الرئيسية / بحوث اسلامية / لِيَعۡبُدُونِ ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾

لِيَعۡبُدُونِ ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾

لِيَعۡبُدُونِ

﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

إنّ مكانة الإنسان، إنّما تتقوّم بقدر ما يكون عابداً لله ومرتبطاً به سبحانه؛ فبذلك يحقّق الحال التي ينبغي أن يكون عليها، ويكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾[1]، ولا يُقتصر في ذلك على الصلاة والصيام وبعض العبادات الأخرى فحسب، إنّما أيضاً في نمط تفكيره ونواياه وعلاقته بالناس من حوله، في أن يكون في ذلك كلّه متوجّهاً إلى الباري سبحانه، ومستنداً إلى ما يحبّه ويرضاه، وتكون الغاية لديه في ما يقوم به من عملٍ حسن رضاه والقرب منه جلّ وعلا.

 


[1] سورة الذارايات، الآية 56.

 

7


1

المقدّمة

ثمّة العديد من مظاهر العبوديّة الحقّة وتجلّياتها ومصاديقها، لا يسع المقام لذكرها جميعاً، لذا آلينا في هذا الكتاب «لِيَعبُدُونِ» إيرادَ بعض الموضوعات المرتبطة بذلك، وبيانَها بأسلوب سهل وبسيط، استناداً إلى القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، لنضعها بين أيدي العلماء والمبلِّغين الكرام، عسى أن تكون مادّةً لائقةً للاستفادة منها في الوعظ والتبليغ، سائلين المولى سبحانه أن يوفّقنا جميعاً لنكون عباداً حقيقيّين، وأن يتقبّل منّا ومنكم صالح الأعمال.

 

 

مركز المعارف للتأليف والتحقيق

 

8


2

الموعظة الأولى: غاية الخلق

الموعظة الأولى

 

غاية الخلق

 

هدف الموعظة

معرفة الهدف الأساس من الخلق، وتوجيه العلاقة مع الدنيا.

 

محاور الموعظة

1- الكون مخلوق بحكمة وهدف

2- الرؤية الإسلاميّة للهدف من الخلق

3- ولا تنسَ نصيبك من الدنيا

4- اللّهو المذموم واللّهو الهادف

 

تصدير الموعظة

الإمام عليّ عليه السلام: “إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه وتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ، غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لأَنَّه لَا تَضُرُّه مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاه، ولَا تَنْفَعُه طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَه”[1].

 


[1] الرضيّ، السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسن الموسويّ، نهج البلاغة (خطب الإمام عليّ عليه السلام)، تحقيق وتصحيح صبحي الصالح، لا.ن، لبنان – بيروت، 1387هـ – 1967م، ط1، ص303.

 

9


3

الموعظة الأولى: غاية الخلق

قد يتبادر إلى الأوهام أنّ ما يأتي به المتّقون من مزايا الأعمال والصالحات وما كلّفهم اللّه سبحانه به من محامد الخصال والقربات، إنّما هو لحاجة منه إليها، لذا مهّد الإمام عليه السلام بهذه المقدّمة في خطبة “المتّقين”، منبّهاً إلى كونه سبحانه منزّهاً عن ذلك، متعالياً عن صفات النقص والحاجة، وأنّه لم يكن غرضه من الخلق والإيجاد جلب منفعة له أو دفع مضرّة عنه كما هو شأن البشر، فاللّه الحيّ القيّوم الغنيّ المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ﴾[1].

 

الكون مخلوق بحكمة وهدف

يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾[2].

 

إنّ الله تعالى خلق الخلق غنيّاً عنهم، منزَّهاً عن الحاجة

 


[1] سورة فاطر، الآية 15.

[2] سورة الأنبياء، الآيات 16-18.

 

10


4

الموعظة الأولى: غاية الخلق

إليهم، وإنّ عدم وجود غرض يعود إليه تعالى لا يعني عبثيّة الخلق، والتي تنافي الحكمة الإلهيّة، قال تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[1]، والعبث يُطلق على الشيء الذي لا غاية حقيقيّة له، وهو في قِبال الحكمة. إنّ الإنكار هنا بمعنى أنّكم حسبتم أنّه لا حكمة في خلقكم.

 

وإنّ أيّ فعل لا بدّ من أن يكون باتّجاه هدف معيّن، وطبيعيّ أن بعثة الأنبياء عليه السلام كانت تستهدف كمال الإنسان. وممّا صرحت به الشرائع أنّ الأنبياء جاؤوا ليعينوا الإنسان، ويأخذوا بيده إلى الكمال.

 

إنّ في حياة الإنسان نقصاً وخللاً لا يمكن للإنسان الفرديّ، بل وحتّى الإنسان الاجتماعيّ أن يسدّه بمعونة طاقات الأفراد العاديّين، فيتعيّن عليه الاستعانة بالوحي.

 

الرؤية الإسلاميّة للهدف من الخلق

يقول تعالى: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى﴾[2]، فما هو الهدف من الخلق؟

 


[1] سورة المؤمنون، الآية 115.

[2] سورة القيامة، الآية 36.

 

11


5

الموعظة الأولى: غاية الخلق

قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾[1]، أي إنّ الغاية من خلق الجنّ والإنس هي العبادة، فما معنى هذا الهدف؟ وما الفائدة منها؟

 

عن ابن أبي عمير قال: قلتُ لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “اعملوا، فكلٌّ ميسّر لما خُلِق له”؟ فقال: “إنّ الله عزّ وجلّ خلق الجنّ والإِنس ليعبدوه، ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾، فيسَّر كُلّاً لما خُلِق له، فويلٌ لمن استحبّ العمى على الهدى!”[2].

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: “خرج الحسين بن عليّعليه السلام على أصحابه، فقال: إنّ الله عزّ وجلّ ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة مَن سواه”[3].

 


[1] سورة الذاريات، الآية 56.

[2] المجلسيّ، العلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، مؤسسة الوفاء، لبنان – بيروت، 1403هـ – 1983م، ط2، ج5، ص157.

[3] المصدر نفسه، ج5، ص312.

 

12


6

الموعظة الأولى: غاية الخلق

وثمّة إشارات وردت في آيات عدّة من القرآن الكريم تبيّن الهدف من خلق الإنسان أو الكون، وقد تبدو مختلفة، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنّها ترجع إلى حقيقة واحدة، نذكر منها:

1- العبادة، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾[1].

 

2- الامتحان والتمحيص، قال تعالى: ﴿َهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[2].

 

3- الرحمة الإلهيّة، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ﴾[3].

     

4- العلم والمعرفة بصفات الله، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾[4].

 


[1] سورة الذاريات، الآية 56.

[2] سورة هود، الآية 7.

[3] سورة هود، الآية 119.

[4] سورة الطلاق، الآية 12.

 

13


7

الموعظة الأولى: غاية الخلق

إنّ تأمّلاً بسيطاً في هذه الآيات يرينا أنّ بعضها مقدّمة لبعضها الآخر، فالعلم والمعرفة مقدّمة للعبوديّة، والعبادة مقدّمة للامتحان وتكامل الإنسان، وهذا مقدّمة للاستفادة من رحمة الله.

 

ويُمكن القول: إنّ الهدفَ من خلقنا تكاملُنا وارتقاؤنا، وذلك يحصل بمعرفتنا لخالقنا وبعبادته أي طاعته، فبطاعته نتكامل ونسلك طريق الحكمة، وبعصيانه نتسافل إلى الحيوانيّة والشهوانيّة واللّغويّة واللّاهدفيّة.

 

ولا تنسَ نصيبك من الدنيا

إنّ ما مرّ من هدفيّة الخلق، وأنّ الأساس في حياة الإنسان الطاعة والعبادة، لا يعني النظر إلى ما وراء الدنيا فقط، فالإسلام دين يُحاكي فطرة الإنسان وطبيعته، ويُعطي لكلِّ شيء حقّه، وللإنسان جنبة مادّيّة تجب مراعاتها، وإذا لم تُراعَ أدّت إلى ردّة فعل عكسيّة.

 

عن الإمام عليّ عليه السلام: “روّحوا قلوبكم، فإنّها إذا أُكرهت عميت”[1].

 


[1] الأحسائيّ، ابن أبي جمهور، عوالي اللّئالي العزيزيّة في الأحاديث الدينيّة، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقيّ، دار سيد الشهداء للنشر، إيران – قم، 1403هـ – 1983م، ط1، ج3، ص296.

 

14


8

الموعظة الأولى: غاية الخلق

وروي عنه أيضاً: “إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وإِقْبَالًا وإِدْبَاراً، فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وإِقْبَالِهَا، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِه عَمِيَ”[1].

 

اللّهو المذموم واللّهو الهادف

يقول تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[2].

 

واللّهو كلُّ عمل يصرف الإنسان عن مسائل الحياة الأساسيّة، أمّا اللّعب فيُطلق على الأعمال الّتي فيها نوع من النظم الخياليّ، والهدف الخياليّ، ففي اللّعب مثلاً يكون أحد اللّاعبين ملكاً، والآخر وزيراً، والثالث قائداً للجيش، والرابع سارقاً، وبعد انتهاء اللّعب المؤقّت يعود كلُّ شيء إلى مكانته.

 

ثمّة روايات تذمّ حالة اللّهو اللاغي، الّتي تُنسي الإنسان مسؤوليّاته الجادّة، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “اللّهو من ثمار الجهل”[3]، وعنه عليه السلام: “لم يعقِل من وَلِه باللّعب، واستهتر باللّهو والطرب”[4].

 


[1] السيّد الرضي، نهج البلاغة (تحقيق صالح، مصدر سابق، ص 503.

[2] سورة العنكبوت، الآية 64.

[3] اللّيثيّ الواسطيّ، الشيخ كافي الدين عليّ بن محمّد، عيون الحكم والمواعظ، تحقيق الشيخ حسين الحسينيّ البيرجنديّ، دار الحديث، إيران – قم، 1418هـ، ط1، ص61.

[4] المصدر نفسه، ص414.

 

15


9

الموعظة الأولى: غاية الخلق

وفي المقابل ثمّة أحاديث تُشير إلى نماذج من اللّهو الهادف الّذي يُرفِّه الإنسان المؤمن به عن نفسه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “عليكم بالرمي، فإنّه خير لهوكم”[1].

 

إذاً، على الإنسان المؤمن أن يكون جادّاً حكيماً في الحياة، ولكن لا يعني ذلك ترك الدنيا وإعمارِها وبنائِها.

 


[1] المتّقي الهنديّ، علاء الدين عليّ المتقيّ بن حسام الدين، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، ضبط وتفسير الشيخ بكري حياني- تصحيح وفهرسة الشيخ صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، لبنان – بيروت، 1409هـ – 1989م، لا.ط، ج4، ص351.

 

16


10

الموعظة الثانية: العبادة وثمارها

الموعظة الثانية

 

العبادة وثمارها

 

 

 

هدف الموعظة

بيان مفهوم العبادة في آيات القرآن الكريم والسنّة الشريفة، ومدى تأثيرها في حياة الإنسان الدنيويّة وعلاقته بالله.

 

محاور الموعظة

1. عبادة الله في الآيات والروايات

2. العبادة لا تنحصر بالطقوس

3. ثمرة العبادة

 

تصدير الموعظة

الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها وأحبّها بقلبه، وباشرها بجسده، وتفرّغ لها، فهو لا يُبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسرٍ أم على يسرٍ”[1].

 


[1] الكلينيّ، الشيخ محمّد بن يعقوب بن إسحاق، الكافي، تحقيق وتصحيح عليّ أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، إيران – طهران، 1363ش، ط5، ج2، ص83.

