الرئيسية / من / طرائف الحكم / سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي

سنن النبي (صلى الله عليه وآله) العلامة الطباطبائي

[62]

بل إمحاء الآثار السيئة التي كان يستتبعها الظلم على النفس في مجرى الحياة، فقد كان موسى (عليه السلام) يخاف أن يفشو أمره ويظهر ما هو ذنب له عندهم، فسأله تعالى أن يستر عليه ويغفره، والمغفرة في عرف القرآن أعم من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السئ كائنا ما كان، ولا ريب أن أمر الجميع بيد الله سبحانه. ونظير هذا من وجه قول نوح (عليه السلام) فيما تقدم من دعائه ” وإن لم تغفر لي وترحمني ” أي وإن لم تؤدبني بأدبك، ولم تعصمني بعصمتك ووقايتك وترحمني بذلك أكن من الخاسرين، فافهم ذلك. ومنه دعاؤه (عليه السلام) أول ما القي إليه الوحي وبعث بالرسالة إلى قومه على ما حكاه الله، قال تعالى: ” قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا ” (1). ينصح (عليه السلام) لما بعث لها من الدعوة الدينية ويذكر لربه – على ما يفيده الكلام بإعانة من المقام – إنك كنت بصيرا بحالي أنا وأخي، أنا منذ نشأنا نحب تسبيحك، وقد حملتني الليلة ثقل الرسالة وفي نفسي من الحدة وفي لساني من العقدة ما أنت أعلم به، وإني أخاف أن يكذبوني إن دعوتهم إليك وبلغتهم رسالتك، فيضيق صدري ولا ينطلق لساني، فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وهذا رفع التحرج الذي ذكره الله بقوله: ” ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل ” (2) واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، وأخي هارون أفصح مني لسانا وهو من أهلي فأشركه في هذا الأمر واجعله وزيرا لي، كي نسبحك – كما كنا نحبه – كثيرا ونذكرك عند ملأ الناس بالتعاضد كثيرا، فهذا محصل ما سأله (عليه السلام) ربه من أسباب الدعوة والتبليغ. والأدب الذي استعمل فيه أن ذكر غايته وغرضه من أسئلته لئلا يوهم كلامه أنه يسأل ما يسأل لنفسه فقال: ” كي نسبحك كثيرا *

(1) طه: 25 – 35. (2) الأحزاب: 38.

[63]

ونذكرك كثيرا ” واستشهد على صدقه في دعواه بعلم الله نفسه بإلقاء أنفسهما بين يديه وعرضها عليه فقال: ” إنك كنت بنا بصيرا ” وعرض السائل المحتاج نفسه في حاجتها على المسؤول الغني الجواد من أقوى ما يهيج عاطفة الرحمة لأنه يفيد إراءة نفس الحاجة فوق ما يفيده ذكر الحاجة باللسان الذي لا يمتنع عليه أن يكذب. ومنه ما حكى الله عنه مما دعا به على فرعون وملئه إذ قال: ” وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد اجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ” (1). الدعاء لموسى وهارون ولذلك صدر بكلمة ” ربنا ” ويدل على ما في الآية التالية: ” قال قد اجيبت دعوتكما ” دعيا أولا على أموالهم أن يطمس الله عليها ثم على أنفسهم أن يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فلا يقبل إيمانهم كما قال تعالى: ” يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ” (2) أي انتقم منهم بتحريم الإيمان عليهم بمفاجأة العذاب كما حرموه على عبادك بإضلالهم. وهذا أشد ما يمكن أن يدعى به على أحد، فإنه الدعاء بالشقوة الدائمة ولا شئ شرا منه بالنسبة إلى إنسان. والدعاء بالشر غير الدعاء بالخير حكما، فإن الرحمة الإلهية سبقت غضبه، وقد قال لموسى فيما أوحى إليه: ” عذابي اصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ ” (3) فسعة الرحمة الإلهية تقضي بكراهية إصابة الشر والضر لعبد من عباده وإن كان ظالما، ويشهد بذلك ما يفيض الله سبحانه من نعمه عليهم وسترهم بكرمه وأمره عباده بالحلم والتصبر عند جهالتهم وخرقهم، اللهم إلا في إقامة حق لازم، أو عند اضطرار في مظلمة إذا كانوا على علم بأن مصلحة ملزمة كمصلحة الدين أو

(1) يونس: 88 و 89. (2) الأنعام: 158. (3) الأعراف: 156.

