الرئيسية / من / طرائف الحكم / وموعظة للمتقين …

وموعظة للمتقين …

الدرس الثامن: الحزن والبكاء لله تعالى

 

عن الإمام عليّ ابن أبي طالب عليه السلام أنّه قال:

 

“المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، يكره الرِفعة، ويشنأُ السُمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور، صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد” .

(نهج البلاغة, رقم المحكمة:333)

 

 

 

تمهيد:

 

روي أنّ سبعة من فقراء الأنصار جاؤوا إلى الرسولصلى الله عليه وآله وسلم وطلبوا منه تمكينهم من الاشتراك في الجهاد، فاعتذر منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم وجدانه لما يحملهم عليه، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع، فنزل قوله تعالى: “وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ”1.

 

هذه الآية نزلت بشأنهم، وعُرِفوا بعد ذلك باسم البكّائين2.

 

الحزن إن كان لله تعالى فهو آية الإيمان، وعلامة الشوق إلى الله سبحانه وتعالى، الذي يمثّل الكمال والخير المطلق. وقد ذُكر أنّ الحزن يكون بمعنى التوجّع على ما فات ممّا يقبل التدارك بمثل القضاء أو التوبة أو نحو ذلك، وقد يكون بمعنى التأسّف على الممتنع كما في مورد الآية المباركة. ولا يهمّنا كثيراً التعرّض لمناشىء الحزن بقدر ما يهمّنا البحث عن فوائده وكيفيّة الاستفادة منه كنعمة تقرّب من الله سبحانه وتعالى.

 

1-سورة التوبة، الآية: 92.

2- راجع تفسير نمونه ج 8، ص 80.

 

من فوائد الحزن للّه عزّ وجلّ:

 

1 ـ من فوائد الحزن في الموارد التي يمكن فيها تدارك المحزون عليه، أن يهبّ الحزين لطلب ذلك المحزون عليه أو تداركه.

 

2 ـ دفع السرور الزائد الّذي يُميت القلب، ويبعث إلى التميّع وعدم المبالاة في أقلّ تقدير، ويسبّب الأشر والبطر، وذلك من المهلكات، فعن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة المتّقين: “… قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أيّاماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم…”3.

 

ولا يَخفى أنّنا لا نعني بالحزنِ الحزنَ الذي يؤدّي إلى شلل الإنسان عن العمل الاجتماعيّ، وعن الانشراح مع إخوانه المؤمنين، ويوجب انقباضه عن الناس، وانقباض الناس عنه، وإنمّا نعني أنّ حزن الإنسان المؤمن يكون كامناً في قلبه، يمنعه عن الأشر والبطر والبطالة، إلا أنّ بِشره في وجهه، يحبّبه إلى الناس، ويجلب عواطفهم.

 

فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، يكره الرِفعة، ويشنأُ السُمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور، صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد”4.

 

3- نهج البلاغة، رقم الخطبة: 193.

4- م. ن، رقم الحكمة: 333.

 

معنى قوله عليه السلام: “المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه” أنّ هاتين الصفتين تكاسر إحداهما الأُخرى، وترفع الآثار السيّئة عنها، فإنّ الحزن وحده يؤدّي إلى الانكماش عن المجتمع وعن الأعمال الاجتماعيّة، كما أنّ البِشر وحده يؤدّي إلى البطالة والبطر، ولكن متى ما اجتمع الحزن الإلهيّ في القلب مع البِشر المأمور به المؤمن أمام الناس، يتمّ الاعتدال، وتكون كلّ من الصفتين كمالاً محضاً، ونافعةً له ولمجتمعه ولدينه ودنياه وآخرته.

 

ومعنى قوله عليه السلام: “أوسع شيء صدراً وأذلّ شيء نفساً” أنّه حينما يصبح الإنسان واسع الصدر ـ وسعة الصدر آلة الرئاسة ـ قد يأخذه الغرور بسبب نجاحه في الأمور وقدرته على حلّ المشاكل بسعة الصدر، ولكن يعالج ذلك وصفُهُ الآخر، وهو: أنّه “أذلّ شيء نفساً” فهو دائماً يلحظ نقائص نفسه، ويُذلّ نفسَه أمام قلبه، ويؤنّبها على أخطائها، ويراها دائماً مقصّرة، وهذا يمنع عن بروز تلك الحال، ويؤدّي إلى الاعتدال المطلوب.

 

وفي قوله عليه السلام: “ضنين بخلّته” يُحتمَل في كلمة (الخلّة) فتح الخاء وضمّها5، فعلى الفتح تكون بمعنى الفقر والحاجة، ويكون المعنى: أنّ المؤمن يبخل بعرض حاجته على الناس، فلا يمدّ يد الحاجة إليهم، وعلى الضمّ يكون معناها: من الإخلاص والصداقة، ومعنى الاحتفاظ بالخُلّة، أي: الصداقة أو الأصدقاء، أن يكون وفيّاً للّذين اتّخذهم أخلاّء في الله حافظاً لهم للغيب بما حفظ الله باذلاً لهم النصح والمعونة.

