د . احمد الدرزي
ما بعد لقاء طهران الثلاثي.. المأساة السورية مستمرة
عوّل الكثير من السوريين على اللقاء الثلاثي في طهران، وذهب البعض منهم إلى التأكيد أن ما بعد هذا اللقاء ليس كما قبله، استناداً إلى ارتفاع مستوى التنسيق الروسي الإيراني بشكل غير مسبوق، وغير متوقع، وتأثير ذلك في الموقف التركي، بالذهاب نحو مصالحة بين دمشق وأنقرة، لكنّ البيان الصادر بعد اختتام القمة، لم يُخفض من مستوى المخاطر التركية من استخدام القوة العسكرية لاحتلال المزيد من الأراضي السورية.
كانت الرسالة التركية واضحة قبل انعقاد المؤتمر، بعد أن تم بث اللقاء الذي أجراه الجولاني مع وزراء حكومة الإنقاذ في إدلب، وتركيزه على ضرورة بناء كيان سياسي ديني مذهبي في المناطق التي يسيطر عليها تنظيم “فتح الشام”، مع التهديد بالعودة إلى احتلال حلب، فكانت رسالة واضحة المعالم لكل من روسيا وإيران بعدم تغيير الموقف التركي تجاه سوريا، وبأن الأمور ستسير وفقاً للاحتياجات السياسية والاقتصادية للرئيس إردوغان.
استطاع الرئيس التركي تجاوز كل الضغوط الإيرانية والروسية، لدفعه نحو التصالح مع سوريا، بالعودة إلى اتفاق “أضنة”، الذي وقعه الطرفان عام 1999، ولَم يكن لهذا الموقف الرافض أن ينجح، لولا إدراك الرئيس التركي لقيمة الأوراق التي يمتلكها، لتحديد الدور الإقليمي لبلاده، ضمن نظام إقليمي جديد، يتم العمل عليه بعد اجتماع أستانة الأول بين روسيا وإيران وتركيا بداية عام 2017، الذي استند من البداية إلى إيجاد إطار تنسيقي ذي طابع إقليمي، انطلاقاً من محورية سوريا للأطراف الثلاثة، بعد الدخول الإيراني الروسي لمواجهة تركيا، التي كانت تدير العمليات العسكرية، بعد تكليفها وفرنسا بالسيطرة على سوريا، إثر اجتماع “لشبونة”، الذي عقده حلف “الناتو”، أواخر عام 2010.
وبقدر التهديدات التي شكلتها سوريا كساحة لمواجهة عسكرية مباشرة بين هذه الأطراف، فإنها شكلت فرصة لكل طرف، لبناء نظام إقليمي جديد، لإدراك هذه الأطراف بأن الصدام العسكري المباشر سيرتد على البنى الداخلية لكل منها، بما يتيح للقوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة النجاح بتفكيك الدول الثلاث، وخاصةً روسيا وإيران اللتين تتمتعان باستقلالية القرار الكامل، وملكة التحدي للمشروع الأميركي المُهدد لهما، واستغلال تركيا للدور الذي أُعطيت إياه، وحولته لمصلحتها، بمعزل عن المصالح الغربية.
ويشكل اجتماع الدول الثلاث المتتابع على مدى 5 سنوات ونصف، النواة الأساسية لتشكيل نظام إقليمي جديد قابل للتوسع نحو الخليج وشمال أفريقيا والهند، عدا عن تلاقيه مع المشروع الصيني في “مبادرة الحزام والطريق”، وقد أبرزت احتياجات الأطراف الثلاث إلى بعضها البعض، قدراً كبيراً من الهوامش، التي أتاحت لها، التعاطي مع بعضها البعض ببرودة كاملة، كما أظهرت قدراً كبيراً من الصبر على بعضها البعض، رغم التناقضات الشديدة، خاصةً بين روسيا وإيران من جهة، وتركيا من جهة أُخرى في سوريا والقوقاز، بالإضافة إلى العراق وليبيا.
