5 – [ الدين الخاتم ]
أوجب الله تعالى على نفسه فتح الطريق لعباده وهدايتهم إليه.
فبعث سبحانه الأنبياء والمرسلين حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولأن مجال بحثنا هنا يبدأ من المسيرة الإسرائيلية لنقف على مشروع المسيح الدجال وينتهي إلى الأمة الخاتمة لنقف على مشروع المهدي المنتظر، فإننا سنلقي هنا بعض الضوء على المسيرة الإسرائيلية باعتبار إنها المسيرة السابقة على الدين الخاتم.
وبنظرة سريعة على المسيرة الإسرائيلية، نجد أن الدين الإلهي الذي بعث به موسى عليه السلام. نزل في وقت بدت فيه أعمال الكفار كالحجب المتراكمة والظلمات التي بعضها فوق بعض تخنق نور المعرفة في القلوب. وقامت فيه الحاجة الإنسانية للأمن والطعام بالهبوط بالإنسانية إلى درك أسفل سافلين، ويعود ذلك إلى العقائد التي رفع الشيطان أعلامها حول الأرباب المتعددة من كواكب ونجوم وأصنام وأوثان، ففي الوقت الذي كانت الإنسانية قد اكتسبت شعورا وجدانيا من الواقع يؤثر في سلوكها وشعورها. ويفرغ عليها طابعا خاصا. نزل الدين الإلهي على موسى عليه السلام. ليقود بني إسرائيل إلى صراط الله
____________
(1) الميزان 73 / 15.
|
الصفحة 26 |
|
الحميد ويكونوا هم بدورهم حجة على غيرهم. ولقد أنعم الله تعالى على بني إسرائيل نعما عديدة. تبدأ ببعثة موسى وهدايتهم إلى دين الله.
وتمر بنجاتهم من آل فرعون وتنتهي بإنزال التوراة وتشريع الشريعة التي تزهو بسنة اجتماعية هي أحسن السنن وهي سنة التوحيد. تأمرهم بطاعة الله ورسوله والعدل التام في مجتمعهم وعدم الاعتداء على غيرهم من الأمم.
وفي خيمة الاجتماع بين لهم موسى أن الأخلاق الفاضلة. تحتاج إلى عامل يحرسها ويحفظها في ثباتها ودوامها وهذا العامل هو التوحيد، وبين أن أركان المجتمع الصالح لا تثبت إلا برجال تحددهم الدعوة من صفاتهم الرسوخ في العلم، وأخبرهم أن تفسير أحكام الشريعة موقوفة على هارون وبنيه (1) وفي الوقت الذي كان موسى عليه السلام يبين فيه طريق الخير. أخبرهم بالغيب عن ربه بأنهم سيختلفون من بعده (2)، وسينحرفون (3) وسيفعلون ما يوجب لعنة الله عليهم (4).
ووقع ما أخبر به موسى عليه السلام، وبرزت قيادات هدفها التصارع على الملك، وكان اختيار هذه القيادات يتم نتيجة لصفات القائد الشخصية وأحيانا الجسمانية، ولم يتطرق الاختيار إلى عامل الأصالة أو المركز الديني، وتحت قيادة هذه الزعامات تسللت ثقافات عبادة العجول وغيرها من الأمم إلى بني إسرائيل، وعندما بعث فيهم داود عليه السلام ساقهم بعيدا عن عبادة المادة ووحد الدولة، ولكن هذا الاصلاح لم يدم طويلا. فبعد سليمان بن داود عليهما السلام انقسمت
____________
(1) أنظر: سفر اللاويين 1 / 9، 8 / 1 – 14.
(2) المصدر السابق 26 / 3 – 8.
(3) التثنية 31 / 4 2 – 29.
