الدرس الخامس: مقاصد القرآن
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف على مقاصد القرآن.
2- يُبيّن دور القرآن في توطيد العلاقة مع الله.
3- يشرح كلّيات الأخلاق الإيمانيّة في القرآن.
مقدمة
لقد تضمّن القرآن الكريم المقاصد الإيمانيّة الكاملة والحقائق الضروريّة لكمال الإنسان ورقيّه ووصوله إلى مقام القرب الإلهيّ.
قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[1].
وفي ما يلي نذكر بعضاً من مقاصد القرآن العُليا ومضامينه الراقية الّتي تُيسّر للإنسان هدايته وتقويم حياته، ومنها:
أوّلا، معرفة الله:
إنّ قضيّة الألوهيّة هي موضوع العقيدة الإسلاميّة الرئيس وبالتّالي فهي تشمل الحيّز الأكبر من كتاب الله تعالى.
وما نزل القرآن ليقول للناس إنّ هناك إلهاً، فإنّ الفطرة وأدنى التأمّل بالوجود باعثان على الإقرار بوجود المبدع المنظِّم.
يقول تعالى: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[2].
إنّما المشكلة بأنّهم لا يعرفونه حقّ المعرفة ومن ثمّ لا يعبدونه حقّ العبادة، ومن ذا الّذي يُدرك هذا المقام، يقول تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾[3].
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “لو عرفتم الله حقّ معرفته لزالت بدعائكم الجبال الراسيات، ولا يبلغ أحد كُنه معرفته”، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا، الله أعلى وأجلّ أن يطّلع أحد على كنه معرفته”.
ولهذا قال في دعائه : “يا من لا يعلم ما هو إلا هو”.
وقال: “سبحانك ما عرفناك حقّ معرفتك”[4].
ولعلّ المعرفة المقصودة هي معرفة الذّات الإلهيّة حقّ المعرفة فمن ذا يُدركها؟ أمّا معرفته سبحانه بصفات الجمال والكمال فيُمكن إدراكها من خلال التأمّل في نِعَم الله سبحانه ومخلوقاته. ونظام الكون الّذي أتقن صنعه الجبّار.
يقول تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾[5].
وقد دعا القرآن إلى توحيد الله تعالى بما يليق بذاته وصفاته وأفعاله.
يقول تعالى في مقام بيان الصفات: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى …﴾[6]. ويقول سبحانه: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[7].
الاحتجاجات الإلهيّة
هذه الدعوة لتوحيد الله تعالى ومعرفته بصفاته وأفعاله لم تكن دون دليل، فمن يقرأ في كتاب الله يُلاحظ أنّ القرآن يستعين في إبلاغ رسالته بلغتين هما لغة العقل ولغة القلب، فقد اعتبر القرآن العقل حجّة على العباد فدعا إلى إعماله والاستفادة منه، كما ذمّ من عطّله ولم يهتد بهداه.
قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾[8].
وقد أقام القرآن الدلائل والبراهين على مدّعياته، وتحدّى المنكرين على الإتيان ببراهين تنقضها: ﴿قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[9].
وفي الوقت الّذي يدعو فيه القرآن إلى إعمال العقل يُبيّن موانع إصابة العقل للحقّ والصواب كاتّباع الظنّ، وتقليد الآباء واتّباع الهوى.
قال تعالى: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ﴾[10].
ويقول عزّ من قائل: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾[11].
فالقرآن لم يدع الإنسان إلى الإيمان بغير دليل بل ساق أدلّة برهانيّةً عقليّة وأخرى وجدانيّة، وخاطب الفطرة الإنسانيّة.
يقول سبحانه: ﴿أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾[12].
ثانياً، معرفة الأنبياء عليهم السلام:
يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾[13] ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾[14].