 

وفي قوله عليه السلام: “نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد” صفتان أيضاً تُصلح إحداهما الأُخرى، فإنّ الصلادة والصلابة وإن كانتا يُقصد بهما الشجاعة في ذات الله والمقاومة للحقّ وصدّ الباطل، ولكن قد توجب هذه الحالة ـ والتي هي

 

5- راجع مجمع البحرين، الطريحي، ج 5، ص 365.

 

 نوع اعتماد على النفس ـ الغرور والتكبّر، ولكنّه حينما كان ـ أيضاً ـ متّصفاً بأنّ نفسه أذلّ عنده من العبد تكون الصفتان نافعتين وكمالاً عظيماً للنفس.

 

البكاء مظهر الحزن:

 

إنّ من مظاهر الحزن الشديد البكاء. والروايات المادحة للبكاء من خشية الله أو من الحزن كثيرة نذكر بعضها:

 

فعن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المناهي: قال: “ومَنْ ذرفت عيناه من خشية الله كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصرٌ في الجنّة، مكلّل بالدرّ والجوهر، فيه ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”6.

 

ولا غرابة من عظيم هذا الثواب بحيث يوصف بأنّه لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كيف رُتِّب على مجرّد قطرة من الدمع، لأنّ الدمعة كدمعة قد لا يكون لها أيّ أثر ولكن ما يترتّب على الدمعة هو الّذي له هذا الأجر العظيم:

 

آثار البكاء من خشية اللّه:

 

1 ـ ما يكشف عنه البكاء:

 

إنّ البكاء يكشف عن التحوّل العظيم في نفس الباكي، والتفاعل الكامل مع الله سبحانه وتعالى ومع أوامره ونواهيه، وتجلّي عظمته تعالى في قلب الباكي وخشوعه له. ومن هنا يكون البكاء ـ أيضاً ـ كاشفاً عن مستوىً عالٍ من الندم على المعاصي، وموجباً لغفران الذنوب، كما ورد في الحديث عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، عن الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ الرجل ليكون بينه وبين الجنّة أكثر ممّا بين الثرى إلى العرش, لكثرة ذنوبه، فما هو إلاّ أن يبكي من خشية الله عزّ

 

6- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج15، ص 223.

 

 وجلّ ـ ندماً عليها حتّى يصير بينه وبينها أقرب من جفنه إلى مقلته”7.

 

ولا يعني ذلك أنّه ينفي سائر شرائط التوبة، بل كأنّه ينظر إلى أنّ البكاء لو كان بكاءً مرتبطاً بالندم ارتباطاً حقيقيّاً فهو يُلازم تحقّق باقي شرائط التوبة.

 

فعندما تحصل حالة البكاء عند الإنسان عليه استثمارها في سبيل تربية النفس وتزكيتها وتنميتها، وذلك عن طريق أن يفرض الشخص على نفسه في تلك الحالة ما يشاء من ترك المذموم من الخصال أو الأفعال، أو الالتزام بالممدوح من الخصال أو الأفعال، فإنّ النفس تقبل منه هذا التحميل في تلك الساعة التي هي ساعة الصفاء وساعة الانفتاح على العالَم العلويّ، في حين أنّه لو أراد الإنسان أن يأخذ على نفسه التزاماً من هذا القبيل في أيّ ساعة أُخرى ربما لا تُعطيه نفسه ذلك ولا تطاوعه.

 

2ـ الاقتراب من الله:

 

إنّ ما يترتّب على البكاء من الاقتراب العاطفيّ الكبير من الله جلّت عظمته، وخَرق حُجُب النفس ممّا يؤدّي إلى تركّز التفاعل مع الله في النفس أكثر من ذي قبل, ولذا ينبغي للباكي أن يغتنم فرصة تلك الحالة الذهبيّة الّتي حصلت له في تهذيب نفسه وتزكيتها, فإنّ هذه الفرصة لا تحصل في أيّ وقت شاء.

 

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: قال: “ما من شيء إلاّ وله كيل ووزن، إلاّ الدموع, فإنّ القطرة تُطفئ بحاراً من نار، فإذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قترٌ ولا ذلّة، فإذا فاضت حرّمها الله على النار، ولو أنّ باكياً بكى في أُمّة لرُحموا”8.

 

وعن الإمام الرضا عليه السلام في حديث صحيح السند قال: “كان فيما ناجى الله به موسى عليه السلام أنّه ما تقرّب إليّ المتقرّبون بمثل البكاء من خشيتي، وما تعبّد

 

7- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 226 ـ 227، الحديث 10.