(4) المصدر السابق 38 / 15 – 36.
|
الصفحة 27 |
|
الدولة إلى مملكتين لا قوة لهما ولا مهابة، كانت مملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشاليم، بينما كانت مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها (شكيم) ثم (السامرة)، وبين المملكتين اشتعلت الحروب والصراعات، وقامت في كل مملكة العديد من الانقلابات طمعا في الحكم، وكانت هذه الانقلابات تنتهي بمجازر دموية. وفي بعضها كان الطرف المنتصر يقوم بقتل الأسرة المالكة ليقضي على النسل الملكي في المملكة المهزومة، وفي وسط هذا الظلام المتراكم قامت المسيرة الإسرائيلية تحت أعلام المملكتين. بعبادة البعل وبناء المشارف لتقديم الذبائح وصنعوا الشر وحادوا عن طريق الفطرة.
وبينما كانت المسيرة الإسرائيلية تتخبط في دروب الانحراف. جاء ملك آشور على مملكة إسرائيل وقام بسبيهم (عام 721 ق). وجاء ملك بابل على مملكة يهوذا وقام بسبيهم (عام 586 – ق م). وفي أرض السبي تغذت المسيرة الإسرائيلية من الثقافات العنصرية. ومن عقائد لا تؤمن بما وراء الحس. ولا ينقاد أتباعها إلا إلى اللذة والكمال المادي. وفي الحي اليهودي تلبست هذه الثقافات بلباس الدين. وظهرت مقولات الأخبار التي تصف اليهود بأنهم المخصوصون بالكرامة الإلهية لا تعدوهم إلى غيرهم. وبرروا ذلك بأن الله جعل فيهم نبوة وكتابا وملكا.
فلهم بذلك السيادة والتقدم على غيرهم. وأخذوا من أفواه أحبارهم أن الدين الموسوي لا يعدوا بني إسرائيل إلى غيرهم، وعلى هذا فهو جنسية بينهم، ولما كانت هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بني إسرائيل، فالانتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره. وتحت قيادة الحس والمادة أصبح القوم لا يقبلون قولا إلا إذا دل عليه الحس. وأن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبرائهم من جمال المادة وزخرف الحياة، وعلى امتداد هذا الفقه تناقضت الملكات الإنسانية قولا وفعلا بعد أن
|
الصفحة 28 |
|
كفر أصحابها بنعمة الله، وأنتج هذا التناقض العديد من الفتن المهلكة.
ولأن هذه الفتن تقود أصحابها إلى المسيح الدجال. وقعت المسيرة إلا من رحم الله في شراك الدجال. يقول النبي في (ص) ” وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال ” (1).
ومن لطف الله تعالى بعباده بعث فيهم المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولكن بنو إسرائيل كذبوه وطالبوه بأن يعيد لهم الملك إن كان هو المسيح حقا، وهذه الروح الباغية التي دبت في قلوبهم جعلتهم يفسدون في الأرض ويميتوا الروح الإنسانية وآثارها الحاكمة في الجامعة البشرية، وكانت مقولة شعب الله المختار وأرض الميعاد أصل أصيل في الصد عن سبيل الله. لأن الفطرة تقول بأن الأرض لله يورثها الله من يشاء من عباده، والله تعالى لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا ولا يكرم أحدا إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، لأن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل ناعق.
أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية، بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين، فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدوا عباده المتقين. وأثرها النصرة الإلهية والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة.
وفي الوقت الذي كانت الظلمات فيه بعضها فوق بعض، بعث الله تعالى رسوله محمد (ص) بالرسالة الخاتمة إلى الإنسانية جمعاء، ولأن الإنسان كائن حي يرغب ويحس ويدرك وينفعل ويتذكر. ويتعلم ويتخيل ويفكر ويعبر ويريد ويفعل، ولأن العلاقة بين الإنسان وبيئته علاقة أخذ وعطاء وفعل وانفعال وتأثير متبادل وصراع موصول. وهو في تعامله
____________
(1) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).
|
الصفحة 29 |
|
معها يتأثر وينفعل بشتى الانفعالات. ويعبر عن أفكاره ومشاعره باللفظ تارة وبالحركة والإشارة تارة أخرى. ويكد ويسعى ويضرب في الأرض ويندمج في حلقات اجتماعية، فلأجل ذلك وغيره. قامت الرسالة الخاتمة بتوجيه الغرائز والانفعالات الإنسانية، ليتم التآلف بين العناصر المختلفة للشخصية وتتحد ويقوى ما بينها من ارتباطات. لتسلك مسلكا واحدا نحو هدف واحد.