 

17


11

الموعظة الثانية: العبادة وثمارها

عبادة الله في الآيات والروايات

دعا القرآن الكريم في كثير من آياته إلى العبادة السليمة، ونهى عن العبادة المنحرفة، وذكر أنّ غاية الخلق هي العبادة، وذكر بعض آثار العبادة على الإنسان، وهنا نورد بعضاً من هذه الآيات:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾[1]، ففي هذه الآية الكريمة دعوة للناس إلى عبادة الله الخالق.

 

وفي آية أخرى نجد نهياً عن عبادة الشيطان: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾[2].

 

وكذلك نجد أمراً بالإخلاص في العبادة: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ﴾[3].

 


[1] سورة البقرة، الآية 21.

[2] سورة يس، الآيات 60-62.

[3] سورة الزمر، الآية 11.

 

18


12

الموعظة الثانية: العبادة وثمارها

ونرى في مورد آخر دعوةً للمؤمنين لإعلان الثبات على عبادة الله وترك عبادة ما سواه: ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡكَٰفِرُونَ * لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ * وَلَآ أَنتُمۡ عَٰبِدُونَ مَآ أَعۡبُدُ﴾[1].

 

أمّا في الأحاديث، فقد حُدِّد مفهوم العبادة تحديداً شاملاً، وذُكرت الغاية من منها، وأنواع العابدين، ومن هو العابد حقّاً، ولم تحصرها في إطار العبادات المتعارفة بين الناس، وممّا ورد في ذلك:

سُئل الإمام الرضا عليه السلام عن علّة العبادة، فقال: “… لئلّا يكونوا ناسين لذكره ولا تاركين لأدبه، ولا لاهين عن أمره ونهيه، إذا كان فيه صلاحهم وقوامهم، فلو تُركوا بغير تعبُّدٍ لطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم”[2].

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: “ليس العبادة هي السجود ولا الركوع، إنّما هي طاعة الرجال، من أطاع المخلوق في معصية الخالق فقد عبده”[3].

 


[1] سورة الكافرون، الآيتان 1و2.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص63.

[3] المصدر نفسه، ج68، ص116.

 

19


13

الموعظة الثانية: العبادة وثمارها

العبادة لا تنحصر بالطقوس

العبادة في الحقيقة اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يُحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وهي تتضمّن غاية الذلّ لله تعالى مع المحبّة له. وهذا المدلول الشامل للعبادة في الإسلام هو مضمون دعوة الرسل عليه السلام جميعاً، وهو ثابتٌ من ثوابت رسالاتهم عبر التاريخ، فما من نبيٍّ إلّا أمر قومه بالعبادة، قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾[1].

 

وعبادة الله لا تنحصر في الطقوس والممارسات التي تتعلّق بحياة الإنسان كفردٍ مستقلٍّ بذاته، بل تشمل الحياة الفرديّة والحياة الاجتماعيّة، وتنتظم في إطار علاقة الفرد مع الله تعالى والعلاقة مع النفس، والعلاقة مع الآخرين، والعلاقة مع الكون. وكلّ عملٍ حسنٍ يُقصد به وجه الله هو عبادة، سواءٌ أكان فرديّاً أم اجتماعيّاً، فالصلاة، والصدقة، والجهاد، والتفكّر في خلق الله، ومساعدة الضعيف، وإصلاح الفاسد، وأداء الأمانة،

 


[1] سورة الأنبياء، الآية 25.

 

20


14

الموعظة الثانية: العبادة وثمارها

والعدل بين الناس، ورفض الظلم، وعدم شرب الخمر، ومقاطعة الربا والاحتكار… تلك الأعمال كلّها عبادة ما دام الداعي إلى فعلها أو تركها، هو الاستجابة لأمر الله تعالى.

 

ثمرة العبادة

لأنّ دينَ الإسلام دينٌ شامل يُراعي جميع أبعاد الوجود البشريّ، فإنّ للعبادة في الإسلام آثارها وفوائدها على الصعيدين الفرديّ والاجتماعيّ.

 

ومن ثمار العبادة:

1- يُغني قلبه: عن الإمام الصادق عليه السلام: “في التّوراة مكتوب: يابن آدم، تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنًى، ولا – أَكِلُكَ إلى طلبك، وعليّ أن أسدّ فاقتك وأملأ قلبك خوفاً منّي، وإن لا تَفْرَغ لعبادتي أملأ قلبك شغلاً بالدنيا، ثمّ لا أسدّ فاقتك، وأَكِلُكَ إلى طلبك”[1].

 

2- يتنعّم في الآخرة: عن الإمام الصادق عليه السلام: “قال الله تبارك وتعالى: يا عبادي الصدِّيقين، تنعّموا بعبادتي في الدُّنيا، فإنّكم تتنعَّمُون بها في الآخرة”[2].

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص83.

[2] المصدر نفسه، ج2، ص83.

 

21


15

الموعظة الثانية: العبادة وثمارها

3- يُباهي الله به الملائكة: عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الله تعالى يُباهي بالشابّ العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي ترك شهوته من أجلي”[1].

 

4- ينصره الله على الشيطان: عن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه عليه السلام: “قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ألا أُخبركم بشيء إنْ أنتم فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والموازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه، ولكلّ شيء زكاة، وزكاة الأبدان الصيام”.[2]

 

5- يدخل الجنّة: عن الإمام الصادق عليه السلام: “ثلاثة يُدخلهم الله الجنّة بغير حساب: إمامٌ عادل، وتاجرٌ صدوق، وشيخٌ أفنى عمره في طاعة الله”[3].

 


[1] المتّقي الهنديّ، كنز العمال، مصدر سابق، ج15، ص776.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج66، ص380.

[3] المصدر نفسه، ج26، ص261.

 

22


16

الموعظة الثالثة: الغفلة

الموعظة الثالثة

 

الغفلة

 

 

هدف الموعظة

بيان مساوئ الغفلة وأسبابها وأثارها السيّئة على الإنسان.

 

محاور الموعظة

1. مساوئ الغفلة

2. أسباب الغفلة

3. الغفلة تُقسّي القلب

 

تصدير الموعظة

الإمام الباقر عليه السلام: “وإيّاك والغفلة! ففيها تكون قساوة القلب”[1].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص164.

 

23


17

الموعظة الثالثة: الغفلة

مساوئ الغفلة

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[1].

 

إنّ الغفلة عن الله تزيد كدورة القلب، وتُمكّن النفس والشيطان من التغلّب على الإنسان وتزيد في المفاسد، في حين أنّ ذكر الله واستحضار ذكره يُصقلان القلب ويُكسبانه الصفاء، ويجعلانه مجلّى للمحبوب، ويُصفّيان الروح، ويُخلّصان الإنسان من قيود أسر النفس[2].

 

والغفلة سبب عظيم من أسباب الضلال والانصراف عن الهداية، قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾[3].

 


[1] سورة الأعراف، الآية 179.

[2] الإمام الخمينيّ قدس سره، السيّد روح الله الموسويّ، الكلمات القصار مواعظ وحكم من كلام الإمام الخمينيّ قدس سره، دار الوسيلة، بيروت- لبنان، 1416هـ – 1995م، ط1، ص15.

[3] سورة الأعراف، الآية 146.

 

24


18

الموعظة الثالثة: الغفلة

وهي أيضاً سبب من أسباب عقوبة الدنيا وسوء الخاتمة، قال تعالى يُذكِّر آل فرعون حين ذكّرهم بالآيات فلم يتذكّروا: ﴿فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ﴾[1].

 

أسباب الغفلة

من أعظم أسباب الغفلة:

1- نسيان الغاية من الخلق، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾[2]، فربّنا سبحانه خلقنا لغاية عظيمة، ولم يتركنا هملاً، قال سبحانه: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾[3]، فكلّما نسي الإنسان الغاية من خلقه وقع في الغفلة.

 

2- التساهل في الذنوب، إذ كلّما تهاون المسلم في ارتكاب الذنوب، استولت الغفلة على قلبه، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

 


[1] سورة الأعراف، الآية 136.

[2] سورة الذاريات، الآية 56.

[3] سورة المؤمنون، الآيتان 115 و 116.

 

25


19

الموعظة الثالثة: الغفلة

“تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، عوذاً عوذاً[1]، فأيّ قلب أُشرِبها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيّ قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتّى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً[2] كالكوز مجخيّاً[3]، لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً، إلّا ما أُشرِب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضرّه فتنة ما دامت السماوات والأرض”[4].

 

الغفلة تُقسّي القلب

الغفلة هي الحالة الأخرى التي تقع في الطرف المقابل للعجلة والمسارعة في فعل الخير، فالإنسان الغافل أساساً ينسى

 


[1] في ميزان الحكمة ذكرت: عوداً عوداً. قال ابن الأثير: عوداً عوداً: الرواية بالفتح، أي مرّة بعد مرّة. ورُوي بالضمّ، وهو واحد العيدان، يعنى ما ينسج به الحصير من طاقاته. ورُوي بالفتح مع ذال معجمة، كأنّه استعاذ من الفتن (عوذ)، يقال: عُذت به أعوذ عوذاً وعياذاً ومعاذاً، أي لجأت إليه. والمعاذ المصدر، والمكان، والزمان، أي لقد لجأت إلى ملجأ، ولذت بملاذ. (ابن الأثير، مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمّد الجزريّ، النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق طاهر أحمد الزاويّ ومحمود محمّد الطناحيّ، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، إيران – قم، 1364ش، ط4، ج3، ص318).

[2] مرباداً: متغيّراً إلى الغبرة، مائلاً إلى الرماديّ.

[3] مجخيّاً: مائلاً، وفسّره بعضهم بالنكوس.

[4] المازندرانيّ، المولى محمّد صالح بن أحمد، شرح أصول الكافي، تعليقات الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان – بيروت، 1421هـ – 2000م، ط1، ج12، ص15.

 

26


20

الموعظة الثالثة: الغفلة

تكليفه وينشغل بأمر آخر، قال سبحانه: ﴿قَالُواْ بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمۡ فَتَنتُمۡ أَنفُسَكُمۡ وَتَرَبَّصۡتُمۡ وَٱرۡتَبۡتُمۡ وَغَرَّتۡكُمُ ٱلۡأَمَانِيُّ﴾[1]، أي يقول المنافقون للمؤمنين: ألم نكن معكم؟! بمعنى: ألم نكن أهل حيّ واحد، وروّاد مسجد واحد، ورفقاء في الجهاد… فما الذي أوصلكم إلى هذه السعادة كلّها وأبقانا في هذه الظلمة الحالكة؟ فيُجيب المؤمنون: ﴿يُنَادُونَهُمۡ أَلَمۡ نَكُن مَّعَكُمۡۖ﴾[2].

 

قال الله عزّ وجلّ في آية أخرى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾[3]، فإذا حُرم القلب لمدّة من إفاضة نور الهداية عليه من قِبَل الله عزّ وجلّ، وشغلته عوامل الغفلة بروتين الحياة ورتابتها، فسوف يفقد حالة الرقّة والانفعال ولا تعود حتّى الموعظة مؤثّرة فيه، فينسى شيئاً فشيئاً أنّه من أجل ماذا خُلق أساساً؟ وإلى أين وجهته؟ ولماذا بُعث الأنبياء؟ ومن أجل ماذا جُعلت منظومة

 


[1] سورة الحديد، الآية 14.

[2] سورة الحديد، الآية 14.

[3] سورة الحديد، الآية 16.

 

27


21

الموعظة الثالثة: الغفلة

الرسالة والإمامة والشهادة؟ وما إلى ذلك. وهذا النسيان والغفلة يُقسّيان القلب ويجعلانه كالصخر.

