الرئيسية / الاسلام والحياة / دراسات عقائدية

دراسات عقائدية

 الدرس السابع عشر: المعجزة الخاصّة

 

أهداف الدرس

 

1- إيضاح الفارق بين معجزة القرآن ومعاجز الأنبياء الآخرين.

2- القدرة على شرح الفصاحة والبلاغة وإعجاز القرآن من خلالهما.

3- إعطاء بعض الأمثلة حول الإعجاز العلمي.

4- القدرة على شرح الإعجاز اللفظي.

5- فهم الإعجاز المنطقي في القرآن.

6- القدرة على تعداد مناشئ الخطأ الذهني بحسب القرآن الكريم.

 

إعجاز القرآن الكريم

 

تحدَّثنا في ما سبق عن المعجزة بشكلٍ عامّ، ونتحدَّث في هذا البحث عن المعجزة بشكلٍ خاصٍّ، أي عن معجزة نبِيٍّ من الأنبياء عليهم السلام بعينِه، وسنجعل الكلام حول معجزة النبِيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الخالِدة، ألا وهي القرآن الكريم، الذي تحدّى بنفسه، ومنذ أوّل نزوله، البشر جميعاً أن يأتوا بمثله، فقال: ﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾1.

 

ولم يكتفِ بذلك، بل تحدّاهم أن يأتوا بعشر سورٍ مثله، بل بسورةٍ مثله، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾2، وقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾3.

1- الإسراء / 88.

2- هود / 13.

3- يونس / 38.

 

ميزة القرآن

 

ويتميَّز القرآن عن غيره من معجزات الأنبياء بأنَّه كلامٌ، وطبيعة الكلام تختلف عن طبيعة غيرِه بأمرَيْن:

 

أوّلاً: أنَّه يدلُّ على المتكلِّم أكثر من أيِّ فعلٍ آخر.

ثانياً: أنَّه قابِلٌ للبقاء دون غيرِه.

 

ومن هنا نرى أنَّ معجزات الأنبياء كانت وقائع حدثت في زمنٍ ما، وشاهدها عددٌ محدودٌ من الناس، وأمّا الآخرون فينبغي لهم الإطّلاع عليها بالنقل.

 

في حين أنَّ القرآن الكريم، الذي هو عبارة عن كلام الله تعالى، بقي خالِداً، تتناقله الأجيال في ما بينها، كمعجزةٍ حاضرةٍ لكُلِّ الناس، وفي كُلِّ زمانٍ ومكانٍ.

 

بعض جهات إعجاز القرآن

 

1- الفصاحة والبلاغة

 

الفصاحة من مقولة الجمال، وهو يرتبط بالقلب والمشاعر، لا بالعقل والفكر.

 

والقرآن في ما يرتبط بإعجازه من جهة الجمال هو نصٌّ جذّابٌ، ويتعاطى مع الإحساس المعنويّ للإنسان، أي مع تلك الأحاسيس التي تحرّك الإنسان، وتدفعه صوب العالم العلوِيّ.

 

القرآن والتعبير الشعرِي

 

لم يعتمد القرآن في تعابيره على ما شاع عند الفصحاء والبلغاء من أنَّ

 

الجمال قد يكون في الكذب، بحيث ترى الشعراء يتفنّنون في تضمين أشعارهم بعض الصور الفاقعة الكذب، وذلك كنوعٍ من إضفاء مسحة من الجمال على قصائدهم، وقد قيل في الشعر: أعذبه أكذبه.

 

ولكنَّ القرآن الكريم رفض هذا المنطق، ولم يستخدمه بتاتاً، فهو من هذه الناحية يختلف مع الشعر تماماً، وإنْ كان يتفق معه من نواحٍ أخرى، كقابليّته للنغم، وستأتي الإشارة لهذا في ما بعد إنْ شاء الله تعالى.

 

القرآن والتشبيهات

 

لم يستخدم القرآن التشبيه كثيراً، بل التشبيهُ فيه قليلٌ جدّاً.