[64]

أهل الدين تقتضي ذلك. على أن جهات الخير والسعادة كلما كانت أرق لطافة وأدق رتبة كانت أوقع عند النفوس بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، بخلاف جهات الشر والشقاء، فإن الإنسان بحسب طبعه يفر من الوقوف عليها، ويحتال أن لا يلتفت إلى أصلها فضلا عن تفاصيل خصوصياتها، وهذا المعنى يوجب اختلاف الدعاءين، أعني الدعاء بالخير والدعاء بالشر من حيث الآداب. فمن أدب الدعاء بالشر أن تذكر الامور التي بعثت إلى الدعاء بالتكنية وخاصة في الامور الشنيعة الفظيعة بخلاف الدعاء بالخير، فإن التصريح بعوامل الدعاء فيه هو المطلوب، وقد راعاه (عليه السلام) في دعائه حيث قال: ” ليضلوا عن سبيلك ” ولم يأت بتفاصيل ما كانت تأتي به آل فرعون من الفظائع. ومن أدبه الإكثار من الاستغاثة والتضرع، وقد راعاه فيما يقول: ” ربنا ” وتكرره مرات في دعائه على قصره. ومن أدبه أن لا يقدم عليه إلا مع العلم بأنه على مصلحة الحق من دين أو أهله من دون أن يجري على ظن أو تهمة، وقد كان (عليه السلام) على علم منه، وقد قال الله فيه: ” ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى ” (1) وكأنه لذلك أمره الله سبحانه وأخاه عند ما أخبرهما بالإستجابة بقوله: ” فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ” والله أعلم. ومن دعاء موسى ما حكاه الله عنه في قوله: ” واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك ” (2). يبتدئ الدعاء من قوله: ” فاغفر لنا… الخ ” غير أن الموقف لما كان موقفا

(1) طه: 56. (2) الأعراف: 155 و 156.

[65]

صعبا قد أخذهم الغضب الإلهي والبطش الذي لا يقوم له شئ، وما مسألة المغفرة والرحمة من سيد ساخط قد هتكت حرمته واهين على سؤدده كمسألة من هو في حال سوي، فلذلك قدم (عليه السلام) ما تسكن به فورة الغضب الإلهي حتى يتخلص إلى طلب المغفرة والرحمة. فقال: ” رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ” يريد (عليه السلام) – كما تدل عليه قرينة المقام – رب إن نفسي ونفوسهم جميعا قبض قدرتك وطوع مشيئتك، لو شئت أهلكتهم وأنا فيهم قبل اليوم كما أهلكتهم اليوم وأبقيتني، فماذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم واتهموني بأني قتلتهم، وحالهم ما أنت أعلم به ؟ وهذا يبطل دعوتي ويحبط عملي. ثم عد (عليه السلام) إهلاك السبعين إهلاكا له ولقومه، فذكر أنهم سفهاء من قومه لا يعبأ بفعلهم، فأخذ ربه برحمته حيث لم يكن من عادته تعالى أن يهلك قوما بفعل السفهاء منهم. وليس ذلك إلا موردا من موارد الامتحان العام الذي لا يزال جاريا على الإنسان فيضل به كثير، ويهتدي به كثير، ولم تقابلها إلا بالصفح والستر. وإذ كان بيدك أمر نفسي ونفوسنا تقدر على إهلاكنا متى شئت، وكانت هذه الواقعة غير بدع في مسير امتحانك العام الذي يعقب ضلال قوم وهداية آخرين، ولا ينتهي إلا إلى مشيئتك، فأنت ولينا الذي يقوم بأمرك ومشيئتك تدبير امورنا، ولا صنع لنا فيها، فاقض فينا بالمغفرة والرحمة، فإن من جملة صفاتك أنك خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا عيشة آمنة من العذاب، وهي التي يستحسنها من أحاط به غمر السخط الالهي، وفي الآخرة حسنة بالمغفرة والجنة. وهذا ما ساقه (عليه السلام) في مسألته، وقد أخذتهم الرجفة وشملتهم البلية، فانظر كيف استعمل جميل أدب العبودية واسترحم ربه، ولم يزل يستوهب الرحمة، ويسكن بثنائه فورة السخط الإلهي حتى اجيب إلى ما لم يذكره من الحاجة بين ما ذكره، وهو إعادة حياتهم إليهم بعد الإهلاك، واوحي إليه بما حكاه الله تعالى: ” قال عذابي اصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون

[66]

ويوتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ” (1) فما ظنك به تعالى بعد ما قال لموسى (عليه السلام) جوابا لمسألته: ” ورحمتي وسعت كل شئ ” ؟ وقد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء، وإجابته إلى مسألة موسى (عليه السلام) بإعادة الحياة إليهم وقد اهلكوا وردهم إلى الدنيا بقوله: ” وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ” (2) ويقرب من ذلك ما في سورة النساء. وقد استعمل (عليه السلام) من الأدب في كلامه حيث قال: ” تضل بها من تشاء ” لم يذكر أن ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالين لينزهه تعالى لفظا كما كان ينزهه قلبا فيكون على حد قوله تعالى: ” يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ” (3) لأن المقام كان يصرفه عن التعرض إلا لكونه تعالى وليا على الإطلاق ينتهي إليه كل التدبير لا غير. ولم يورد في الذكر أيضا عمدة ما في نفسه من المسألة وهو أن يحييهم الله سبحانه بعد الإهلاك لأن الموقف على ما كان فيه من هول وخطر كان يصرفه عن الاسترسال، وإنما أشار إليه إشارة بقوله: ” رب لو شئت أهلكتهم وإياي… الخ “. ومن دعائه (عليه السلام) ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده، وقد كان الله سبحانه أخبره بذلك، قال تعالى: ” وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن ام إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ” (4) فعند ذلك رق له ودعا له ولنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين: ” قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ” (5). ولم يكن يريد التميز منهم وأن يدخلهما الله في رحمته إلا لما كان يعلم أن

(1) الاعراف: 156. (2) البقرة: 55 و 56. (3) البقرة: 26. (4) الأعراف: 150. (5) الأعراف: 151.

[67]

الغضب الإلهي سينال القوم لظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك: ” إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ” (1) ويعرف بما تقدم وجوه من الأدب في كلامه. ومن دعائه (عليه السلام) – وهو في معنى الدعاء على قومه إذ قالوا له حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة: ” يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ” (2) – ما حكاه الله تعالى بقوله: ” قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ” (3). وقد أخذ (عليه السلام) بالأدب الجميل حيث كنى عن الإمساك عن أمرهم وتبليغهم أمر ربهم ثانيا بعد ما جبهوا أمره الأول بأقبح الرد وأشنع القول بقوله: ” رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ” أي لا يطيعني فيما أمرته إلا نفسي وأخي أي إنهم ردوا علي بما لا مطمع فيهم بعده، فها أنا أكف عن أمرهم بأمرك وإرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم. وإنما نسب ملك نفسه وأخيه إلى نفسه لأن مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة، ولو كان هو الملك التكويني لم ينسبه إلى نفسه إلا مع بيان أن حقيقته لله سبحانه، وإنما له من الملك ما ملكه الله إياه. ولما عرض لربه من نفسه الإمساك واليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال: ” فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين “. ومن ذلك ما دعا به شعيب (عليه السلام) على قومه إذ قال: ” ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ” (4). وهذا استنجاز منه للوعد الإلهي بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم، ومسألة للقضاء بينه وبينهم بالحق على ما قال الله تعالى: ” ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ” (5).

(1) الأعراف: 152. (2) المائدة: 24. (3) المائدة: 25. (4) الأعراف: 89. (5) يونس: 47.

[68]

وإنما قال ” بيننا ” لأنه ضم المؤمنين به إلى نفسه، وقد كان الكافرون من قومه هددوا إياه والمؤمنين به جميعا إذ قالوا: ” لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ” (1) فضمهم إلى نفسه وهاجر قومه في عملهم وسار بهم إلى ربه وقال: ” ربنا افتح بيننا… الخ “. وقد استمسك في دعائه باسمه الكريم: ” خير الفاتحين ” لما مر أن التمسك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الإقسام، وهذا بخلاف قول موسى (عليه السلام): ” رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ” المنقول آنفا، لما تقدم أن لفظه (عليه السلام) ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الإمساك عن الدعوة وإرجاع للأمر إلى الله فلا مقتضي للإقسام بخلاف قول شعيب. ومن ذلك ما حكاه الله من ثناء داود وسليمان (عليهما السلام) قال تعالى: ” ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ” (2). وجه الأدب في حمدهما وشكرهما ونسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر، فلم يقولا مثل ما حكي عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الأرض بماله: ” إنما اوتيته على علم عندي ” (3) وكما حكى الله عن قوم آخرين: ” فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ” (4). ولا ضير في الحمد على تفضيل الله إياهما على كثير من المؤمنين، فإنه من ذكر خصوص النعمة وبيان الواقع، وليس ذلك من التكبر على عباد الله حتى يلحق به ذم، وقد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل ومدحهم على علو طبعهم وسمو همتهم حيث قال: ” والذين يقولون ربنا – إلى أن قال -: واجعلنا للمتقين إماما ” (5).

(1) الأعراف: 88. (2) النمل: 15. (3) القصص: 78. (4) غافر: 83. (5) الفرقان: 74.