 

من أجل ذلك يقول عليه السلام: “وإيّاك والغفلة! ففيها تكون قساوة القلب”، فإيّاك والابتلاء بالغفلة واللّامبالاة فهي من موجبات قساوة القلب، ومع الأسف فإنّ الثقافة العالميّة المعاصرة تتّخذ هذا المنحى، وهو محاولة نسيان كلّ ما يوجب الغمّ والهمّ والحزن والخوف وأمثالها وعدم التفكير فيه والركون إلى اللّامبالاة، في حين أنّ الغفلة واللّامبالاة من شأنهما أن يقسّيا قلب الإنسان، فلا يعود قول الحقّ مؤثّراً فيه مهما سمعه[1].

 


[1] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ، ألقاها في مكتب الإمام الخامنئيّ دام ظله في قمّ، بتاريخ 20/08/2008 م.

 

28


22

الموعظة الرابعة: ذكر الموت والاستعداد له

الموعظة الرابعة

 

ذكر الموت والاستعداد له

 

 

هدف الموعظة

حثّ الناس على ذكر الموت والحذر منه والاستعداد له.

 

محاور الموعظة

1. أثر ذكر الموت 2. الحذر من الموت

3. الاستعداد للموت 4. موت المؤمن

5. موت أهل النار

 

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين عليه السلام: “أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْه، وتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْه، حَتَّى يَأْتِيَكَ وقَدْ أَخَذْتَ مِنْه حِذْرَكَ، وشَدَدْتَ لَه أَزْرَكَ، ولَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ، وإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّه عَنْهَا، ونَعَتْ هِيَ لَكَ عَنْ نَفْسِهَا، وتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا”[1].

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص400.

 

29


23

الموعظة الرابعة: ذكر الموت والاستعداد له

أثر ذكر الموت

الموت هذه الحقيقة التي إليها يكون مصير كلّ إنسان، وهو في الحقيقة انتقال من دار البلاء والامتحان إلى دار الأجر والجزاء، فمن أحسن عملاً أحبّ وقت الجزاء، ومن أساء العمل خافه، عن الإمام الصادق عليه السلام: “لا يستحقّ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتّى يكون الموت أحبّ إليه من الحياة…”[1].

 

ولا شكّ في أنّ لذكر الموت أثراً على روحيّة الإنسان ومسلكيّته في هذه الدنيا، والناس بالنسبة لذكر الموت قسمان:

القسم الأوّل: هم الأشخاص الغافلون عن الآخرة، والذين تشكّل أيّامهم المعدودة في هذه الحياة الدنيا كلّ همّهم، وتتلخّص أهدافهم بمتطلّبات هذه الأيّام، وهذا النوع من الناس يشكّل الموت بالنسبة إليهم نهاية الأمل ونهاية الهدف ونهاية الوجود، وبالتالي فمن المنطقيّ أن يكون ذكر الموت عندهم باعثاً على اليأس والإحباط، لذلك تجدهم كثيراً ما يتجنّبونه.

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص253.

 

30


24

الموعظة الرابعة: ذكر الموت والاستعداد له

القسم الثاني: هم الذين عرفوا الله تعالى، وعرفوا أنّ ثمّة يوماً للحساب والجزاء، فالدنيا بالنسبة إليهم قنطرة يعبرونها للوصول إلى تلك الحياة الحقيقيّة، وهدفهم الحقيقيّ لا يتوقّف عند هذه الأيّام المعدودة، وطموحاتهم لا تنحصر بمتطلّباتها، فهم وإن لم ينسَوا نصيبهم من الدنيا إلّا أنّ هدفهم الآخرة، يبنون لها ويمهّدون أنفسهم للوصول إلى تلك المرحلة على أفضل حال، وهذا النوع من الناس يكون لذكر الموت عندهم فوائد متعدّدة، فهو:

1. باعث على الجدّ والنشاط للاستفادة من الدنيا على أكمل وجه، تأسيساً للآخرة، فالفرصة محدودة.

 

2. يرسّخ الهدف الحقيقيّ، المتمثّل بالآخرة، أكثر في النفوس، ويجعله حاضراً بشكلٍ آكد، ويصوّب مسيرة الإنسان.

 

3. يساعد الإنسان في السيطرة على ميوله النفسيّة وشهواته، فيهذّبها ويجعلها ضمن إطارها السليم.

 

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أكثروا ذكر الموت، فإنّه يمحّص الذنوب، ويزهّد في الدنيا، فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه، وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم”[1].

 


[1] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج15، ص543.

 

31


25

الموعظة الرابعة: ذكر الموت والاستعداد له

الحذر من الموت

حَتَّى يَأْتِيَكَ وقَدْ أَخَذْتَ مِنْه حِذْرَكَ

تتمثّل مشكلة الإنسان في الحجب التي تتالى على قلبه، فتمنعه من ذكر الله، وتكون سبباً في ابتعاده عنه تعالى. وذكر الموت هو أحد الأسباب التي تشكّل عاملاً مساعداً في إزالة هذه الحجب، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد”، قيل: وما جلاؤها؟ قال: “قراءة القرآن وذكر الموت”[1].

 

أمّا كيف يؤدّي ذكر الموت دوره في رفع هذه الحجب؟ فهو في شعور الإنسان بأنّ مصير ما يعيشه في الدنيا إلى الزوال، عن الإمام عليّ عليه السلام: “إِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ، ومُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ، ومُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ، زَائِرٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وقِرْنٌ غَيْرُ مَغْلُوبٍ، ووَاتِرٌ غَيْرُ مَطْلُوبٍ، قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُه… فَيُوشِكُ أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِه، واحْتِدَامُ عِلَلِه”[2].

 


[1] ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللّئالي، مصدر سابق، ج1، ص280.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص351.

 

32


26

الموعظة الرابعة: ذكر الموت والاستعداد له

وثمّة بعض الناس يتعامل مع هذا الموت معاملة الشيء المشكوك، وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا قائلاً: “ما رأيت إيماناً مع يقين أشبه منه بشكٍ على هذا الإنسان، إنّه كلّ يوم يودّع إلى القبور، ويشيّع، وإلى غرور الدنيا يرجع، وعن الشهوة والذنوب لا يقلع، فلو لم يكن لابن آدم المسكين ذنب يتوكّفه ولا حساب يقف عليه إلّا موت يبدّد شمله، ويفرّق جمعه، ويوتم ولده، لكان ينبغي له أن يحاذر ما هو فيه بأشدّ النصب والتعب”[1].

 

وهل لإنسان أن يطمع بالخلود في هذه الدنيا؟!

في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: “لَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا، لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُودَ عليه السلام الَّذِي سُخِّرَ لَه مُلْكُ الْجِنِّ والإِنْسِ، مَعَ النُّبُوَّةِ وعَظِيمِ الزُّلْفَةِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَه واسْتَكْمَلَ مُدَّتَه، رَمَتْه قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ، وأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْه خَالِيَةً والْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً، ووَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ”[2].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص137.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص263.

 

33


27

الموعظة الرابعة: ذكر الموت والاستعداد له

الاستعداد للموت

 

وشَدَدْتَ لَه أَزْرَكَ

إنّ كلّ من يقدم على سفر من الأسفار يتجهّز له بما يحتاج إليه من القدرة والقوّة، ما يمكّنه من طيّ هذا السفر بنحو يصل إلى مقصوده، وهكذا حال الإنسان، لا بدّ من أن يتجهّز في هذه الدنيا بما يعينه على الآخرة.

 

عن الإمام عليّ عليه السلام: “احْذَرُوا عِبَادَ اللَّه الْمَوْتَ وقُرْبَه، وأَعِدُّوا لَه عُدَّتَه، فَإِنَّه يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وخَطْبٍ جَلِيلٍ، بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ مَعَه شَرٌّ أَبَداً، أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَه خَيْرٌ أَبَداً”[1].

 

ولَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ

ورد في الروايات ذكر صورة الموت للمؤمن وصورة الموت للكافر، وإنّما تحصل البغتة للكافر، قال تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ﴾[2].

 


[1] المصدر نفسه، ص384.

[2] سورة الأنعام، الآية 31.

 

34


28

الموعظة الرابعة: ذكر الموت والاستعداد له

صورة موت المؤمن

تتلخّص صورة موت المؤمن بالآتي:

1. ملك الموت: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى، فيقوم وأصحابه لا يدنون منه حتّى يبدأه بالتسليم ويبشّره بالجنّة”[1].

 

2. خروج الروح: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ أشدّ شيعتنا لنا حبّاً، يكون خروج نفسه كشرب أحدكم في يوم الصيف الماءَ الباردَ الذي ينتقع به القلوب، وإنّ سائرهم ليموت كما يغطّ أحدكم على فراشه، كأقرّ ما كانت عينه بموته”[2].

 

3. البشارة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أوّل ما يُبشَّر به المؤمن روح وريحان وجنّة نعيم، وأوّل ما يُبشَّر به المؤمن أن يُقال له: أبشر وليَّ الله برضاه والجنّة! قدمت خير مقدم، قد غفر الله لمن شيَّعك، واستجاب لمن استغفر لك، وقَبِل من شهِد لك”[3].

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران – قم، 1414هـ، ط2، ج1، ص135.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص162.

[3] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج15، ص596.

 

35


29

الموعظة الرابعة: ذكر الموت والاستعداد له

صورة موت أهل النار

وتتلخّص بالآتي:

1. ملك الموت: قال تعالى: ﴿وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَضۡرِبُونَ وُجُوهَهُمۡ وَأَدۡبَٰرَهُمۡ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ﴾[1].

 

وعن الإمام الباقر عليه السلام: “فيجيئه )الكافر( ملكُ الموت بوجهٍ كريهٍ كالح، عيناه كالبرق الخاطف، صوته كالرعد القاصف، لونه كقطع اللّيل المظلم، نَفَسه كلهب النار، رأسه في السماء الدنيا، ورجل في المشرق ورجل في المغرب، وقدماه في الهواء”[2].

 

2. المصير السيّء: يقول تعالى: ﴿وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ﴾[3].

 

 


[1] سورة الأنفال، الآية 50.

[2] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الاختصاص، تحقيق عليّ أكبر الغفّاريّ والسيّد محمود الزرنديّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان – بيروت، 1414هـ – 1993م، ط2، ص359

[3] سورة الأنعام، الآية 93.

 

36


30

الموعظة الخامسة: التفويض وطمأنينة النفس

الموعظة الخامسة

 

التفويض وطمأنينة النفس

 

 

هدف الموعظة

بيان معنى تفويض الأمر إلى الله، وأثر ذلك في ذهن الإنسان ونفسه.

 

محاور الموعظة

1. معنى التفويض الحقيقيّ

2. المؤثّر المستقلّ هو الله وحده

3. نماذج من النعم الإلهيّة الخاصّة بالمتّقين

 

تصدير الموعظة

الإمام الباقر عليه السلام: “وتخَلَّصْ إلى راحَةِ النفْسِ بصحَّةِ التفْويضِ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ بِإِجْمَامِ الْقَلْبِ، وَتَخَلَّصْ إِلَى إِجْمَامِ الْقَلْبِ بِقِلَّةِ الْخَطَأ”[1].

 

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص164.

 

37


31

الموعظة الخامسة: التفويض وطمأنينة النفس

معنى التفويض الحقيقيّ

قوله عليه السلام: “وَتَخَلَّصْ إِلَى رَاحَةِ النَّفسِ بِصِحَّةِ التَّفوِيضِ”، أي إنْ أردت أنْ تكون مرتاح البال ومطمئنّاً تماماً، ففوّض أمورك إلى الله! كما أنّه عليه السلام لم يقل: تخلّص إلى راحة النفس بالتفويض، بل قال: “بِصِحَّةِ التَّفوِيضِ”. ولعلّ ما أراد عليه السلام التنويه إليه هنا هو أنّ الإنسان قد يخدع نفسه أحياناً، فلا يُفوّض الأمر إلى الله حقيقة، بل يقول من باب التقاعس: لقد فوّضت الأمر إلى الله. وهذا ليس بالتفويض الصحيح، بل هو تقاعس وعدم لياقة. فالتفويض الصحيح في أن يكون المرء قادراً على إنجاز العمل ويُنجزه فعلاً بدافع التكليف، لكنّه مع ذلك يعتمد على الله تعالى، ولا تكون النتيجة مهمّة بالنسبة إليه مهما كانت[1].