 

ولعلّ السرّ في ذلك أنَّ القرآن كتابُ هدايةٍ، ومن هنا لم يكن تركيزه على الجمال، بل ذكر المسائل التي يذعن لها عقلُ الإنسان بعيداً عن الخيال.

 

ومع ذلك فهو جميلٌ وإستثنائيٌّ، حيث كانت كلماتُه وتعابيرُه وتصويراتُه فائقة الجمال.

 

ومن هنا نخلص إلى القول بأنَّ القرآن معجزةٌ، بمحتوياته، وبلفظه، وجماله وشكله معاً4.

4- ولا بُدَّ هُنا من الإشارة إلى أنَّ القرآن الكريم لا يضاهيه في فصاحته وبلاغته وجاذبيّته أيُّ كلامٍ آخر، حتّى كلام رسول الله، وحتّى نهج البلاغة للإمام علِيّ عليه السلام ، الذي يُعتَبَر في مرتبة عالية جدّاً من الفصاحة والبلاغة، ومع ذلك فإنَّك لو كنت تقرأ إحدى خطبه، ثمّ اعترضتك فيها آيةٌ من القرآن، لشعرتَ بسعة الفرق بين كلام أمير المؤمنين عليه السلام وكلام القرآن، فلاحظ الخطبة رقم 225 من نهج البلاغة، وهي في التنفير من الدنيا، حيث يقول عليه السلام : دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلاَ يَسْلَمُ نُزَّالُهَا. ثمّ يذكر ما فعلته هذه الدنيا بمَنْ مضى من الناس، ولا سيما الأغنياء والملوك. ثمّ يقول: وَكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَاروا إِلَيْهِ، وَارْتَهَنَكُمْ ذلِكَ الْمَضْجَعُ، وَضَمَّكُمْ ذلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ، فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الأُمُورُ، وبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ؟! ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْس مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يفْتَرُون﴾. فلاحظ كم أنَّ التعبير عن الله في الآية بـ “مولاهم الحقّ” هو أمرٌ مدهشٌ يعجز عنه الوصف، فالإنسان يرجع إلى مولاه الحقيقِيّ، لا إلى ما يعبد في هذه الدنيا، ويتّخذه مولىً يطيعه. فهذه الصياغة التعبيرِيّة لا يمكن أن تكون من صياغة وإنشاء رجلٍ أمِّيٍّ لا اطِّلاع له، كان ينبغي أن يغرق ـ وفق المقاسات المألوفة ـ في الأوهام والخرافات.

 

وبعبارةٍ أخرى: لقد كان القرآن الكريم الوسيلة الوحيدة التي اتَّخذها النبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم لجذب الناس إلى دعوته، ومواجهة المناوئين، وقد أقرّ بجاذبيّته وتأثيره أعداء الرسالة آنذاك، إلاّ أنَّهم عزوه إلى السحر، وإلى أنَّ فيه طلسماً هو الذي يضفي عليه قوّة الجذب.

 

2- الإعجاز العلميّ والفكريّ للقرآن

 

وهو يرتبط بمحتويات القرآن، ولا علاقة له بلفظه وظاهره.

 

ونحن لو أخذنا بعض الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن، كالتوحيد مثلاً، فسنرى أنَّ مقاربة القرآن لها كانت بنحوٍ يفوق بكثيرٍ ما كان سائداً ومألوفاً في العالم برمّته، حتّى ما كان سائداً عند اليونان والرومان.

 

وهذا خيرُ دليلٍ على إعجازه، ولا سيّما أنَّه صدر عن رجلٍ عربيٍّ أُمِّيٍّ.

 

وهكذا هو الحال في المسائل الأخرى، كالأخلاق، والتربية، والتعاليم، والقوانين، فهي في القرآن الكريم بمستوى يفوق كلّ مستوى كانت أو تكون عليه، حتّى إنَّه يُلحظ أنَّ ما جاء في القرآن حول هذه المواضيع أرقى وأسمى ممّا جاء في الروايات والفقه الإسلامِيّ حولها، وذلك لتواتر القرآن وبقائه محفوظاً من التحريف، بينما تدخلت الأيدي البشرِيَّة في الروايات والفقه.