استعمل القرآن الكريم الأسلوب القصصيّ في تبليغ المفاهيم والعبر والمقاصد، لما لهذا الأسلوب من أثر كبير في القلوب، فذكر قصص بعض الأنبياء لنعتبر منهم ومن قصصهم، وليكونوا صلة وصل بين العباد وبين الله سبحانه.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾[15].
وتُشكّل القصص القرآنيّة جانباً هامّاً من النصّ القرآنيّ حتّى ورد في بعض الأحاديث أنّها ثلث القرآن، وهناك عدد كبير منها مختصّ بقصص الأنبياء عليهم السلام وتتركّز بشكل أساس في السور الّتي حمل بعضها اسم واحد من الأنبياء كسورة يونس وإبراهيم وهود وغيرها، وهذا الاستخدام الواسع لأسلوب القصّة يفيد بوضوح أنّ القصّة القرآنيّة لها مدخليّة مهمّة في تحقيق الأغراض والأهداف القرآنيّة.
كما أنّ القصّة في القرآن لا تخلو من نكاتٍ بلاغيّة، وقيمةٍ تاريخيّة، ولمسات أدبيّةٍ فنيّة، ودروس مستفادة من معاينة القدوة في سلوكه ومواقفه ليزداد الإنسان معرفة بالأنبياء الذين يُشكّلون القدوة الحسنة.
يقول الإمام الخميني قدس سره حول هذا الأمر:
ومن مقاصد هذه الصحيفة النورانيّة قصص الأنبياء والأولياء والحكماء، وكيفيّة تربية الحقّ إيّاهم، وتربيتهم الخَلْق. فإنّ في تلك القصص فوائد لا تُحصى.. ففي قصّة خلق آدم عليه السلام والأمر بسجود الملائكة، وتعليمه الأسماء وقضايا إبليس وآدم الّتي تكرّر ذكرها في كتاب الله من التعليم والتربية والمعارف والمعالم – لمن كان ﴿لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾[16] – ما يُحيّر الإنسان.. فليس هذا الكتاب كتاب قصّة وتاريخ بل هو كتاب السير والسلوك إلى الله، وكتاب التوحيد والمعارف والمواعظ والحِكَم”[17].
كما أنّ من الظواهر الّتي تُلفت النظر في القرآن ظاهرة التكرار في القصص وغيرها حيث نجد الحديث عن نبيّ واحد في أكثر من سورة، ويبدو ذلك جليّاً في الحديث عن نبيّ الله موسى عليه السلام، وحين ننظر إلى القرآن على أنّه كتاب هداية وتربية لهذه الأمّة والبشريّة، تتوضّح لدينا حكمة ذلك، لأنّ التربية تحتاج إلى التذكير الدائم، وليست التربية كلاماً يُقال مرّة وكفى قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[18].
ثالثاً، معرفة المعاد وبيان أحواله:
هناك جانب آخر أخذ حيّزاً هامّاً من مطالب ومضمون النصّ القرآنيّ، وذلك في بيان مسألة الإيمان باليوم الآخر وإقامة الأدلّة والبراهين على إثباته.
حتّى أنّ القرآن الكريم يُلحق مسألة الإيمان باليوم الآخر في كثير من المواضع بالإيمان بالله مباشرة إثباتاً ونفيّاً، فيصف المؤمنين بأنّهم هم الّذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ويصف الكافرين بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
والقرآن في حديثه المستفيض عن المعاد أراد إثباته أوّلاً للجاحدين به والمنكرين للبعث والحساب، فساق الأدلّة النظريّة والبراهين العقليّة وأتبعها بأمور وجدانيّة يراها الإنسان بأمّ عينه.
﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾[19].
ثمّ ببيان حوادث جُرّبت في التاريخ وأورد قصّتها القرآن لمزيد يقين كقصّة أصحاب الكهف وقصّة العُزير الّذي أماته الله مائة عام ثمّ بعثه.