 


[1] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ، ألقاها في مكتب الإمام الخامنئيّ دام ظله في قم، بتاريخ 15/08/2011م.

 

38


32

الموعظة الخامسة: التفويض وطمأنينة النفس

خلال النظام التشريعيّ، يُسبغ عليهم نعماً أخرى ليست هي من سنخ الآلاء المادّيّة، بل من جنس نورانيّة القلب، والأُنس بالله، وفتح العيون المعنويّة، ومشاهدة الحقائق، وما إلى ذلك.

 

قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ كَذَٰلِكَ يَجۡعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجۡسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ﴾[1].

 

وقد جعل الله إلى جانب النعم المادّيّة التي يشترك فيها المؤمن والكافر، نعماً أخرى غيرها يمنّ بها على الذين يستخدمون النعم المادّيّة على النحو الصحيح، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[2]، و﴿كِفۡلَيۡنِ﴾ يعني سهمين، فمن النعم العظيمة التي يمنّ بها الله تعالى على عباده المتّقين هي نعمة حبّ الإيمان وبغض الكفر.

 


[1] سورة الأنعام، الآية 125.

[2] سورة الحديد، الآية 28.

 

40


33

الموعظة الخامسة: التفويض وطمأنينة النفس

2. رزق المرء من حيث لا يحتسب

إذا أحسن المرء الإفادة من أنعُم الله جلّ شأنه، فسيمنّ الله عليه بلطفٍ آخر، وهو أن يُسهّل له الإفادة من النعم الدنيويّة، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾[1]، فالله عزّ وجلّ لا يذر المتّقين يواجهون طريقاً مسدوداً، وكذا في البعد الاجتماعيّ فهو يقول: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ﴾[2]، فحتّى بالنسبة للمجتمع الذي أفراده من الأتقياء والذين يُراعون أحكام الإسلام ويُقيمون لها وزناً، فإنّ الله يُنزل عليهم البركة، أي يُنيلهم النعم الدنيويّة بشكل أكثر راحة وأشدّ وفرة بكثير[3].

 


[1] سورة الطلاق، الآيتان 2 و3.

[2] سورة الأعراف، الآية 96.

[3] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ، ألقاها في مكتب الإمام الخامنئيّ دام ظله في قم، بتاريخ 15/ 08/2011م.

 

41


34

الموعظة الخامسة: التفويض وطمأنينة النفس

3. الراحة والبركة للمفوِّضين أمورهم إلى الله

إنّ لله شكلاً آخر من أشكال التعامل مع المؤمنين، وهو أنّه يُدبّر أمورهم طبقاً لهذا التعامل، بحيث يجعل الإنسان المتّقي يُنفق وقته في أفضل الأعمال. فالسعي وراء الرزق الحلال بالنسبة للإنسان المؤمن عبادة، لكن ثمّة فرق كبير بين هذه العبادة والعبادة الخالصة التي لا يكون فيها إلّا العلاقة مع الله. فعندما يرى الله تعالى أنّ عبده يعشق العبادة حقّاً ويُريد أن يأنس به ولا يرغب في الالتفات إلى غيره، فإنّه يُدبّر أموره على نحو بحيث لا يُنفق كثيراً من الوقت في شؤون الدنيا.

 

فهو يعمل طبقاً لتكليفه الشرعيّ، ألا وهو السعي لكسب الرزق، ويفتح باب دكّانه، ويُمارس البيع والشراء بمقدار كفايته من الرزق لكنّ هذه الأعمال كلّها لا تُشكّل عائقاً لعبادته. فهذا التدبير يعجز عقل الإنسان بمفرده عن القيام به، فقد جاء في دعاء عرفة: “إلهي، أَغنِني بتدبيرك لي عن تدبيري، وباختيارك عن اختياري”[1].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج95، ص226.

 

42


35

الموعظة الخامسة: التفويض وطمأنينة النفس

علاج شرود الذهن بترك الذنوب

عن الإمام الباقر عليه السلام: “وَتَخَلَّصْ إِلَى إِجْمَامِ الْقَلْبِ بِقِلَّةِ الْخَطَأ”، فإنّ قوله: “قلّة الخطأ” هو “قلّة العصيان”، أي إذا شئت أن تكون حاضر الذهن وتمتلك التركيز المتعارف، فاسعَ لأنْ تُقلّل من معاصيك. فإنّ لدينا طرقاً شرعيّة ومعقولة من أجل تلبية وتأمين حاجاتنا. أمّا إذا انحرف الإنسان عن جادّة الصواب فسيواجه آلاف المنعطفات والمطبّات. فهناك مثلاً حلّ فطريّ لإشباع الغريزة الجنسيّة ألا وهو الزواج. لكنّه عندما يزيغ المرء عن المسير الصحيح، فإنّه سيبتغي سبلاً أخرى لتلبية هذه الغريزة… فإنّ نظرة واحدة من حرام قد تُشغل الذهن ليوم كامل، فلا يلتفت المرء إلى صلاته ولا إلى سائر أعماله، فالعبثيّة في استخدام البصر واللّسان والسمع تؤدّي بالإنسان إلى تشتّت ذهنه وإهدار قواه، بل وقد تتسبّب في الإضرار به أيضاً، ومن هنا قال الإمام الباقر عليه السلام ما معناه: إذا أردت أن تُريح بدنك، فاسعَ أن تكون حاضر الذهن ومركّزاً، وإذا شئت أن تكون حاضر الذهن وتتمتّع بالتركيز فحاول أن تُقلّل من أخطائك[1].

 


[1] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ، ألقاها في مكتب الإمام الخامنئيّ دام ظله في قم، بتاريخ 15/ 08/2011م.

 

43


36

الموعظة السادسة: الزهد وقصر الأمل

الموعظة السادسة

 

الزهد وقصر الأمل

 

 

هدف الموعظة

إيضاح حقيقة الزهد وفضله وضرورة عدم طول الأمل في هذه الحياة الدنيا.

 

 

محاور الموعظة

1. حقيقة الزهد ومنزلته     2. حلاوة الزهادة

3. ما هو طول الأمل؟     4. الزهد وقصر الأمل؟

 

تصدير الموعظة

الإمام الباقر عليه السلام: “وَاسْتَجْلِبْ حَلاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقصر الأَمَل”[1].

 


[1]  العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج75، ص164.

 

44


37

الموعظة السادسة: الزهد وقصر الأمل

حقيقة الزهد ومنزلته

الزهدُ في الدنيا مقامٌ شريفٌ من مقامات عباد الله السالكين، عن النبيّ الأكرم  صلى الله عليه وآله وسلم: “ما عُبد الله بشيء أفضل من الزهد في الدنيا”[1]. وحقيقة الزهد الانصراف عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه، ولا بدّ من أن يكون الانصراف والرغبةُ عن الشيء المحبَّبِ حتى تُسمَّى الرغبة عن الشيء زهداً، فالزاهد الصادق دائم الأُنس بالله تعالى، وتغلب عليه الطاعة.

 

والزاهد الحقّ لا يفرح بموجود، ولا يحزَن على مفقود، يقول أميرُ المؤمنين عليه السلام: “الزُّهْدُ كُلُّه بين كلمتين من القرآن: قال الله سبحانه: ﴿لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾، ومَنْ لم يأْسَ على الماضي، ولم يَفْرحْ بالآتي، فَقَدْ أخذ الزُهْدَ بطرفَيْه”[2].

 


[1] الطّبرسي، الميرزا حسين النّوري، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، لبنان -بيروت، 1408 هـ – 1987 م، ط1، ج 12، ص 50.

[2] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله شرح نهج البلاغة تحقيق وتصحيح محمد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي، إيران – قم، 1404 هــ، ط1، ج20، ص87.

 

45


38

الموعظة السادسة: الزهد وقصر الأمل

حلاوة الزهادة

لماذا يُنزِل الزاهدون بأنفسهم هذا الشقاء والعناء، مع أنّ الدنيا مبذولة للبرّ والفاجر؟!

 

هنا يكشف الإمام الباقر عليه السلام سرّاً من أسرار الزهد والزهّاد، استطاع أن يُلخّصه بكلمتين، هو “حلاوة الزهادة”، فإنّ للزهادة حلاوة يعرفها الخيّرون الفاضلون الزاهدون المرضيّون، وهذه الحلاوة تُستجلب “بقصر الأمل”.

 

ما هو طول الأمل؟

إنّ طول الأمل من الأمور المذمومة بشدّة في الأخلاق الإسلاميّة، عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى وطول الأمل”[1]، فهو عليه السلام يخاف على المسلمين أمرين:

أوّلهما: الانصياع وراء أهواء النفس ونزواتها، لكن من الضروريّ التنويه بأنّ ليس كلّ ما يطلبه القلب فهو سيّء ومحرّم، فقد يميل قلب المرء إلى شيء ممّا يوجبه الشرع أيضاً.

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص420.

 

46


39

الموعظة السادسة: الزهد وقصر الأمل

أمّا مفهوم الهوى المستعمَل في الأخلاق فهو ذلك الذي يُخالف الشرع والعقل، وهو أن يميل القلب إلى ما تهواه النفس، وليس إلى ما يرضاه الله ويُحبّه، وهو أمر غاية في الخطورة.

 

وثانيهما: طول الأمل، فهو عليه السلام خبير بأمراض الأُمّة وعللها، وعارف بما يُمكن أن يفسد عليها دنياها وعقباها.

 

فما المقصود بطول الأمل؟

الأمل في اللّغة هو الرجاء والترقّب، وهو ليس بالأمر السيّء. فالأمل والرجاء مفهومان متقاربان جدّاً في المعنى، ولولا وجودهما في حياة البشر لما أُنجزت أيّ فعاليّة أو نشاط.

 

أمّا مصطلح “الأمل” وفقاً للمفهوم الأخلاقيّ، فهو الأماني العريضة التي تعيق المرء عن العمل بتكاليفه الشرعيّة والقيام بالأعمال القيّمة، وليس تلك الطموحات التي تحضّ المرء على بلوغ الكمال ودرجة القرب من الله عزّ وجلّ، كأن يتمنّى المرء أن يُصبح أثرى أثرياء العالم أو أن يصبح بطلاً رياضيّاً مشهوراً يُشار إليه بالبنان، فأمثال تلك الأماني والآمال تقف حجر عثرة

 

47


40

الموعظة السادسة: الزهد وقصر الأمل

أمام قيام المرء بواجباته الدينيّة، لذلك تُصنَّف ضمن لائحة الآمال المذمومة.

 

أمّا من وجهة نظر الأخلاق والثقافة الإسلاميّة فإنّ الآمال والطموحات التي تبلغ بالمرء درجات الكمال والقرب من الله عزّ وجلّ فهي تندرج في إطار علوّ الهمّة، فليس من الأماني السيّئة أن يطمح الإنسان في أن يترقّى في مضمار التقوى والعلم والصناعة والإدارة ليتمكّن من إسداء خدمة إلى شعبه وأُمّته، أو أن يحدوه الأمل في أن يملك من الثروة ما يُمكّنه من الإنفاق على فقراء مدينته، هذا بشرط أن يتوفّر طريق معقول للوصول إلى تلك الآمال والطموحات[1].

 

الزهد وقصر الأمل

إنّ قصر الأمل، وترقّب الأجل، يزهّد الإنسان في الدنيا، ويحقّرها في عينه، فلا يرى شأناً، ولا يقيم لها وزناً.