 

فكيف تكون مقاربةُ هذه الموضوعات بهذا الرقيّ وهي صادِرةٌ من رجلٍ أُمِّيٍّ؟!

 

هذا ولا شكَّ يثبت لنا أنَّ القرآن من عند الله وحده لا شريك له.

 

وقد ذكر القرآن الكريم مسائل عديدة في مجال الطبيعة، كالذي ذكره حول الريح، والمطر، والأرض، والسماء، والحيوانات. ولا يزال العلم يصل بين فترةٍ وأخرى إلى حقائق قد أثبتها القرآن منذ 1400 سنة، ولكنَّها لم تكن مفهومةً

 

 آنذاك، وكانت تُعتَبَر من الموارِد المتشابِهات.

 

وقابلِيّةُ الكشف هذه في القرآن الكريم قد وردت في كلام النبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، الذين ذكروا أنَّ القرآن معجِزٌ بلفظه ومعناه، وأنَّه جديدٌ على الدوام لا يبلى، وأنَّه لا يختصُّ بزمان دون زمان5.

 

3- الإعجاز اللفظِيّ

 

صيغة البيان القرآني

 

يمتاز القرآن الكريم بصيغةٍ بيانيّةٍ لا يضاهيها فصاحةً وبلاغةً أيُّ كلامٍ آخر، حتّى كلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام عليّ عليه السلام. فمع ما عليه نهج البلاغة من بلاغةٍ وفصاحةٍ إلاّ أنَّه لو ضُمِّنت بعض خطبه خطباً أخرى لالتبس الأمر على القارئ، ولم يميِّز كلام أمير المؤمنين عليه السلام عن كلام غيره، بينما لا يحصل هذا الأمر في القرآن أبداً، فهو عصِيٌّ على التقليد، ممتنِعٌ على المعارَضة، رغم أنَّ كثيرين حاولوا معارضته، لكنَّهم فشلوا فشلاً ذريعاً، حتّى قيل فيهم بالصّرْفة، بمعنى أنَّ الله عاقبهم لمعارضتهم القرآن، بأن جعل كلامهم منحطّاً حتّى عن مستوى الكلام العاديّ.

 

قابليّة القرآن للنغم

 

من الواضح أنَّه ليس كلّ النصوص الأدبيّة قابلةً للّحن والنغم، فقد تسالموا على قابليّة الشعر وحده لذلك. ومعنى القابلِيّة للّحن هو أن يكون أداؤه بنغمٍ ولحنٍ موسيقِيٍّ أفضل في بيانه وتأثيره من أن يؤدّى بغير نغمٍ ولحنٍ.

5- راجع الخطبة 18 من نهج البلاغة، حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام : وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ،….

 

ويمتاز القرآن الكريم عن غيره من النصوص النثريّة بقابليّته للنغم، فمع أنَّه ليس شعراً، إذ لا وزن فيه، ولا قافية، ولا يعتمد الخيال والتشبيهات الشعرِيّة، نراه يقبل اللحن والنغم، وتأثيره معهما أكبر من تأثيره من دونهما، ومن هنا كانت الوصيّة منهم (بتلاوة القرآن بالصوت الحَسَن)6، وفي بعض الأخبار: “تغنَّوْا بالقرآن” وبطبيعة الحال ليس المراد التغنّي المحرّم وهو المثير للشهوة بحيث يخرج العقل عن طبيعته بل المحرّك للأحاسيس الفطرية والمشاعر التي تفتح قلب الإنسان على الله تعالى.

 

وقد أولى النبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم عنايةً خاصّةً لتلاوة القرآن بالصوت الحسن، فرغم أنَّ القرآن قد نزل عليه هو، فقد كان يستدعي ذوي الصوت الحسن من أصحابه، ويطلب منهم أن يقرأوا القرآن في محضره، ويتأثَّر بقراءتهم، وما ذلك إلاّ لإلتذاذه صلى الله عليه وآله وسلم بسماع تلاوة القرآن، الأمر الذي يُعَدُّ مظهراً من مظاهر إعجازه اللفظِيّ.