فروسيا تنطلق بعلاقاتها مع كل من إيران وتركيا، باعتبارهما الركنين الأساسيين في مشروعها الأوراسي، وفقاً لنظرية ألكسندر دوغين، الذي يُعدّ عقل الرئيس بوتين، ما يدفع بقادة موسكو إلى التعاطي مع تركيا بحذر شديد، والعمل على احتوائها، والدفع بها نحو شراكة إقليمية كبيرة، رغم اعتبارها العضو الأخطر في حلف “الناتو”، بالإضافة إلى ما تمتلكه تركيا من أوراق ضاغطة قومياً ودينياً في آسيا الوسطى والداخل الروسي.
وكذلك الأمر إيران، فهي مدفوعة إلى التعامل مع تركيا بحكم الجوار الجغرافي المباشر، وتداخل النسيج الاجتماعي لكلا البلدين، عدا عن القلق الإيراني من التداعيات القومية والدينية على الداخل الإيراني ومحيطها، بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية الكبيرة بين البلدين، في ظل العقوبات الأميركية المديدة على إيران.
وفي المقابل، فإن تركيا تدرك بقيادة إردوغان، أن الفرصة مناسبة لاستعادة الدور الإمبراطوري، بحكم ما تمتلكه من أوراق قوة، أتاحت لها هامشاً كبيراً للمناورة بين كل الأطراف الإقليمية والدولية، للحصول على مكاسب كبرى، والاعتراف بها كأكبر قوة إقليمية، للانتقال نحو الاعتراف بها كقوة إمبراطورية كسابق عهدها، قبل انهيار الدولة العثمانية.
وهذا الأمر انعكس سلباً على سوريا، ما أتاح لأنقرة أن تكون لاعباً أساسياً في الساحة السورية، ولا يمكن لأي طرف إقليمي أو دولي أن ينكر أهمية دورها، سلباً أم إيجاباً، وهي تشترك مع سوريا بالحدود الأطول للبلدين (900 كم)، مع تداخل شديد التعقيد للنسيج الاجتماعي على طرفي الحدود، والإرث التاريخي الطويل المشترك بكل مراراته، وانتمائهما إلى منطقة تفاعل حضارات وإمبراطوريات متعاقبة على المنطقة.
وهذا ما مكَّنها من مقاومة الضغوط الروسية والإيرانية، لإيجاد مخرج لحل سياسي في سوريا، بما يحفظ وحدة أراضيها واستقلالها، والدفع بشريكتيها في أستانة لفصل الملف السوري عن بقية الملفات المشتركة بين البلدان الثلاثة، ورفع مستوى التنسيق فيما بينها لعدم الصدام في سوريا والعراق والقوقاز وليبيا، والذهاب نحو شراكات اقتصادية كبيرة فيما بينها، بمعزل عن إيجاد حل للكارثة السورية، وهذا ما شهدناه في الاجتماع الثلاثي في طهران، حيث لم يُبت الأمر بمنع هجوم عسكري تركي جديد، مع الإصرار على مزيد من احتلال الأراضي، بذريعة إيجاد مناطق أمنية عازلة، على عمق 30 كم من الحدود التركية.
الشيء الوحيد الإيجابي من اجتماع طهران بالنسبة إلى سوريا، هو الانتقال بالعلاقات بين روسيا وإيران إلى مستوى متقدم جداً بين الطرفين، وما يمكن أن يؤثر ذلك في تضييق الاختلافات داخل سوريا إلى أضيق الحدود، والدفع بهما أكثر إلى تركيز الجهود، لإجبار تركيا على مراجعة سياساتها مع سوريا، والانسحاب من كل المناطق التي احتلتها، وإعادة أهلها إليها، مع تفكيك المنظمات الإرهابية التي ترعاها.
لا يمكن لأي نظام إقليمي يتم العمل عليه أن يكتمل بدون سوريا، التي تحولت إلى عنوان لعدم الاستقرار، ليس فقط في سوريا ذاتها، وإنما في منطقة غرب آسيا بأكملها، وهذا الأمر يحتاج إلى وصول الجميع إلى قناعة نهائية، بأن التعاون الإقليمي هو الوحيد الذي يمكنه أن يوفر الاستقرار والأمن والتنمية لجميع شعوب المنطقة الأصيلة، شرط تغيير البنى الداخلية لهذه الدول، وبالخصوص سوريا، التي تحتاج إلى تغيير جذري عميق وهادئ لمصلحة جميع أبنائها.