 


[1] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ، ألقاها في مكتب الإمام الخامنئيّ دام ظله في قم، بتاريخ 11/08/2011م.

 

48


41

الموعظة السادسة: الزهد وقصر الأمل

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “رحم الله أمرأً قصّر الأمل، وبادر الأجل، واغتنم المهل، وتزوّد من العمل”[1].

 

وقال سلمان المحمّديّ: “وأمّا الثلاث التي أضحكتني: فغافل ليس بمغفول عنه، وطالب الدنيا والموت يطلبه، وضاحكٌ ملء فيه، لا يدري أراضٍ عنه سيّده أم ساخط عليه”[2].

 

ودخل رجل على أبي ذرّ الغفاريّ، فجعل يُقلّب بصره في بيته، فقال: “يا أبا ذرّ، أين متاعكم؟ فقال أبو ذر: إنّ لنا بيتاً نوجّه إليه صالح متاعنا، فقال الرجل: إنّه لا بدّ لك من متاع ما دمت هاهنا، فقال أبو ذرّ: إنّ صاحب المنزل لا يدعنا فيه”[3]، فأبو ذرّ غريب في الدنيا يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، وهو من الجنّة.

 

 


[1] اللّيثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص261.

[2] البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد، المحاسن، تصحيح وتعليق السيّد جلال الدين الحسينيّ، دار الكتب الإسلاميّة، إيران – طهران، 1370هـ – 1330 ش، لا.ط، ج1، ص4.

[3] البيهقيّ، أحمد بن الحسين، شعب الإيمان، تحقيق أبو هاجر محمّد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلميّة، لبنان – بيروت، 1410هـ – 1990م، ط1، ج7، ص378.

 

49


42

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

الموعظة السابعة

اليأس من روح الله

 

 

 

هدف الموعظة

حثّ الناس على عدم اليأس، وبثّ الأمل في النفوس.

 

محاور الموعظة

1. اليأس الأخرويّ        2. علاج اليأس الأخرويّ

3. اليأس الدنيويّ         4. علاج اليأس الدنيويّ

 

تصدير الموعظة

﴿قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ﴾[1].

 

 


[1] سورة الزمر، الآية 53.

 

50


43

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

أنواع اليأس

من الذنوب الكبيرة اليأس من روح الله تعالى، وهو على نحوين:

الأوّل: اليأس الأُخرويّ

أن ييأس الإنسان من رحمة الله وغفرانه، فإنّ الكثير من العاصين بعد ارتكابهم الذنوب، خصوصاً الكبائر، يتصوّرون أنّ طريق العودة والإنابة مقفلٌ، وأنّ الله لا يقبل توبتهم.

 

علاج اليأس الأخرويّ

إنّ الإحساس بعقدة الذنب جرَّاء الأعمال القبيحة، خاصّة إذا كانت من الكبائر، يستحوذ على ذهن الإنسان إن أراد الإنابة، فينتابه اليأس. ثمّة أمور عدَّة يمكن أن تكون علاجاً لحالة اليأس الأخرويّ:

1. باب التوبة مفتوح

إنّ التوبة يمكن أن تكون أداةً حاسمةً للانفصال عن الماضي وبدء حياة جديدة، بل قد تكون كولادة جديدة للتائب، إذا تحقّقت بشرطها وشروطها.

 

 

51

 


44

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

عن الإمام الباقر عليه السلام: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمُقيم على الذنب وهو مُستغِفر منه كالمستهزئ”[1].

 

2. الإيمان بالشفاعة

الإيمان بالشفاعة يبعث في الإنسان الأمل بالعفو والصفح، وهذا يدفعه لإعادة النظر في مسيرة حياته، ويشجّعه على تلافي سيّئات الماضي.

عن الإمام الباقر عليه السلام: “وإنّ المؤمن ليشفع لجاره وما له حسنة، فيقول: يا ربِّ، جاري! كان يكفّ عنّي الأذى، فيُشَفَّع فيه، فيقول الله تبارك وتعالى: أنا ربّك، وأنا أحقّ مَن كَافَى عنك، فيُدخله الجنّة وما له من حسنة، وإنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين”[2].

 

تحذير: بين الخوف والرجاء

صحيح أنَّ اليأس من رحمة الله من الكبائر، إلَّا أنَّ الأمن من مكره وعذابه أيضاً من الكبائر، وهذا ما يدعو الإنسان إلى الحذر من كلا الأمرين، اليأس والأمن.

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص435.

[2] المصدر نفسه، ج8، ص101.

 

 

52


45

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

وقد عدّ القرآن الكريم الخوف والرجاء في صفات المؤمنين، فلا يأمنون غضب الله تعالى، ولا ييأسون من رحمته، والتوازن بين الخوف والرجاء ضمان تكاملهم.

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[1].

 

والله تعالى قهّار وغفّار: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾[2].

 

فـ “قهَّار”، كي لا يغترَّ أحد بلطف الله ورحمته، فيعيش في مأمن من قهره وغضبه، ويغرق في الذنوب.

 

و”غفَّار”، كثير المغفرة، إذ إنَّ أبواب رحمته مفتوحة أمام المذنبين، فعلى الإنسان أن لا ييأس ولا يأمن، ﴿إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡ‍َٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ﴾[3]، ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾[4].

 


[1] سورة السجدة، الآيتان 15 و16.

[2] سورة ص، الآيتان 65 و66.

[3] سورة يوسف، الآية 87.

[4] سورة الأعراف، الآية 99.

 

53


46

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

الثاني: اليأس الدنيويّ

ويُراد به اليأس من الفرج الإلهيّ.

علاج اليأس الدنيويّ

1. التفاؤل

فالتفاؤل يبعث على الأمل، بينما التطيُّر يؤدِّي إلى اليأس والعجز، عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “الطَّيَرَة شرك”، “تفاءلوا بالخير تجدوه”.

 

2. الدعاء

عن النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم: “الدعاء سلاح المؤمن”[1].

 

وعن الإمام عليّ عليه السلام: “الدعاء مفاتيح النجاح ومقاليد الفلاح”[2].

 

فالدُّعاء يمكنه أن يكون شرفة على أمل الفوز، ووسيلة مؤثِّرة في مواجهة اليأس.

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص468.

[2] المصدر نفسه.

 

54


47

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

3. الأمل بالنصر (المدد الإلهيّ)

إذا راجعنا القرآن الكريم، نجده يبعث الأمل بالنصر في نفوس المسلمين، في مواضع عدّة، منها:

أ. ﴿وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِي شِيَعِ ٱلۡأَوَّلِينَ * وَمَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ * كَذَٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ * لَا يُؤۡمِنُونَ بِهِۦ وَقَدۡ خَلَتۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ﴾[1].

 

إنّ أساليب أهل الضلال الرامية لتخدير الناس ومحاولة إبعادهم عن أولياء الله، لا تختصُّ بزمان ومكان، بل هي موجودة منذ القدم، وباقية بقاء الصراع بين الحقّ والباطل، لذا لا نستوحش من ذلك ونتراجع أمام المشاكل والعراقيل، ولا نسمح لليأس أن يدخل قلوبنا، ولأساليب الأعداء أن تُفقدنا الثِّقة بالله تعالى.

 

ب. ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾[2].

 


[1] سورة الحجر، الآيات 10-13.

[2] سورة آل عمران، الآيتان 139 و140.

 

55


48

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

في الآية تحذير للمسلمين من أن يتملَّكهم الحزن ويعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة أو الهزيمة في المعركة، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم، كما الانتصارات، ويتعرّفون نقاط الضعْف، ويسعَون لتحقيق النصر النهائيّ بالقضاء على الثغرات.

 

4. الانتظار ودوره في معالجة اليأس

حين يعمُّ الفسادُ المجتمع، قد يقع الإنسان المؤمن في مأزق نفسيِّ، ويتصَّور أن لا مجال للإصلاح، وأنَّ السعي للحفاظ على النقاء والطهارة لا جدوى منه، وهذا الأمر قد يجرُّ الإنسان نحو الفساد، وما ينعش الأمل في نفوس المؤمنين ويدعوهم إلى المقاومة والصبر وعدم الانغماسفي المحيط الفاسد، رجاؤهم بالإصلاح النهائيّ.

 

5. التقوى والتوكّل

﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا  * وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ﴾[1].

 


[1] سورة الطلاق، الآيتان 2 و3.

 

56


49

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

عن أبي ذرّ الغفاريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنيِّ أعلم آيةً لو أخذ بها الناس لكفتهم: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾”، فما زال يقولها ويعيدها[1].

 

وإنّ الذي يعيش حقيقة التوكُّل على الله، لا يدبُّ في عزمه اليأس، ولا يشعر بالضعف أمام المشاكل مهما كبرت، ويبقى يقاوم الأحداث بقوَّة وإيمان راسخين.

 

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “سألت جبرائيل: ما التوكّل؟ قال: العلم بأنَّ المخلوق لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك، لم يعمل لأحد سوى الله، ولم يرجُ ولم يخف سوى الله، ولم يطمع في أحد سوى الله، فهذا هو التوكُّل”[2].

 


[1] الطبرسيّ، الشيخ الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق وتعليق لجنة من العلماء والمحققين الأخصائيين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، لبنان – بيروت، 1415هـ.ق – 1995م، ط1، ج10، ص43.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج66، ص373.

 

57


50

الموعظة السابعة: اليأس من روح الله

6. العلم بأنّ مع العسر يسراً

يقول تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾[1].

 

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسراً، إنّ مع العسر يسراً”[2].

 


[1]  سورة الانشراح، الآيتان 5 و6.

[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج4، ص‏413.

 

58


51

الموعظة الثامنة: حال المؤمن في الدنيا

الموعظة الثامنة

 

حال المؤمن في الدنيا

 

 

 

هدف الموعظة

بيان حال المؤمن في الدنيا وحال المغترّ بها، والحثّ على عدم التعلّق بها.

 

 

 

محاور الموعظة

1. حال المؤمن

2. حال المغترّ بالدنيا

 

 

تصدير الموعظة

أمير المؤمنين عليه السلام: “إنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ، فَأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيباً وجَنَاباً مَرِيعاً، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ وفِرَاقَ الصَّدِيقِ وخُشُونَةَ السَّفَرِ وجُشُوبَةَ المَطْعَمِ، لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ ومَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً، ولَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيه مَغْرَماً، ولَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ. ومَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ، فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَه إِلَيْهِمْ ولَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيه إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْه ويَصِيرُونَ إِلَيْه”[1].

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص446.

 

59


52

الموعظة التاسعة: رقّة القلب وصلاحه

يصف الإمام عليه السلام حال الإنسان المؤمن وحال الإنسان الكافر في هذه الدنيا، وكيف يعيش كلٌّ منهما.

 

حال المؤمن

“كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ، فَأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيباً وجَنَاباً مَرِيعاً”

 

المؤمن في هذه الدنيا والذي يكون همّه الآخرة، كالمسافر الذي أراد السفر من أرض قاحلة جدباء لا نبات فيها ولا ثمر – كناية عن الدنيا – إلى أرض مثمرة وخصبة -كناية عن الآخرة – ويعاني المؤمنون في سفرهم هذا الصعابَ، لكنّهم يملكون القدرة على تحمّل ذلك، لأنّهم يريدون الوصول إلى حيث النعم الوافرة.

 

وتشبيه حال الإنسان في هذه الدنيا بالمسافر، ورد في العديد من الروايات:

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “إِنَّ اللَّه سُبْحَانَه قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، وابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، ولَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا ولَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا”[1].

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص397.