ولئن كان للحديث عن البعث والحساب بعض أسبابه الّتي تعود إلى إنكار العرب الباتّ للبعث، ولكنّ بعضه الآخر كان لضرورة ترسيخ هذه العقيدة في نفوس المؤمنين لما لها من تأثير بالغ في سلوك الإنسان، فإنّه لا شيء يُمكن أن يدفع الإنسان للتنازل عن المتاع الزائد عن الحدّ المدفوع إليه بغريزته والالتزام بالحدود الّتي رسمها الله إلّا الإيمان الجازم بأنّ ما يتركه في الدنيا طاعة لله يلقاه في الآخرة مضاعفاً، ولا يزول أبداً.
ويغدو حديث القرآن عن الآخرة بمثابة شريط حافل بالمشاهد الحيّة حتّى لكأنّ الإنسان يُخيّل إليه أنّه يراها عياناً وليست حديثاً عن المستقبل. إنّه شريط يجمع بين مشاهد العذاب ومشاهد النعيم ليختار الإنسان أيّهما شاء.
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾[20].
وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا﴾[21].
ويقول نعوذ بلطفه من عذابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[22].
رابعاً، الأخلاقيّات الإيمانيّة في القرآن:
موضوع آخر من موضوعات القرآن الكريم ومقصد من مقاصده هو الأخلاقيّات الإيمانيّة وما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون بوحي من إيمانهم، في مقابل ما هم عليه الكافرون والفاسقون بوحي من ضلالتهم.
يقول الإمام الخميني دام ظله: ومن مقاصده ومطالبه الدعوة إلى تهذيب النفوس وتطهير البواطن من أرجاس الطبيعة وتحصيل السعادة. وبالجملة كيفيّة السير والسلوك إلى الله تعالى، وهذا المطلب الشريف منقسم إلى شعبتين مهمّتين:
إحداهما: التقوى بجميع مراتبها المندرجة فيها التقوى عن غير الحقّ، والإعراض المطلق عمّا سوى الله.
وثانيهما: الإيمان بتمام المراتب والشؤون المندرجة في الإقبال على الحقّ، والرجوع والإنابة إلى ذاته المقدّسة، وهذا من المقاصد المهمّة لهذا الكتاب الشريف وأكثر مطالبه ترجع إلى هذا المطلب إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة”[23].
والأخلاق ليست شيئاً ثانويّاً في هذا الدّين، كما إنّها شاملة للسلوك البشري كلّه ولا يوجد عمل واحد يخرج عن دائرة الأخلاق فالصلاة لها أخلاق هي الخشوع، والكلام له أخلاق وهو الإعراض عن اللغو، والتعامل مع الآخرين له أخلاق هي الوفاء والصدق ورعاية العهد.
وقد قال تعالى بحقّ الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[24]. ولكنّه أيضاً (أي
الخُلق) من خصوصيّات الإيمان ومقتضياته.
وقد اهتمّ القرآن المجيد بإبراز الجانب السلوكيّ الأخلاقيّ للعقيدة المنحرفة قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾[25].
يُقابل ذلك إبراز السلوك الأخلاقيّ الصحيح المصاحب للعقيدة الصحيحة: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾[26].
فالقرآن هو مفتاح سعادة الإنسان وباب فلاحه: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾[27]. وهو شفاء ورحمة لكلّ من تمسّك به، وفي ما يلي نماذج من آيات القرآن تكشف عن عمق معانيه ودقّة أفكاره في مجال نظام السير والسلوك إلى الله تعالى:
أ – العلاقة مع الله:
فالقرآن الكريم يوثّق الإيمان في القلب ويربط ذلك القلب بالله في جميع أحواله، لأنّه يربط الأحوال كلّها والوجود كلّه بالله سبحانه: فالمولد والممات بيد الله، والرزق بيد الله بجميع ألوانه وأشكاله، وبيده الضرّ والنفع، ثمّ البعث والحساب والثواب والعقاب، أمورٌ كلّها بيد الله.