 

ويُلاحظ المتأمِّل في القرآن أنَّ لحن القرآن ونغمه يختلف من آيةٍ إلى أخرى بإختلاف موضوعاتها.

 

ففي الوقت الذي نرى فيه الآيات الداعية إلى التدبُّر، والتأمُّل، والتفكير، والتذكُّر، والموعظة، طويلةً هادئةً، كقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾7، إذ لا بدَّ وأن تُلقَّن هذه الكلمات للقلب بهدوءٍ وتأنٍّ، نرى آيات العذاب، والإنذار، والتخويف، قصيرةً شديدةً، كقوله تعالى: ﴿وَالطُّور وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ

6- راجع: وسائل الشيعة 6: 210 ـ 211 ـ 212، باب 24 من أبواب قراءة القرآن، وهو بعنوان باب تحريم الغناء في القرآن واستحباب تحسين الصوت به بما دون الغناء والتوسُّط في رفع الصوت، الأحاديث 2 ـ 3 ـ 4 ـ 5 ـ 6، وفي الحديث الخامس منها:” ورجِّعْ بالقرآن صوتك، فإنَّ الله تعالى يحبّ الصوت الحسن يرجَّع فيه ترجيعاً”.

7- المائدة / 16.

 

 مَنْشُور وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾8.

 

والهدف من هذا السجع القصير، والضغط الشديد، التأثير في الروح بشكلٍ متَّصِلٍ، لا انفصال له، بحيث تنقلب بعد هذا الكلام من حالٍ إلى حالٍ.

 

ومن الطبيعيّ أنَّ هذا الكلام إنَّما يصدق في القرآن الكريم باللغة العربيّة، دون ما لو تُرجِم إلى لغاتٍ أخرى، ومن هنا ينبغي التركيز في ربط الناس، ولا سيّما الأجانب منهم، بالقرآن على أن يقرأوه باللغة العربيّة، فيتعلَّمونها ولو لأجل أن يقرأوا القرآن بها، وأمّا أن نقلِّل من أهمّيّة ذلك فهذا ما سيجعل اطّلاعهم على القرآن وإعجازه ناقصاً ومشوَّهاً.

 

4- الإعجاز المنطقيّ في القرآن

 

إنَّ بعض الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن الكريم لم تكن مطروقةً من قبلُ في تاريخ الفكر الإنسانيّ، وهذه علامةٌ على أنَّ هذا الكتاب قد أطلّ على البشر من أفقٍ أعلى، ولعلّ هذا ما تشير إليه الآية: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾9، بناءً على أنَّ الهاء في قوله: “من مثله” راجعةٌ للنبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّ صدور هذا القرآن بهذا الجمال، وهذه الموضوعات الجديدة، من رجلٍ أُمِّيٍّ، يفتقر إلى القراءة والكتابة، وقد عاش في مجتمعٍ وبيئةٍ لا يعرفان شيئاً عن هذه الموضوعات، لهو شيءٌ مدهشٌ للغاية، ودليلٌ على أنَّ هذه الكلمات قد صدرت من أفقٍ أعلى من أفق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

 

ومن هذه الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن المنطق.

8- الطور / 1 إلى 8.

9- البقرة / 23.

 

وهنا نذكر مقدّمة، وهي:

 

عرف العالم نوعَيْن من المنطق:

 

أحدهما: المنطق الأرسطيّ: ويُسمّى أيضاً منطق الصورة، لسعيه وراء شكل تصميم الصورة، فهو يركِّز على كيفيّة ترتيب المقدّمات ترتيباً صحيحاً لنصل إلى النتيجة الصحيحة، ولكنَّه لم يُعِرْ أيَّ أهمِّيَّةٍ للتأكُّد من صحّة هذه المقدّمات، الأمر الذي أوصل الكثير من أصحاب هذا المنطق إلى أفكار خاطئة.