 

 

60


53

الموعظة الثامنة: حال المؤمن في الدنيا

وعنه عليه السلام أيضاً: “هؤلاء أنبياء الله وأصفياؤه، تنزّهوا عن الدنيا… ثمّ اقتصّ الصالحون آثارهم… وأنزلوا الدنيا من أنفسهم كالميتة التي لا يحلّ لأحد أن يشبع منها إلّا في حال الضرورة إليها، وأكلوا منها بقدر ما أبقى لهم النَفَس، وأمسك الروح، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتدّ نتنها…”[1].

 

لذا يصف الإمام حال المؤمن بالآتي:

1- احْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ

الدنيا محفوفة بالمخاطر والمصاعب، وهذه المخاطر ليست هي خصوص المخاطر المادّيّة أو الابتلاءات الجسديّة، بل من أعظم هذه المخاطر الاغترار بهذه الدنيا، فهي تزيّن نفسها للناس، وتدعوهم إليها، وترغّبهم بها، وأشدّهم مقاومة لها هو الذي ينتصر عليها، وأعظم تشبيه ورد في وصف صعوبة هذه الدنيا، هو وصفها بالسجن، فعن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “الدنيا لا تصفو لمؤمن، كيف وهي سجنه وبلاؤه”[2].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج70، ص111.

[2] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج3، ص187.

 

61


54

الموعظة الثامنة: حال المؤمن في الدنيا

وعن الإمام الباقر عليه السلام: “الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللّذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها دخل النار”[1].

 

2. وفِرَاقَ الصَّدِيقِ

المؤمن في هذه الدنيا غريب، لا يرى صديقاً يسير معه في هذا الطريق، لأنّه طريق معاناة ومشقّة، وهذا يزيد من معاناته ومشقّته، ولكنّه مع ذلك يصبر في سبيل الوصول إلى الآخرة والمستقرّ الأبديّ.

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِه، فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ وجُوعُهَا طَوِيلٌ”[2].

 

3. خُشُونَةَ السَّفَرِ

إذا علم المؤمن أنّ الدنيا دار ممرّ وأنّه في سفر، علم أنّه لا

 

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص89.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص319.

 

62


55

الموعظة الثامنة: حال المؤمن في الدنيا

قرار له فيها، وتحمّل ما فيها من خشونة وصعاب، وقد ورد عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “كن في الدنيا كأنّك غريب، أو كأنّك عابر سبيل، وعُدَّ نفسك في أصحاب القبور”[1].

 

4. وجُشُوبَةَ المَطْعَمِ

الطعام الجشب هو الطعام الغليظ الذي لا تميل إليه النفس ولا ترغب به. والمؤمن وإن كان يستفيد من هذه الدنيا ولا ينسى نصيبه منها، لكنّ هذه الأمور ما دامت ليست هدفاً له، فإنّها لا تحتلّ الأولويّة عنده، فهو يصبر على تركها إذا وقفت عائقاً أمام تحصيل رضا الله تعالى.

 

وإنّ كثرة الطعام تبعد صاحبها عن الله تعالى، عن الإمام الصادق عليه السلام: “ليس شيء أضرّ لقلب المؤمن من كثرة الأكل، وهي مورثة لشيئين: قسوة القلب، وهيجان الشهوة”[2].

 

إنّ الطعام متى كان من الملذّات، تناول الإنسان منه ما يزيد عن حاجته، وقد يُبتلى بالبطنة، لذا عليه أن يحذر ويكتفي

 


[1] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، الأمالي، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة – مؤسسة البعثة، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، إيران – قم، 1414ه، ط1، ص381.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج63، ص337.

 

63


56

الموعظة الثامنة: حال المؤمن في الدنيا

منه بقدر الحاجة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إيّاكم والبطنة! فإنّها مُفسِدة للبدن ومُورِثة للسقم ومُكسِلة عن العبادة”[1].

 

5. لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ ومَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً، ولَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيه مَغْرَماً، ولَا شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلَّتِهِمْ…

 

بعد أن أوضح الإمام عليه السلام حال المؤمن في الحياة الدنيا، أراد بيان حالة الرضا عنده بما هو عليه، فالمؤمن لا يتحمّل هذه الصعاب والمشقّات كلّها وهو مُكرَه عليها، بل يؤدّيها وهو شاكر لله عزّ وجلّ، وراضٍ بما يقوم به، لأنّه لا يشعر بالألمأو الخسارة في فعل ما يقرّبه من مراده وغرضه، ألا وهو رضا الله عزّ وجلّ، والفوز بالجنّة، بل إنّ هذه المصاعب والمشقّات أحبّ إليه من الرخاء والهناء إذا كانت من أسباب نيل مبتغاه، لذا يصفهم أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً بقوله: “صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ، أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا”[2].

 


[1] المصدر نفسه، ج59، ص266.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص304.

 

64


57

الموعظة الثامنة: حال المؤمن في الدنيا

حال المغتّر بهذه الدنيا

1. ومَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ، فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ…

 

إنّها صورة معاكسة لحال المؤمن، فالدنيا جنّة الكافر، فهو يرى نفسه في سفر، ولكنّه في سفر من النعيم إلى الجحيم، وهذا ما يفسّر لنا كراهة الموت لدى هذا الإنسان، فمن لم يضع نصب عينيه سوى هذه الدنيا، فإنّه يرى في فنائها فناءه، وفي زواله نهاية كلّ شيء لديه، وعن الإمام الحسن عليه السلام: “أعظم سرور يرد على المؤمنين إذ نُقلوا عن دار النكد إلى نعيم الأبد، وأعظم ثبور يرد على الكافرين إذ نُقلوا عن جنّتهم إلى نار لا تبيد ولا تنفد”[1].

 

2. فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَه إِلَيْهِمْ ولَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيه إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْه ويَصِيرُونَ إِلَيْه…

 

إنّهم ولشدّة حبّهم لهذه الدنيا يصعب عليهم فراقها، بل هو من أصعب ما يعانون منه، عن الإمام زين العابدين عليه السلام

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران – قم، 1379ه – 1338 ش، لا.ط، ص288.

 

65


58

الموعظة الثامنة: حال المؤمن في الدنيا

في وصف الموت وفراق الدنيا: “للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة، وفكّ قيود وأغلال ثقيلة، والاستبدال بأفخر الثياب وأطيبها روائح، وأوطئ المراكب، وآنس المنازل، وللكافر كخلع ثياب فاخرة، والنقل عن منازل أنيسة، والاستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها، وأوحش المنازل، وأعظم العذاب”[1].

 

 


[1] المصدر نفسه، ص289.

 

66


59

الموعظة الثامنة: حال المؤمن في الدنيا

الموعظة التاسعة

 

رقّة القلب وصلاحه

 

 

هدف الموعظة

بيان ما يساعد في إحياء القلب وصلاحه.

 

محاور الموعظة

1. رقّة القلب باب كلّ صلاح

2. معنى رقّة القلب ومناطها

3. أسباب قسوة القلوب وظلمتها

4. علاج قسوة القلوب

 

تصدير الموعظة

الإمام الباقر عليه السلام: “وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي الْخَلَوَاتِ”[1].

 


[1] العلّامة المجلسيّ،  بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 75، ص 164.

 

67


60

الموعظة التاسعة: رقّة القلب وصلاحه

رقّة القلب باب كلّ صلاح

القلب الرقيق قلبٌ ذليلٌ أمام عظمة الله تبارك وتعالى، والقلب الرقيق رفيقٌ ونعم الرفيق، والمتمعّن في كتاب الله تعالى والسيرة العطرة لنبيّ الرحمة  صلى الله عليه وآله وسلم يجد أنّ الله عزّ وجلّ أخبر مصطفاه أنّ رقّة القلوب يحتاجها أحبّ العباد إلى الله، وهم أنبياؤه وأوصياؤهم، والهداة، والدعاة إليه، وطلّاب العلم، وعامّة الناس وخاصّتهم، قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ﴾[1]، أي لو كان قلبك قاسياً لانفضّت هذه الجموع من حولك.

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “طوبى للمنكسرة قلوبهم من أجل الله!”[2].

 

معنى رقّة القلب ومناطها

رقّة القلب حالة ينفعل فيها الإنسان بسرعة عند مواجهة بعض العوامل المثيرة للأحاسيس والمشاعر، ومن آثارها الظاهريّة ذرف الدموع.

 


[1] سورة آل عمران، الآية 159.

[2] اللّيثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص313.

 

68


61

الموعظة السادسة: الزهد وقصر الأمل

إنّ مناط القيمة وفقاً للأخلاق الإلهيّة أو الإسلاميّة هي تلك التي تُقرّب الإنسان إلى الله تعالى.

 

وبناءً عليه، فإنّ رقّة القلب لا تكون ذات قيمة في الأخلاق الإسلاميّة إلاّ إذا ظهر أثرها في ما يتعلّق بالله عزّ وجلّ وفي القرب منه. فإنّ ما يكون مفيداً للإنسان المؤمن حتماً هو أن لا يكون غير مبالٍ إذا ذُكِرت عظمة الباري تعالى، أو عفوه وتجاوزه، أو ذُكر عذابه. يقول القرآن الكريم في ذكر إحدى صفاته: ﴿كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾[1]، فإنّ من جملة صفات كلام الله هي أنّه إذا سمعه المؤمنون اقشعرّت جلودهم وشعروا برعدة في أوصالهم.

 

هذه الحالة العاطفيّة هي حالة انفعاليّة يظهر أثرها على الجلد. كما أنّه يقول تعالى في صفات المؤمنين: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ﴾[2]، فمن خصائص المؤمن هي أنّ قلبه يرتجف إذا ذُكر الله عنده، وهي علامة الإيمان. فلا بدّ لقلب المؤمن من أن يشعر بالحقارة في مقابل عظمة الباري

 


[1] سورة الزمر، الآية 23.

[2] سورة الأنفال، الآية 2.

 

69


62

الموعظة التاسعة: رقّة القلب وصلاحه

عزّ وجلّ، بل يتحتّم على المؤمن أن تنتابه حالة الخجل وأن تسيل دموعه عندما يتذكّر أنعم الله[1].

 

أسباب ظلمة القلوب وقسوتها

ثمّة العديد من الأمور التي تتسبّب بالظلمات في القلب، نذكر منها:

1. حبّ الدنيا

يقول تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[2].

 

إنّ التعلّق بالدنيا وحبّها يفسد القلب، ويجعله ساحة سهلة أمام زمر الشيطان، من هنا لا بدّ للإنسان المؤمن من أن يقطع هذا التعلّق بالدنيا الذي يجعلها هدفاً وغاية بدل الآخرة، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: “وأَمِتْهُ

 


[1] من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ، ألقاها في مكتب الإمام الخامنئيّ دام ظله في قمّ، بتاريخ 16/08/2011م.

[2] سورة الكهف، الآية 28.

 

70


63

الموعظة التاسعة: رقّة القلب وصلاحه

بِالزَّهَادَةِ”[1]، أي الإدراك والإيمان بأنّ هذه الدنيا ليست هي الهدف والغاية، بل هي منقطعة وليست سوى طريق للآخرة.

 

2. ارتكاب المعاصي

إنّ سلوك الإنسان يؤثّر في القلب، فإن كان سلوكاً سيّئاً يخالف حكم الله تعالى، فإنّه سيملأ القلب ظلاماً وحجباً، وهذا ما تؤكّده العديد من الآيات القرآنيّة:

﴿كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ﴾[2].

 

﴿أَوَ لَمۡ يَهۡدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ أَهۡلِهَآ أَن لَّوۡ نَشَآءُ أَصَبۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡۚ وَنَطۡبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ﴾[3].

 

3. ترك الجهاد في سبيل الله

﴿وَإِذَآ أُنزِلَتۡ سُورَةٌ أَنۡ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَجَٰهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ٱسۡتَ‍ٔۡذَنَكَ أُوْلُواْ ٱلطَّوۡلِ مِنۡهُمۡ وَقَالُواْ ذَرۡنَا نَكُن مَّعَ ٱلۡقَٰعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ﴾[4].