[69]

ومن ذلك ما حكاه عن سليمان (عليه السلام) في قصة النملة بقوله: ” حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ” (1). ذكرته النملة بما قالته ماله من الملك العظيم الذي شيدت أركانه بتسخير الريح تجري بأمره، والجن يعملون له ما يشاء، والعلم بمنطق الطير وغيره، غير أن هذا الملك لم يقع في ذكره (عليه السلام) في صورة أجلى امنية يبلغها الإنسان كما فينا ولم ينسه عبوديته ومسكنته، بل إنما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربه فذكر ربه ونعمته التي أنعمها عليه وعلى والديه بما خصهم به، وهو من مثله (عليه السلام) والحال هذا الحال أفضل الأدب مع ربه. وقد ذكر نعمة ربه، وهي وإن كانت كثيرة في حقه غير أن مورد نظره (عليه السلام) – والمقام ذاك المقام – هو الملك العظيم والسلطة القاهرة، ولذلك ذكر العمل الصالح وسأل ربه أن يوزعه ليعمل صالحا، لأن العمل الصالح والسيرة الحسنة هو المطلوب ممن استوى على عرش الملك. فلذلك كله سأل ربه أولا أن يوزعه على شكر نعمته، وثانيا أن يعمل صالحا، ولم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيده بقوله: ” ترضاه ” فإنه عبد لا شغل له بغير ربه، ولا يريد الصالح من العمل إلا لأن ربه يرضاه، ثم تمم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال: ” وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين “. ومن ذلك ما حكاه الله عن يونس (عليه السلام) وقد دعا به وهو في بطن الحوت الذي التقمه قال تعالى: ” وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ” (2).

(1) النمل: 18 و 19. (2) الأنبياء: 87.

[70]

كان (عليه السلام) – على ما يقصه القرآن – قد سأل ربه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به، فلما أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربهم فرفع عنهم العذاب، ولما شاهد يونس ذلك ترك قومه وذهب لوجهه حتى ركب السفينة، فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه وينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فالقي في البحر فالتقمه الحوت، فكان يسبح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، ولم يكن ذلك إلا تأديبا إلهيا يؤدب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم، وقد قال تعالى: ” فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ” (1) فكان حاله في تركه العود إلى قومه، وذهابه لوجهه يمثل حال عبد أنكر على ربه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه وترك خدمته وما هو وظيفة عبوديته، فلم يرتض الله له ذلك فأدبه، فابتلاه وقبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. ولم يكن ذلك كله إلا لأن يتمثل له على خلاف ما كان يمثله حاله أن الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه ويحبسه حيث شاء، وأن يصنع به ما شاء فلا مهرب من الله سبحانه إلا إليه، ولذلك لقنه الحال الذي تمثل له وهو في سجنه من بطن الحوت أن يقر لله: بأنه هو المعبود الذي لا معبود غيره، ولا مهرب عن عبوديته فقال: ” لا إله إلا أنت ” ولم يناده تعالى بالربوبية، وهذا أوحد دعاء من أدعية الأنبياء (عليهم السلام) لم يصدر باسم الرب. ثم ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إياهم بما أنزل عليهم من العذاب، فأثبت الظلم لنفسه ونزه الله سبحانه عن كل ما فيه شائبة الظلم والنقص فقال: ” سبحانك إني كنت من الظالمين “. ولم يذكر مسألته – وهي الرجوع إلى مقامه العبودي السابق – عدا لنفسه دون

(1) الصافات: 143 و 144.

[71]

لياقة الاستعطاء واستحقاق العطاء استغراقا في الحياء والخجل، والدليل على مسألته قوله تعالى بعد الآية السابقة: ” فاستجبنا له ونجيناه من الغم ” (1). والدليل على أن مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى: ” فنبذناه بالعراء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فآمنوا به فمتعناهم إلى حين ” (2). ومن ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوب (عليه السلام) بعد ما أزمنه المرض وهلك عنه ماله وولده حيث قال: ” وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ” (3). وجوه التأدب فيه ظاهرة مما تقدم بيانه، ولم يذكر (عليه السلام) حاجته صريحا على حد ما تقدم من أدعية آدم ونوح وموسى ويونس (عليهم السلام) هضما لنفسه واستحقارا لأمره، وأدعية الأنبياء كما تقدم ويأتي خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان مما يرجع إلى امور الدنيا وإن كانوا لا يريدون شيئا من ذلك اتباعا لهوى أنفسهم. وبوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمس الضر والصفة الموجودة في المسؤول المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين، والسكوت عن ذكر نفس الحاجة أبلغ كناية عن أن الحاجة لا تحتاج إلى ذكر، فإن ذكرها يوهم أن الأسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين، بل يحتاج إلى تأييد بالذكر وتفهيم باللفظ. ومن ذلك ما حكاه عن زكريا (عليه السلام): حيث قال: ” ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا ” (4). إنما حثه على هذا الدعاء ورغبه في أن يستوهب ولدا من ربه ما شاهده

(1) الأنبياء: 88. (2) الصافات: 145 – 148. (3) الأنبياء: 83. (4) مريم: 2 – 6.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...