فالله تعالى في كتابه يُعرّفنا بنفسه لنعرفه كما ينبغي لجلال وجهه. فهو يُعرّفنا نفسه بأنّه: ﴿السَّمِيعُ الْبَصِير﴾. وأنّه ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾[28], وأنّه ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾[29]. ليولّد في قلوبنا ذلك الإحساس برقابة الله، فنحرص على نقاوة أعمالنا ومشاعرنا.
ويُعرّفنا بأنّ: ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[30]. وأنّ بيده ﴿مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[31].
لنتطلّع إليه وحده في السرّاء والضرّاء، ولنواجه المصاعب والشدائد بالصبر والتعلّق به وبفرَجِه المنزَل من عنده.
ويُعرّفنا بأنّه ﴿الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[32]. ﴿اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ﴾[33].
يُعلّمنا بذلك أن لا يُشغلنا القلق على الرزق، وأنّ البشر ليسوا هم من يتصرّفون في أرزاقنا، بل ذلك كلّه بيده وحده وكذلك يُعرّفنا بأنّه هو الّذي يحيي ويميت، وليس هذا شأنه فحسب بل هو بعدُ ملك ومالك يوم الدِّين.
هذا ما تُقرّره هذه الآيات الكريمة وغيرها من كتاب الله ليعيش القلب آفاق معرفة الله تعالى ومنهجاً وسلوكاً، وتكون حياته كلّها مع الله.
ب- العلاقة مع الآخر:
وكما اهتمّ القرآن الكريم بإبراز الجانب السلوكي والأخلاقي للعقيدة المنحرفة وندّد به وبأصحابه، كذلك أولى عنايةً واضحةً بإبراز السلوك الأخلاقيّ الصحيح وأفق التعاطي الصحيح مع الآخرين.
﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[34].
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[35].
فمنطق القرآن هو: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[36].
ج- الاستقامة:
ويُمكن بحقّ أن نُلخّص مبادئ الإسلام كلّها بكلمة الاستقامة، فإنّها الكلمة الشاملة للاستقامة في العقيدة بما فيها التوحيد عن الشبيه، والاستقامة في الأعمال والأخلاق وجميع التعاليم.
ومعنى الاستقامة هو أن نقف عند حدود الله ولا ننحرف عن الحقّ إلى الباطل وعن الهداية إلى الضلال. أن نسير بعقيدتنا وأقوالنا وأفعالنا على الصراط المستقيم، فعن الإمام علي عليه السلام قال: “قُلتُ: يا رسول الله أوصني، قال: قل ربّي الله، ثمّ استقم، قال: قُلتُ: ربّي الله وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أُنيب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ليهنئك العلم يا أبا الحسن، لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً”[37].
يقول تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[38].
﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾[39].
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[40].
﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[41].
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[42].
﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[43].
المفاهيم الرئيسة
لقد تضمّن القرآن الكريم المقاصد الإيمانيّة الكاملة والحقائق الضروريّة لكمال الإنسان ورقيّه ووصوله إلى مقام القرب الإلهيّ.
منها:
– أوّلا، معرفة الله: فالناس لا يعرفونه حقّ المعرفة ومن ثمّ لا يعبدونه حقّ العبادة.
– ثانياً، معرفة الأنبياء عليهم السلام. يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا الأمر: “ومن مقاصد هذه الصحيفة النورانيّة قصص الأنبياء والأولياء والحكماء، وكيفيّة تربية الحقّ إيّاهم، وتربيتهم الخلق. فإنّ في تلك القصص فوائد لا تُحصى..”
– من مقاصد القرآن معرفة المعاد وبيان أحواله وقد أخذ حيّزاً هامّاً من مطالب ومضمون النصّ القرآنيّ، من خلال بيان مسألة الإيمان باليوم الآخر وإقامة الأدلّة والبراهين على إثباته.