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص392.

[2] سورة المطفّفين، الآية 14.

[3] سورة الأعراف، الآية 100.

[4] سورة التوبة، الآيتان 86 و87.

 

 

71


64

الموعظة التاسعة: رقّة القلب وصلاحه

فإنّ التخلف عن الجهاد في سبيل الله والقعود عن نصرة دينه وترك مواجهة الظالمين، له تبعات خطيرة جدّاً في الدنيا والآخرة، إذ تصرّح الآية الكريمة أنّ هؤلاء القاعدين المتخلّفين عن الجهاد طُبع على قلوبهم. ومن الطبيعيّ أنّ الذي يعيد الحياة للقلب، المشاركة في الجهاد، لذلك نجد الإنسان المجاهد أكثر نوراً، وألين قلباً، وأقرب إلى الله.

 

علاج قسوة القلوب

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “القلب ملك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده”[1].

 

نستعرض في ما يأتي أموراً تساعد على بعث النور في القلب وإحيائه:

1. ذكر الله

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[2].

 


[1] المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، مصدر سابق، ج1، ص241.

[2] سورة الأنفال، الآية 2.

 

72


65

الموعظة التاسعة: رقّة القلب وصلاحه

يقول الإمام الباقر عليه السلام: “وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي الْخَلَوَاتِ”.

 

والمراد من الذكر هنا هو ما يكون في مقابل الغفلة، أو خصوص الالتفات القلبيّ، أو الذكر اللّفظيّ المقترن بالالتفات القلبيّ، فلا بدّ للقلب من التذكّر.

 

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “سبعة يُظلّهم الله عزّ وجلّ في ظلّه، يوم لا ظلّ إلّا ظلّه… ورجل ذكر الله عزّ وجلّ خالياً، ففاضت عيناه من خشية الله عزّ وجلّ”[1].

 

2. الحكمة

قال تعالى: ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾[2].

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “ونَوِّرْه بِالْحِكْمَةِ”[3].

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران – قم، 1403ه – 1362ش، لا.ط، ص343.

[2] سورة البقرة، الآية 269.

[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص392.

 

73


66

الموعظة التاسعة: رقّة القلب وصلاحه

والحكمة هي ما يفسّره الإمام الصادق عليه السلام، إذ يقول: “إنّ الحكمة المعرفة والتفقّه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم”[1].

 

3. الموعظة

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “أحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ… وذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ”[2].

 

والموعظة هي التذكير بالآخرة، فإذا سمع ذلك الإنسان لجأ إلى التوبة، وبها حياة القلب، لذا نقرأ في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام: “إلهي، ألبستني الخطايا ثوب مذلّتي، وجللّني التباعد منك لباس مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فأحيِه بتوبة منك يا أملي وبغيتي”[3].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج1، ص215.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص392.

[3] الإمام زين العابدين عليه السلام، الصحيفة السجّاديّة، تحقيق السيّد محمّد باقر الموحد الابطحيّ الإصفهانيّ، نشر مؤسسة الإمام المهديّ عليه السلام ومؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر، إيران – قم، 1411ه، ط1، ص401.

 

74


67

الموعظة العاشرة: خطوات الشيطان

الموعظة العاشرة

 

خطوات الشيطان

 

هدف الموعظة

التحذير من أشراك إبليس ومكائده، وبيان بعض طرق مواجهته.

 

محاور الموعظة

1. من هو الشيطان؟

2. خطوات الشيطان وطرائقه

3. كيف نحارب الشيطان؟

 

تصدير الموعظة

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ وَمَن يَتَّبِعۡ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۚ﴾[1].

 

 


[1] سورة النور، الآية 21.

 

75


68

الموعظة العاشرة: خطوات الشيطان

وعن الإمام عليّ عليه السلام: “فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ، اعْتَرَضَتْه الْحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِه، وتَعَصَّبَ عَلَيْه لأَصْلِه، فَعَدُوُّ اللَّه إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ ونَازَعَ اللَّه رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ”[1].

 

والاستعمال القرآنيّ لكلمة الشيطان يشمل أفراد البشر المفسدين المعادين للدعوة الإلهيّة أيضاً.

 

خطوات الشيطان وطرائقه

إنّ المهمّة الأولى والأساس التي رسمها الشيطان لنفسه مع الإنسان هي إبعاده عن الصراط المستقيم، والنزول به إلى أسفل السافلين، قال تعالى حاكياً عن لسانه: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾[2].

 

في المقابل نهانا الله تعالى عن اتّباع خطواته، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ وَمَن يَتَّبِعۡ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۚ﴾[3].

 

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص286.

[2] سورة الأعراف، الآيتان 16 و17.

[3] سورة النور، الآية 21.

 

77


69

الموعظة العاشرة: خطوات الشيطان

فما المراد من اتّباع خطوات الشيطان؟

يقول العلّامة الطباطبائيّ قدس سره: إنّ المراد من اتّباع خطوات الشيطان ليس اتّباعه في جميع ما يدعو إليه من الباطل، بل اتّباعه في ما يدعو إليه من أمر الدين، بأن يزيّن شيئاً من طرق الباطل بزينة الحقّ، ويسمّي ما ليس من الدين باسم الدين، فيأخذ به الإنسان من غير علم[1].

 

قال تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾.

 

فعندما يبدأ الإنسان خطواته الأولى مع الشيطان، يستمرّ معه إلى أن يورده المهالك، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لأَمْرِهِمْ مِلَاكاً، واتَّخَذَهُمْ لَه أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، ودَبَّ ودَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ، فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ، ونَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ وزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ”[2].

 


[1] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، إيران – قم، 1417ه‏، ط5، ج2، ص101.

[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص53.

 

78


70

الموعظة العاشرة: خطوات الشيطان

ومن أبرز الأبواب التي تنفذ من خلالها خطوات الشيطان إلى داخل النفس الإنسانيّة:

1. اتّباع الهوى

هذه الخصلة كانت من الخصال الأساسيّة التي اتّصف بها الشيطان، إذ أراد عبادة الله تعالى من حيث يريد، وفي ذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام: “أمر الله إبليس بالسجود لآدم، فقال: يا ربِّ، وعزّتك، إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنّك عبادة ما عبدك أحدٌ قطّ مثلها، قال الله جلّ جلاله: إنّي أحبّ أن أُطاع من حيث أريد”[1].

 

2. العجب واستصغار الذنوب

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “قال موسى لإبليس: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه، قال: إذا أعجبته نفسه، واستكثر عمله، وصغر في عينه ذنبه”[2].

 

3. النساء والخمر والمال

عن الإمام علي عليه السلام: “الفتن ثلاث: حبّ النساء وهو سيف

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج2، ص262.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص314.

 

79


71

الموعظة العاشرة: خطوات الشيطان

الشيطان، وشرب الخمر وهو فخّ الشيطان، وحبّ الدينار والدرهم وهو سهم الشيطان”[1].

 

4. الغضب

عن الإمام الباقر عليه السلام: “إنّ هذا الغضب جمرة من الشيطان تتوقّد في قلب ابن آدم، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه، وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه”[2].

 

كيف نحارب الشيطان؟

الشيطان عدوّ الإنسان الدائم، وهو في حرب دائمة ومستمرة معه، من كانت أولى خطوات المواجهة مع الشيطان معرفة أنّه العدوّ الأكبر له والذي يريد أن يوقع العداوة بينه وبين الآخرين، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء﴾[3]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾[4].

 


[1] الشيخ الصدوق، الخصال، مصدر سابق، ص113.

[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص305.

[3] سورة المائدة، الآية 91.

[4] سورة الأعراف، الآية 22.

 

80


72

الموعظة العاشرة: خطوات الشيطان

وثمّة سُبُل وخطوات كثيرة يمكن أن تساعد الإنسان على المواجهة، وتشكّل وقاية من الحبائل الشيطانيّة، نذكر منها:

1. ذكر الله

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه… فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الإِيمَانِ وفَاتِحَةُ الإِحْسَانِ ومَرْضَاةُ الرَّحْمَنِ ومَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ”[1].

 

2. إطالة السجود

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “أطيلوا السجود، فما من عملٍ أشدّ على إبليس من أن يرى ابن آدم ساجداً، لأنّه أُمر بالسجود فعصى، وهذا أُمر بالسجود فأطاع فيما أُمر”[2].

 

وعن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ العبد إذا سجد فأطال السجود، نادى إبليس: يا ويلاه أطاع وعصيت، وسجد وأبيت”[3].

 


[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة (تحقيق صالح)، مصدر سابق، ص46.

[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، علل الشرائع، تقديم السيّد محمّد صادق بحر العلوم، المكتبة الحيدريّة، العراق – النجف الأشرف، 1385ه – 1966م، لا.ط، ج2، ص34.

[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص264.

 

81


73

الموعظة العاشرة: خطوات الشيطان

3. العبادة

عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم تباعد المشرق من المغرب”، قالوا: بلى، قال  صلى الله عليه وآله وسلم: “الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في اللَّه والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع ونينه”[1].

 

4. القراءة في المصحف ووجوده في المنزل

عن الإمام الصادق عليه السلام: “ليس شيء على الشيطان أشدّ من القراءة في المصحف نظراً، والمصحف في البيت يطرد الشيطان”[2].

 

 


[1] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الأمالي، تحقيق ونشر مؤسسة البعثة، إيران – قم، 1417ه، ط1، ص117.

[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج89، ص201.

 

82


74

الموعظة الحادية عشرة: الآثار البرزخيّة والأخرويّة للذنوب

الموعظة الحادية عشرة

 

الآثار البرزخيّة والأخرويّة للذنوب

 

هدف الموعظة

ذكر آثار الذنوب وما يتلقّاه العصاة والكافرون في عالم البرزخ.

 

محاور الموعظة

1. آثار الذنوب في البرزخ

2. الآثار الأخرويّة للذنوب والمعاصي

3. تجسّم الأعمال بصورٍ قبيحة

 

تصدير الموعظة

﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾[1].

 

 


[1] سورة آل عمران، الآية 30.

 

83


75

الموعظة الحادية عشرة: الآثار البرزخيّة والأخرويّة للذنوب

أثار الذنوب في البرزخ

عن الإمام الصادق عليه السلام: “البرزخ القبر، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة”[1].

 

وفي ما يأتي نستعرض أهمّ آثار الذنوب في البرزخ:

1. سكرات الموت

قال تعالى: ﴿وَجَآءَتۡ سَكۡرَةُ ٱلۡمَوۡتِ بِٱلۡحَقِّۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنۡهُ تَحِيدُ﴾[2].

 

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “ما من الشِّيعة عبدٌ يُقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتَّى يُبتلى ببليّةٍ تُمحَّصُ بها ذنوبه، إمّا في مالٍ، وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتَّى يلقى الله عزّ وجلّ وما له ذنبٌ، وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيُشدَّدُ به عليه عند موته”[3].

 

2. وحشة القبر وغربته

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “يا عباد الله، ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته”[4].

 


[1] الحويزيّ، تفسير نور الثقلين، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الرسولي المحلاتي، مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، إيران – قم، 1412ه – 1370 ش، ط4، ج3، ص553.

[2] سورة ق، الآية 19.

[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج6، ص157.

[4] المصدر نفسه، ج6، ص218.

 

84


76

الموعظة الحادية عشرة: الآثار البرزخيّة والأخرويّة للذنوب

وقد ورد ما يدلّ على استحباب التمهُّل في إنزال الميِّت إلى قبره، إذ روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “وإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر، لأنّ للقبر أهوالاً عظيمة، ويتعوّذ حامله بالله من هول المطّلع، ويضعه قرب شفير القبر، ويصبر عليه هنيهةً، ثم يُقدِّمه قليلاً، ويصبر عليه هنيهة، ليأخذ أهبّته، ثم يُقدّمه إلى شفير القبر”[1].