وعلى امتداد عهد البعثة الخاتمة، خاطب القرآن والسنة المطهرة عقل الإنسان ووجدانه. وتم إرشاده إلى معرفة الله والإيمان به، وبينت له العبادات التي تدعم صلة الإنسان بربه وتزكي نفسه وتسمو بروحه، وانطلق الخطاب إلى المجتمع فبينت الأحكام والمبادئ التشريعية الأمور التي تنظم أمر المجتمع تنظيما عادلا متوازنا. وتخلصه من كل أسباب الصراع والانحراف وتتكافأ فيه الفرص لجميع الناس في حدود قدراتهم المختلفة، وأمر الشرع الحنيف برد أي اختلاف إلى الله ورسوله. قال تعالى: (وما اختلفتم في شئ فحكمه إلى الله) (1).
وقال: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (2). وأمر الله الذين آمنوا بأن لا يكون لهم اختيار أمام اختيار الله ورسوله. قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) (3). وعلى هذا فمن حكم بغير حكم الله ورسوله يكون قد وقف في دائرة من دوائر ثلاث: دائرة الكفر لقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (4). أو دائرة الظلم. لقوله تعالى: (ومن
____________
(1) سورة الثوري آية 10.
(2) سورة الحشر آية 7.
(3) سورة الأحزاب آية 36.
(4) سورة المائدة 44.
|
الصفحة 30 |
|
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) (1) أو دائرة الفسق لقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) (2). وتحديد كل دائرة يخضع لفقه دقيق عال. فمن أراد الوقوف عليه فليراجع كتب العلماء.
والقرآن الكريم كتاب البعثة الخاتمة. يهدي العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله. وسلوك ما تألفه وتعرفه بحسب طبعها. ويحث حثا بالغا على تعاطي العلم ورفض الجهل. في جميع ما يتعلق بالسماويات والأرضيات والنبات والحيوان والإنسان من أجزاء عالمنا وما وراءه من الملائكة والشياطين وغير ذلك. ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، واشترط القرآن التقوى في التفكر والتذكر والتعقل وربط العلم بالعمل. للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم وخلوصه من الأوهام الحيوانية والإلقاءات الشيطانية. والقرآن الكريم يتعرض بمنطقه لجميع شؤون الحياة الإنسانية. ويحكم على الإنسان منفردا أو مجتمعا صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى. ويحكم على الحاضر والبادي والعالم والجاهل والشاهد والغائب، في أي زمان كان وفي أي مكان كان، وجميع المعارف الإلهية والحقائق الموجودة في القرآن تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد.
والدعوة الخاتمة لا تفرق بين أحد من رسل الله، لأن الدعوة الإلهية للبشرية دعوة واحدة، قال تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله) (3). فأمرت الدعوة بالإيمان بجميع الأنبياء والرسل. لأن من
____________
(1) سورة المائدة 45.
(2) سورة المائدة 47.
(3) سورة البقرة آية 285.
|
الصفحة 31 |
|
كذب نبي من الأنبياء يكون في الحقيقة قد كذب جميع الأنبياء وفرق بين الله ورسله. قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا) (1).
وبالجملة:
إن البعثة الخاتمة تقضي بوقوف الاستكمال الإنساني. فعدم نسخ الدين وثبات الشريعة. يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه، والقرآن كتاب لا يقبل الإبطال والتهذيب والتغيير والنسخ، وثبات الشريعة يفيد بأن الحجة الدامغة قد أحاطت بالناس وهم يسيرون تحت سنة الامتحان لينظر الله إليهم كيف يعملون، وتحت هذه السنة نفى الله الدين الإجباري بعد أن تبين للناس الرشد من الغي. قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) (2).