 

وثانيهما: منطق المادّة، ولا نعني به المنطق الماديّ، وفرقٌ كبيرٌ بينهما.

 

وقد سعى أصحاب هذا المنطق وراء شرط سلامة الموادّ الفكرِيّة وصحّتها.

 

وبعبارةٍ أخرى: صبّوا إهتمامهم على كون الفكرة- المقدّمة صحيحةً للوصول إلى نتائج صحيحةٍ، وإستخفّوا بالمنطق الأرسطيّ، معتبرين أنَّ كُلَّ إنسانٍ بفطرته يدرك الكيفيّة الصحيحة لترتيب المقدِّمات، فالمهمّ إذاً هو صحّة هذه المقدّمات، وإلاّ فستكون النتيجة خاطئةً.

 

ومن أركان هذا المنطق: “بيكون”، و”ديكارت”، حيث حاولا إكتشاف السبل التي تفضي إلى خطأ المادّة الفكريّة.

 

فذهب “بيكون” إلى أنَّ من أسباب خطأ المادّة الفكريّة وجود الأصنام الفِرقِيّة (الطائفيّة)، والشخصِيّة، والإجتماعِيّة، والإقتصاديّة، وغيرها من الأصنام الشكلِيَّة، مثالُ ذلك: إنَّ للأهواء النفسيّة تأثيراً في الفكر والعقيدة، فبعضُ ما تقوله أحياناً هو تعبير عن الهوى النفسيّ، وليس عن لغة الفكر والعقل.

 

وذهب “ديكارت” إلى أنَّ خطأ العلماء والفلاسفة يرجع في الأكثر إلى تعجُّلهم في الفصل في الأمور، وبعبارةٍ أخرى: إلى إعتمادهم على ما يحصل لهم من ظنٍّ في فكرةٍ ما، وقبل أن يصل الأمر إلى حدّ القطع واليقين.

 

مناشئ الخطأ الذهني

 

ونأتي الآن لذكر مناشئ الخطأ الذهنِيّ بحَسَب القرآن الكريم.

 

1- إتباع الظن: فيعتبر القرآن الكريم أنَّ من سبل الخطأ في الفكر اتّباع الظنّ.

 

ومن هنا كان تشديده على النهي عن إتباع الظنّ، فقال: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾10.

 

وإستنكر قول الذين قالوا: ﴿مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ﴾، فقال: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾11 .

 

وقال: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾12.

 

ونسأل: أليس هذا هو ما وصل إليه “ديكارت” بعد مئاتٍ من السنين، فكيف عرفه نبيّ الرحمة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الوقت؟!

 

2- تقليد الآخرين: وكذلك يركِّز القرآن على تقليد الماضين كسبيلٍ من سُبُل الخطأ في الفكر، وهو عينُه ما سمّاه “بيكون” الصنم الفِرقيّ والإجتماعيّ، وقد حذَّر جميع الأنبياء عليهم السلام أممَهم من هذه السبيل المهلِكة، وهي: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾13.

 

3- سرعة الحكم: وممّا عدَّه القرآن الكريم من سبل الخطأ في الفكر السرعة في القضاء، فنراه يُحذِّر الإنسان من الوقوع في هذه الآفة الخطيرة، عبر

10- الإسراء / 36.

11- الجاثية / 24.

12- الأنعام / 116.

13- الزخرف / 23.

 

تذكيره إيّاه بأنَّه فُطِر على حبّ العَجَلة، فيقول: ﴿خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾14، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾15.

 

ويُؤكِّد له في أكثر من آيةٍ أنَّ ما أوتِيَه من العلم ليس إلاّ القليل، الذي لا يخوِّله معرفة الحقّ بشكلٍ سريعٍ، فيقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾16، ويقول: ﴿…وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾17.

 

وهذا هو عين ما ذهب إليه “ديكارت”.