8- م. ن، ص227، الحديث 11.

 

 لي المتعبّدون بمثل الورع عن محارمي، ولا تزيّن لي المتزيّنون بمثل الزهد في الدنيا عمّا يهمّ الغنى عنه. فقال موسى عليه السلام: يا أكرم الأكرمين: فما أثبتَهم على ذلك؟ فقال: يا موسى، أمّا المتقرّبون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد، وأمّا المتعبّدون لي بالورع عن محارمي فإنّي أُفتّش الناس عن أعمالهم، ولا أُفتّشهم حياءً منهم، وأمّا المتزيّنون لي بالزهد في الدنيا فإنّي أبيحهم الجنّة بحذافيرها يتبوّؤن منها حيث يشاؤون”9.

 

هذا، والبكاء ليس نتيجة الحزن فحسب، بل يكون نتيجة لبعض الصفات والحالات الأُخرى أيضاً كالخوف والخشوع، قال الله تعالى: ” قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً”10.

 

وقال الله سبحانه أيضاً: “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً”11.

 

آفّات البكاء:

 

ولكنّنا يجب أن ننبّه أخيراً إلى بعض الآفّات الّتي قد تترتّب على البكاء, كي يلتفت إليها الباكي من خشية الله ويحترز منها. وطبعاً إنّ هذه الآفّات لو ترتّبت على البكاء فهي نتيجة ضعف نفس الباكي، وإلّا فليس من المفروض أن يترتّب على البكاء من خشية الله أو من عظمته أو ما إلى ذلك غير الخير والسعادة.

 

1 ـ الزهو والكبرياء:

 

إنّ النفس نتيجة ضعفها قد تُبتلى عقيب طاعاتها وعباداتها بآفّة العُجب وحالة

 

9- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج15، ص226، الحديث 9.

10- سورة الإسراء، الآيات: 107 ـ 109.

11- سورة مريم، الآية: 58.

 

  الزهو والكبرياء والتبختر، وذلك من أعظم الذنوب، فلا بدّ من الالتفات إلى هذه الآفّة والتجنّب عنها، وذلك بالتفات النفس ضمن ما هي عليه من كمال نتيجة طاعتها إلى ما لها من نقائص لا تنتهي مهما بلغت من مرقاة الكمال، وأنّ ما حصلت عليه من كمال إنّما حصلت عليه بفضل الله ورحمته وبحوله وقوّته، وليس قد بلغت ما بلغت من تلقاء نفسها. قال الله تعالى:

 

“… وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً…”12.

 

وقد ورد في حديث صحيح السند عن الحذّاء، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال الله عزّ وجلّ: لا يتّكل العاملون على أعمالهم الّتي يعملون بها لثوابي فإنّهم لو اجتهدوا وأفنوا أعمارهم في عبادتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كُنهَ عبادتي فيما يطلبون من كرامتي، والنعيم في جنّاتي ورفيع الدرجات العُلى في جواري، ولكن برحمتي فليثقوا أو فضلي فليرجوا وإلى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا فإنّ رحمتي عند ذلك تُدركهم وبمنّي أُبلّغهم رضواني، وألبسهم عفوي فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم بذلك تسمّيت”13.

 

وهذه الآفّة لا تختصّ بالبكاء، بل كثيراً ما تعرض على باقي العبادات والطاعات أيضاً.

 

وورد ـ أيضاً ـ بسند صحيح عن الفضل بن يونس، عن أبي الحسن عليه السلام قال: “قال: أكثر من أن تقول: اللّهمّ لا تجعلني من المعارين ولا تُخرجني من التقصير. قلت: أمّا المعارون فقد عرفت أنّ الرجل يعار الدين ثُمّ يخرج منه، فما معنى لا تخرجني من التقصير؟ فقال: كلّ عمل تريد به الله عزّ وجلّ فكن فيه مقصّراً عند نفسك، فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم وبين الله مقصّرون، إلاّ من عصمه الله عزّ وجلّ”14.

 

12- سورة النور، الآية: 21.

13- الكافي، الكليني، ج2، ص 61

14- م. ن، ج2، ص73.

 

2ـ الارتخاء والغفلة عن الوظائف:

 

إنّ من تفاعل مع خشيّة ربّه إلى حدّ البكاء قد يتخيّل أنّه قد أدّى الوظيفة، فينسى أو يتناسى وظائفه الّتي تكلّفه بذل المال أو الراحة أو النفس أو ما إلى ذلك في سبيل المبدأ والعقيدة والإسلام والمسلمين، أو يغفل عن الوظائف الاجتماعيّة الّتي يجب أن يقوم بها، ويتقوقع على نفسه وهو مسرور بأنّه قد أدّى ما عليه ما دام قد تفاعل مع طاعة الله تفاعلاً معنويّاً وصل إلى مستوى البكاء، ويكون ذلك وسيلة له للتقاعس عن التضحيات اللازمة من دون الإحساس بوخز الضمير. وهذه الآفّة ـ أيضاً ـ قد تترتّب على العبادات الأُخرى ولو بمستوى أقلّ ممّا تترتّب على البكاء.