 

3. ضغطة القبر

يُفهم من الروايات أنّ هذه الضغطة يختلف حالها من شخصٍ إلى آخر، وذلك حسب درجة إيمانه وطبيعة عمله في نشأة عالم الدنيا، ومنها ما دلَّت عليه الروايات بأنّ القيام ببعض الأعمال يؤدّي إلى النجاة من ضغطة القبر.

 

عن أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: قلتُ: جُعِلتُ فداك! فأين ضغطة القبر؟ فقال: “هيهات، ما على المؤمنين منها شيء. والله، إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه، فتقول: وطأ ظهري مؤمن، ولم يطأ على ظهرك مؤمن، وتقول له الأرض: والله، كنتُ

 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج1، ص170.

 

85


77

الموعظة الحادية عشرة: الآثار البرزخيّة والأخرويّة للذنوب

أُحبّك وأنت تمشي على ظهري، فأمّا إذا وليتك فستعلم ماذا أصنع بك، فتفسح له مدّ بصره”[1].

 

وورد أيضاً أنّ ثمّة أعمالاً تؤدّي إلى ضغطة القبر أو إلى شدّتها، منها ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: “عذاب القبر يكون من النميمة، والبول، وعزب[2] الرجل عن أهله”[3].

 

الآثار الأخروية للذنوب والمعاصي

أهمّ الآثار الأخروية للذنوب والمعاصي:

1. استحقاق دخول النار

قال تعالى: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[4].

 

وقال: ﴿وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾[5].

 


[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج1، ص170.

[2] عزب الرجل عن أهله: ابتعاده عن فراشه وطعامه، مع ظلمه لزوجته.

[3] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مصدر سابق، ج1، ص309.

[4] سورة البقرة، الآية 81.

[5] سورة التوبة، الآية 68.

 

86


78

الموعظة الحادية عشرة: الآثار البرزخيّة والأخرويّة للذنوب

وعن الإمام الكاظم عليه السلام: “لا يُخلِّد الله في النّار إلّا أهل الكفر والجحود، وأهل الضلال والشرك”[1]، فالمؤمن الفاسق خارجٌ عن الأقسام كلِّها التي ذكرها الإمام عليه السلام في هذه الرواية.

 

2. الفضيحة في الآخرة

قال تعالى: ﴿وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ﴾[2]، تُشير الآية إلى أنّ يوم الأشهاد هو اليوم الذي يُبسَط فيه الأمر في محضر الله تعالى، وتنكشف السرائر والأسرار للخلائق كافّة، وهو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون، ويكون الانتصار فيه أروع ما يكون، إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء ويزيد في كرامتهم، وإنّه يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين.

 

3. الذلّ والهوان

من المشاهد التي تظهر يوم القيامة مشهد الذلّ والهوان اللّذين يُصيبان العصاة، كقوله تعالى: ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾[3].

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص351.

[2] سورة غافر، الآية 51.

[3] سورة القلم، الآية 43.

 

87


79

الموعظة الحادية عشرة: الآثار البرزخيّة والأخرويّة للذنوب

4. الحسرة والندامة

إنّ أحد أوصاف يوم القيامة هو “يوم الحسرة والندامة”، قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[1].

 

5. تجسّم الأعمال بصورٍ قبيحة

من الآثار الأخرويّة للذنوب تجسّد الأعمال بصورةٍ تتناسبُ مع طبيعة الذنب.

قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ﴾[2].

 

وهذه الآية تُبيّن تجسيم الأعمال في الآخرة، وتدلّ على أنَّ الأموالَ المكتسبة عبر هذا الطريق المحرَّم، هي في الواقع نيرانٌ تدخلُ في بطونهم، وتتجسَّمُ بشكلٍ واقعيٍّ في الآخرة.

 

قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ﴾[3].

 


[1] سورة مريم، الآية 39.

[2] سورة البقرة، الآية 174.

[3] سورة آل عمران، الآية 30.

 

88


80

الموعظة الحادية عشرة: الآثار البرزخيّة والأخرويّة للذنوب

تشيرُ هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيِّئة يوم القيامة، فيرى كلّ امرئٍ ما عملَ من خيرٍ وما عملَ من شرٍّ حاضراً أمامه، فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون ويستبشرون، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرعب، ويتمنَّون لو أنَّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها، ولم تقلِ الآية: يتمنَّون فناء أعمالهم وسيّئاتهم، لأنّهم علموا أنَّ كلَّ شيءٍ في ذاك العالم لا يفنى، فلذلك تمنَّوا الابتعاد عنها.

 

فالإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما كانت قليلة، وهذا ينسجم مع كلمة ﴿تَجِدُ﴾، من الوجود ضد العدم في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا﴾[1].

 


[1] راجع: الشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج2، ص463 – بتصرّف.

 

89


81

الموعظة الثانية عشرة: مفهوم السعادة في الإسلام

الموعظة الثانية عشرة

 

مفهوم السعادة في الإسلام

 

 

هدف الموعظة

بيان مفهوم السعادة في الإسلام وأهمّيّتها، وما يُسهِم في تحقّقها.

 

 

محاور الموعظة

1. السعادة في الدنيا والآخرة 2. موجبات تحقّق السعادة الدنيويّة

3. علامات السعادة 4. مفاهيم حول السعادة

 

 

تصدير الموعظة

﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ  * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾[1].

 

 


[1] سورة هود، الآيات 105-108.

 

90


82

الموعظة الثانية عشرة: مفهوم السعادة في الإسلام

السعادة في الدنيا والآخرة

تشير الآية المباركة إلى شكلين من أشكال السعادة التي يطمح إليها الإنسان، السعادة التي ترتبط بالآخرة والسعادة التي ترتبط بالدنيا.

 

وبهذا يختلف الناس عن بعضهم، فمنهم من يرى سعادته منحصرة في أطايب الدنيا وملذّاتها، ولا ينظر إلى ما بعدها، وهذه سعادة وهميّة، لا تلبث أن تزول بزوال ما بين يديه، ولو بعد حين. ومنهم من يرى ارتباط السعادة باليوم الآخر، وأنّ كل ما له علاقة بتلك السعادة الأبديّة، يكون فيه سعادتهم واطمئنان قلوبهم، وهذه هي السعادة الحقيقيّة.

 

لقد جاء الإسلام بنظام شامل، فوضع للإنسان من القواعد والنظم ما يرتّب له حياته الدنيويّة والأخرويّة:

 

السعادة الدنيويّة: إذ قام بتشريع الأحكام ووضع الضوابط التي تكفل للإنسان سعادته في هذه الحياة، سواء أكان فيمايرتبط بعلاقته مع الناس أم مع نفسه، ومن أمثلة ذلك ما حرّمه من أفعال، كشرب الخمر واستماع الغناء ولعب القمار

 

91

 


83

الموعظة الثانية عشرة: مفهوم السعادة في الإسلام

وتعاطي المخدِّرات وغير ذلك، وأيضاً ما أوجبه من صلاة وصيام وصلة رحم… وأفعالٍ ترجع آثارها الإيجابيّة على نفس الإنسان.

 

إنّ تلك الأحكام هي لضمان حياته الهانئة، مع تأكيده على أنّ الحياة الدنيا ليست سوى سبيل للحياة الأبديّة، قال سبحانه: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[1].

 

وقال أيضاً: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾[2].

 

السعادة الأخرويّة (السعادة الحقيقيّة): وهي السعادة الدائمة الخالدة، وتترتّب على ما يقدّمه الإنسان بين يديّ الله من عملٍ صالح في الحياة الدنيا، قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[3]، وقال: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾[4].

 


[1] سورة النحل، الآية 97.

[2] سورة القصص، الآية 77.

[3] سورة النحل، الآية 32.

[4] سورة النحل، الآية 30.

 

92


84

الموعظة الثانية عشرة: مفهوم السعادة في الإسلام

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “السعيد من اختار باقية يدوم نعيمها، على فانية لا ينفد عذابها، وقدّم لما يقدم عليه ممّا هو في يديه قبل أن يخلفه لمن يسعد بإنفاقه، وقد شقي هو بجمعه”[1].

 

موجبات تحقّق السعادة الدنيويّة

ثمّة بعض الأمور تُسهم في كسب السعادة والطمأنينة النفسيّة، نذكر منها:

1. الإيمان والعمل الصالح

قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ﴾[2].

 

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “بالإيمان يرتقى إلى ذروة السعادة”[3].

 

2. الإكثار من ذكر الله

قال عزّ وجلّ: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾[4]، بل إنّ الغفلة

 


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج74، ص188.

[2] سورة الأنعام، الآية 82.

[3] اللّيثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص189.

[4] سورة الرعد، الآية 28.

 

93


85

الموعظة الثانية عشرة: مفهوم السعادة في الإسلام

عن ذكر الله توجب الشقاء في الحياة، فيعيش الإنسان حالة من الضيق والبؤس، يقول سبحانه: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[1].

 

3. مجالسة العلماء

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “جالس العلماء تسعد”[2]، ذلك أنّ مجالسة العلماء فيها نفع وفائدة، على مستوى العلم والقلب.

 

4. محاسبة النفس

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “من أجهد نفسه في صلاحها سعد، ومن أهمل نفسه في لذّاتها شقي وبعد”[3].

 

علامات السعادة

إنّ لسعادة الإنسان علامات، نذكر منها:

1. قصر الأمل في الدنيا

عن النبيّ  صلى الله عليه وآله وسلم: “إذا استحقّت ولاية اللَّه والسعادة، جاء الأجل

 


[1] سورة طه، الآية 124.

[2] اللّيثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص221.

[3] المصدر نفسه، ص445.

 

94


86

الموعظة الثانية عشرة: مفهوم السعادة في الإسلام

بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر، وإذا استحقّت ولاية الشيطان والشقاوة، جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر”[1].

 

2. دوام العبادة

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة”[2].

 

3. إخلاص العمل

عن أمير المؤمنين عليه السلام: “أمارات السعادة إخلاص العمل”[3]، وقد قال سبحانه في من أفسدوا أعمالهم: ﴿قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا﴾[4].

 

مفاهيم حول السعادة

1. السعادة ليست اللّذّة

كثيراً ما يُخلَط بين السعادة واللّذّة، فتُعَدّ السعادة في ما

 


[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج3، ص258.

[2] اللّيثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص251.

[3] المصدر نفسه، ص70.

[4] سورة الكهف، الآيتان 103 – 104.

 

95


87

الموعظة الثانية عشرة: مفهوم السعادة في الإسلام

اقترن باللّذّة فحسب، فما لم توجد لذّة لاسعادة، وهذا وهم واضح، فإنّ اللّذّة تذهب بذهاب موجبها، ولكنّ السعادة تتعدّاها، إذ إنّها ليست أمراً آنيّاً مؤقّتاً.

 

إنّ اللّذّة، وإن كان يشعر المرء بالسعادة في لحظاتها، إلّا أنّها ربّما توجب الشقاء بعدها، عن الإمام الصادق عليه السلام: “وكم من لذّة ساعة قد أورثت حزناً طويلاً!”[1].

 

2. السعادة انسجام بين القول والفعل

من أهمّ أسباب السعادة اقتران قول الإنسان بفعله، فالمنافق يعيش حالة من البؤس وتأنيب الضمير، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ * كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ﴾[2].

 


[1] المفيد، الشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان، الأمالي، تحقيق حسين الأستاد ولي، عليّ أكبر الغفّاريّ، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان – بيروت، 1414هـ – 1993م، ط2، ص42.

[2] سورة الصفّ، الآيتان 2 و3.

 

96


88

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...