تجليات رحمانية
وصية الإمام إلى السالكين
وصية إلهية عرفانية سلوكية للإمام إلى إبنه السيد أحمد (رحمه الله)، يذكر فيها أمهات المسائل التوحيدية والعملية. نشرت أول مرة في لبنان في مجلة الرصد التابعة للمستشارية الثقافية مع كثير من الأخطاء، ثم أعيد نشرها في مجلة “بقية الله” مع بعض التصحيحات.
وقد عثرت على أصلها الفارسي مؤخرا وأعدت تصحيح ترجمتها المليئة بالأخطاء.
من المهم أن يلتفت القارئ إلى أن هذه الوصية بمعظمها تنقسم إلى قسمين متداخلين: الحقائق والوصايا العملية. وما لم ندرك الحقائق لا نستفيد من الوصايا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآلة الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.
أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأن عليّاً أمير المؤمنين
وأولاده المعصومين صلوات الله عليهم خلفاؤه وأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حقٌ، وأن القبر والنشور والجنة والنار حقٌ وأن الله يبعث من في القبور.
وصية من أب عجوز أهدر عمره ولم يتزوّد للحياة الأبدية ولم يخط خطوةٌ خالصةٌ لله المنان، ولم ينج من الأهواء النفسانية والوساوس الشيطانية، لكنه غير آيس من فضل وكرم الكريم تعالى وهو يأمل بعطف وعفو الباري جلَّ وعلا، ولا زاد له سوى هذا.. إلى إبن يتمتّع بنعمة الشباب متاحة أمامه فرصة لتهذيب النفس وللقيام بخدمة خلق الله، والأمل أن يرضى الله تعالى عنه، كما رضي عنه أبوه، وأن يُوفَّق لخدمة المحرومين الذين يستحقون أكثر من بين جماهير الشعب وقد أوصى بهم الإسلام.
بُنيّ أحمد – رزقك الله هدايته:
إعلم، أن العالم سواء كان أزلياً وأبدياً أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أم لا، فإنّها جميعا محتاجةٌ، لأن الوجود ليس ذاتياً لها، ولو تفكرت وأحطت عقليا بجميع السلاسل غير المتناهية فإنك ستدرك الفقر الذاتي والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الوجود الموجود بذاته والذي تمثل الكمالات عين ذاته. ولو تمكنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقليا وسألتها:
أيتها الموجودات الفقيرة، من يستطيع تأمين احتياجاتكم؟
فإنها ستردُّ جميعا بلسان الفطرة: “إننا محتاجون إلى من ليس محتاجاً مثلنا إلى الوجود، وكمال الوجود”. وهذه الفطرة أيضاً ليست من ذاتها، ففطرة التوحيد {.. فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ..}(الروم/30) من الله، والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدل إلى غنية بذاتها، فمثل هذا التبديل غير ممكن الوقوع، ولأنها فقيرى بذاتها ومحتاجه، فلن يستطيع سوى الغني بذاته أن يرفع فقرها واحتياجها. كما أن هذا الفقر الذي هو لازم ذاتي لها، هو صفة دائمة أيضا، سواء كانت هذه السلسلة أبدية أم لا، أزلية أم لا، وليس سواه تعالى من يستطيع حل مشاكلها وتأمين احتياجاتها. كذلك فإن أيّ كمال أو جمال ينطوي عليه أي موجود ليس منه ذاتا، إنما هو مظهر لكمال الله تعالى وجماله {.. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..}(الأنفال/17) حقيقةٌ تصدق على كل شيء وكل فعل وكل قول وإن كلُّ من يدرك هذه الحقيقة ويتذوقها، لن يتعلق قلبه بغير الله تعالى، ولن يرجوَ غيره تعالى.
هذه بارقةٌ إلهية، حاول أن تفكر فيها في خلواتك، ولقن قلبك الرقيق وكررها عليه إلى أن ينصاع اللسان لها، وتسطع هذه الحقيقة في ملك وملكوت وجودك. وارتبط بالغنيّ المطلق حتى تستغني عمن سواه، واطلب
التوفيق منه حتى يجذبك من نفسك ومن جميع من سواه، ويأذن لك بالدخول والتشرف بالحضور.
ولدي العزيز:
إن الله جلّ وعلا {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ..}(الحديد/3) “أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا”(4- مقطع من دعاء الإمام الحسين يوم عرفة).
أنت لم تكن غائـباً لكي أرجـو رؤيـاك
أنت لم تكن بعيدا حتى أبحث عنك(5- بيت شعر من ديوان فروغي البسطامي)
فهو ظاهر، وكل ظهور هو ظهور له، ونحن بذاتنا حجب. فأنانيتنا وإنيّتنا هي التى تحجبنا “أنت حجاب نفسك، فانطلق منه يا حافظ”(6- مقطع من بيت شعر لحافظ الشيرازي) .
فلنلذ به ولنطلب منه -تبارك وتعالى- متضرعين مبتهلين أن ينجينا من الحجب “إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزِّ قدسك، إلهي واجعلنى ممن ناديته فأجابك، ولاحظته فصعق لجلالك”(7- مقطع من المناجاة الشعبانية).
يتبع —