 

وهذه ـ أيضاً ـ من نتائج ضعف النفس، وإلّا فليس المفروض بالبكاء أو بأيّ عبادة أُخرى أن يترتّب عليه ذلك.

 

وليس علاجها بترك البكاء أو ترك الطاعة أو العبادة، فإنّ ذلك إعانةٌ للشيطان على هدفه، بل علاجها يكون بمزيد من الالتفات والتيقّظ، وبمعرفة حرمة ما تصنعه، وكذلك يكون العلاج بتعويد النفس على خلاف هذه الآفّة.

 

3 ـ برودة القلب:

 

إنّ البكاء من طبيعته أنّه يبرّد القلب، وينفّس عن الإنسان، ولهذا قد يُؤمَر المصاب بفقد عزيز من أعزّائه مثلاً بالبكاء على فقيده، وذلك لكي ينفّس عن نفسه ويخفِّف ألم المصيبة. وقد يتّفق أنّ الإنسان المؤمن حينما برّد قلبه بالبكاء يرى نفسه واصلاً إلى مقام القرب من الله، فيضعُف عن أداء وظائفه الاجتماعيّة، ويترك ما عليه من التضحيات أو الاهتمامات التي تحتاج إلى بذل المال تارةً، أو بذل النفس أُخرى، أو بذل الراحة ثالثةً وما إلى ذلك، فيبتعد بذلك عن الله تعالى بدلاً عن الاقتراب إليه سبحانه.

 

فهذه الآفّة ـ أيضاً ـ بحاجة إلى مزيد من اليقظة ومراقبة النفس ومحاسبتها, كي

 

 لا يتورّط الإنسان المؤمن في هذه المصيدة الشيطانيّة.

 

هذه الآفّة تختصّ بالبكاء، ولا تترتّب على سائر العبادات والطاعات.

 

والواقع: أنّ الشيطان يدخل مع كلّ إنسان المدخلَ المناسب له في إغوائه، فليس يقدر مع كلّ أحد على إغرائه بالخمور أو الفساد الجنسيّ ـ والعياذ بالله ـ أو ما إلى ذلك، لأنّ الشخص ربّما لا تكون هوايته إلّا في العبادة والطاعة، فيدخل معه نفس المدخل، ويُفسد عبادته بالعُجب أو الرياء، أو يجعلها سبباً لانكماشه عن أداء الوظائف الاجتماعيّة، وابتعاده عن خدمة الأهداف الإسلاميّة أو ما إلى ذلك.

 

فهلمّ إلى التيقّظ الكامل، ومراقبة النفس الدقيقة، ومحاسبتها قبل أن تُحاسَب يوم القيامة من لدن الناقد البصير الذي “يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ”15.

 

15- سورة غافر، الآية: 19.

 

مطالعة

 

العابد والفاسق

 

رُوِي أنّ زنديقاً وصدّيقاً قد يدخلان مسجداً، فيخرج الصدّيق زنديقاً, لما يُبتلى به من عُجب وغرور، ويخرج الزنديق صدّيقاً, لما يحظى به من توبة ومن استهانته بنفسه بالقياس إلى الصدّيق.

 

ورُوي ـ أيضاً ـ: أنّ عيسى ـ عليه وعلى نبيّنا وآله السلام ـ وصل في سيره في الصحراء إلى صومعة أحد الرهبان، وانشغل بالحديث معه، وإذا بشابّ معروف بالفسق والفجور ومشهور بالمعاصي مرّ في ذاك الطريق، فوقع نظره على عيسى عليه السلام مع ذاك العابد، ففترت رجله عن المشي، ووقف مكانه وقال: يا إلهي لو رآني عيسى على ما أنا عليه من الوضع المخجل ماذا أفعل؟ ولو عاتبني على ما صدر عنّي كيف أُعالج الوضع؟ ولمّا وقع نظر العابد على الفاسق رفع رأسه إلى السماء وقال: اللّهمّ لا تحشرني في يوم القيامة مع هذا الفاسق الفاجر، فأوحى الله إلى عيسى عليه السلام: قل لهذا العابد: إنّنا استجبنا دعاءك، ولا نحشرك معه, فإنّه أصبح من أهل الجنّة بتوبته، وأصبحت من أهل النار بغرورك ونخوتك وعجبك16.

 

16- خزينة الجواهر، ص 647، نقلاً عن تزكية النفس للسيّد كاظم الحائري، ص 301.

 

 

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...