الأحاديث الّتي صارت ذريعة بيد الوهابيين لتدمير الآثار الإسلامية منذ أن استولوا على الحرمين الشريفين ، حيث لا تمرّ سنة إلاّ ويدمّر أثر من الآثار الإسلاميّة بحجّة توسيع الحرم الشريف ، حتّى المكتبات وبيوتات بني هاشم ومدارسهم ، وبيت مضيِّف النبي أبي أيّوب الأنصاري ، وفي الوقت نفسه يعكفون على حفظ آثار اليهود في خيبر وغيره ، حتّى بيت كعب بن الأشرف ذلك اليهودي الّذي أهدر دمه رسول الله ، وقتل بأمره غيلة باسم الحفاظ على الآثار التاريخية .

ثمّ إنّ القاضي ابن بليهد قد أعوزته الحجّة فتمسّك بكون البقيع مسبلة موقوفة ، وأنّ البناء على القبور مانع عن الانتفاع بأرضها .

سبحان الله ما أتقنها من برهنة؟ من أين علم أنّ البقيع كانت أرضاً حيّة وقفها صاحبها على دفن الأموات؟!

ومن أراد أن يقف على حال البقيع ، وأنّه لم يكن فيها يوم اُعدّت للتدفين أيّ أثر من الحياة ، فليرجع إلى كتاب «وفاء الوفا» .

آخر ما في كنانة المستدلّ

ذكر البخاري في صحيحه في باب كراهة اتّخاذ المساجد على القبور الخبر التالي :

لمّا مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبّة على قبره سنة ، ثمّ رفعت ، فسمعوا

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مسند أحمد 6  : 299 .

(2) ميزان الاعتدال 3  : 350-355 .

(3) ميزان الاعتدال 2  : 476; وتهذيب التهذيب 1  : 444 .


( 65 )

صالحاً يقول :

ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر : بل يئسوا فانقلبوا(1) .

إنّ هذا الخبر لو صحّ فهو على نقيض المطلوب أدلّ ، فهو يدلّ على جواز نصب المظلّة على القبر ، ولو كان ذلك حراماً لما صدر من امرأة الحسن بن الحسن ـ عليهما السلام ـ ; لأنّه كان بمرأى ومسمع من التابعين وفقهاء المدينة ، ولعلّها نصبت تلك القبّة لأجل تلاوة القرآن في جوار زوجها وإهداء ثوابها إلى روحه .

وأمّا قول الصالح فهو قول غير صالح ، كما أنّ الجواب أيضاً مثله ، لأنّه بصدد الشماتة; بامرأة افتقدت زوجها وهي مستحقّة للتعزية والتسلية لا الشماتة ، لأنّها ليست من أخلاق المسلمين ، ولم تكن المرأة تأمل عودة زوجها إلى الحياة حتّى يقال : إنّها يئست ، بل كان نصبها للمظلّة للغايات الدينية والأخلاقية ، والشامت والمجيب كانا من أعداء أهل البيت ، والعجب أنّ البخاري ينقله ولا يعلّق عليه شيئاً!

ترى هؤلاء الأغبياء يدمّرون آثار الرسالة وهم يتمسّكون في ذلك بركام من الأوهام ، ويسخرون من الذين أظهروا حبّاً لأهل بيت رسول الله الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وفرض مودّتهم وولاءهم وقال : ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)(2) .

إلى هنا تبيّن أنّه ليس للقوم دليل ، بل ولا شبهة على حرمة البناء على القبور ، وإنّهم لم يدرسوا صحاحهم ومسانيدهم حسبما درسها السلف الصالح .

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري 2  : 111 كتاب الجنائز; السنن للنسائي 2  : 171 كتاب الجنائز .

(2) الشورى : 23 .

 

 

شاهد أيضاً

كلام أميركي عن “ربط لبنان بسورية الجولاني”.. وثوابت لم ترد في “ورقة برّاك”

حسان الحسن أتت زيارة الموفد الأميركي توم برّاك، لبيروت، لتدحض كلّ ما سبقها من تهويلٍ ...