 

4- هوى النفس: ومن سُبُل الخطأ في الفكر، بحَسَب القرآن أيضاً، هوى النفس، حيث قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ﴾18.

 

وهذا هو بعينه ما يُعبِّر عنه “بيكون” بالصنم الشخصيّ.

 

5- إتباع الكبراء: بحَسَب القرآن أيضاً اتّباع الكُبَراء، أصحاب المدارس والمذاهب، فقد بيَّن تعالى أنَّ اتِّباع الكُبَراء والسادات هو من المُهلكات، فقال: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ﴾19.

 

وهذا هو ما عبَّر عنه “بيكون” بالأصنام الشكلِيَّة.

 

أفَلا يُعَدُّ هذا كلّه إعجازاً منطقِيّاً للقرآن، وهو يصدر من رجلٍ أُمِّيٍّ؟!

14- الأنبياء / 37.

15- الإسراء / 11.

16- الإسراء / 85.

17- الروم / 6 ـ 7.

18- النجم / 23.

19- الأحزاب / 66 ـ 67.

 

خلاصة الدرس

 

القرآن الكريم هو معجزة النبِيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الخالِدة.

 

ومن جهات إعجاز القرآن الكريم:

 

1- الفصاحة والبلاغة: غير أنَّ القرآن الكريم رفض المنطق السائد في الشعر، وهو “أعذبُه أكذبُه”، ولم يستخدمه بتاتاً، كما أنَّه لم يستخدم التشبيه كثيراً. ومع ذلك فهو في غاية الفصاحة والبلاغة، حيث كانت كلماتُه، وتعابيرُه، وتصويراتُه، فائقة الجمال.

 

وقد أقرّ بجاذبيّته وتأثيره أعداءُ الرسالة أنفسهم، وما ذلك إلاّ لفصاحته وبلاغته وجماله الساحر.

 

2- الإعجاز العلميّ والفكريّ: فقد تطرَّق القرآن الكريم للتوحيد بنحوٍ يفوق بكثيرٍ ما كان سائداً ومألوفاً في العالم برمّته.

 

وهكذا هو الحال في المسائل الأخرى، كالأخلاق، والتربية، والتعاليم، والقوانين، فهي في القرآن الكريم بمستوى يفوق كلّ مستوى كانت أو تكون عليه.

 

3- الإعجاز اللفظِيّ: يمتاز القرآن الكريم بصيغةٍ بيانيّةٍ لا يضاهيها فصاحةً وبلاغةً أيُّ كلامٍ آخر، ويمتاز بقابليّته للنغم واللحن، وتأثيره معهما أكبر من تأثيره من دونهما. ويُلاحظ المتأمِّل في القرآن أنَّ لحن القرآن ونغمه يختلف من آيةٍ إلى أخرى باختلاف موضوعاتها.

 

4- الإعجاز المنطقيّ: فقد ذكر القرآن الكريم بعض مناشئ الخطأ الذهنِيّ، أو سبل الخطأ في الفكر، ومنها: اتّباع الظنّ، تقليد الماضين، السرعة في

 

 القضاء، هوى النفس، واتّباع الكُبَراء.

 

وهذه الأمور هي بعينها التي ذكرها “بيكون” و”ديكارت”، حين حاولا إكتشاف السبل التي تفضي إلى خطأ المادّة الفكريّة.

 

أسئلة الدرس

 

1- ما هي معجزة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الأساسيّة؟

2- كيف عرفنا بإعجاز القرآن الكريم؟

3- ما هي وجوه الإعجاز القرآنيّ؟

4- ما المقصود من الإعجاز المنطقي؟

5- لماذا كان مضمون القرآن الكريم إعجازياً؟

 

 

 

شاهد أيضاً

الابحاث العرفانية –  السيّد محمّد الحُسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ

الابحاث العرفانية –  السيّد محمّد الحُسين‌ الحسينيّ الطهرانيّ کتاب الشمس الساطعة منهج‌ المرحوم‌ القاضي‌ قدّس‌ ...