منها: الأخلاقيّات الإيمانيّة وما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون بوحي من إيمانهم، في مقابل ما هم عليه الكافرون والفاسقون بوحي من ضلالهم. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “ومن مقاصده ومطالبه الدعوة إلى تهذيب النفوس وتطهير البواطن من أرجاس الطبيعة وتحصيل السعادة…”.
– يرسم القرآن للإنسان خريطة للعلاقة مع الله ومع نفسه ومع الآخرين…
– ويؤكّد على أهميّة الاستقامة بوقوفنا عند حدود الله وعدم الانحراف عن الحقّ إلى الباطل.
للمطالعة
النبع الفيّاض
يقول الإمام الخميني دام ظله: أوصي الإخوة الأعزّاء أن لا يغفلوا… عن الاستئناس بالقرآن الكريم، هذه الصحيفة الإلهيّة وكتاب الله الهادي، فكلّ ما عند المسلمين وما سيكون عندهم خلال عصور التاريخ الماضية والقادمة إنّما هو من البركات المغدقة لهذا الكتاب المقدّس. وبهذه المناسبة أطلب من كلّ العلماء الأعلام وأبناء القرآن والعلماء العظام أن لا يغفلوا عن هذا الكتاب المقدّس الّذي فيه تبيان كلّ شيء،…
والآن فإنّ الصورة المدوّنة لهذا الكتاب المأخوذ عن لسان الوحي بعد النزول قد وصلت إلى أيدينا كاملة دون زيادة حرف أو نقصان حرف، فالحذر الحذر من هجره لا سمح الله.
نعم، الأبعاد المختلفة لهذا الكتاب بكلّ آفاقها ليست في متناول البشر العاديّين لكن على أهل المعرفة والتحقيق في الفروع المختلفة أن ينهلوا بقدر علمهم ومعرفتهم وكفاءاتهم من هذا الكنز العرفانيّ الإلهيّ الفيّاض والبحر الموّاج النازل على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ويُقدّموه بتعبيرات مختلفة قريبة للأذهان إلى الآخرين… والمتّقون التوّاقون إلى الهداية عليهم أن يحملوا بارقة ممّا أخذوه من نور التقوى عن هذا النبع الفيّاض بالهدى للمتّقين إلى العشّاق الوالهين إلى الهداية الإلهيّة.
… اجعلوا تدريس القرآن نصب أعينكم في جميع أبعاده، كي لا تندموا وتأسفوا لا سمح الله على ما فات من شبابكم حين يهجم عليكم ضعف الشيب في آخر العمر، مثل كاتب هذه السطور”[44].
[1] سورة الإسراء، الآية 9.
[2] سورة لقمان، الآية 25.
[3] سورة الأنعام، الآية 91.
[4] ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللئالي، ج 4، ص 132.
[5] سورة النمل، الآية 88.
[6] سورة الحشر، الآيات 22 – 24.
[7] سورة الحشر، الآية 24.
[8] سورة الأنفال، الآية 22.
[9] سورة البقرة، الآية 111.
[10] سورة النجم، الآية 23.
[11] سورة البقرة، الآية 170.
[12] سورة النمل، الآيتان 61 و 62.
[13] سورة يوسف، الآية 109.
[14] سورة يوسف، الآية 111.
[15] سورة النحل، الآية: 36.
[16] سورة ق، الآية 37.
[17] القرآن الثقل الأكبر، جمع لكلمات الإمام الخميني قدس سره، ص40.
[18] سورة الذاريات، الآية 55.
[19] سورة ق، الآيات 9-11.
[20] سورة القمر، الآيتان 54- 55.
[21] سورة الإنسان، الآيات 20- 23.
[22] سورة التحريم، الآية 6.
[23] القرآن الثقل الأكبر، جمع لكلمات الإمام الخميني قدس سره، ص40-29.
[24] سورة القلم، الآية 4.
[25] سورة القلم، الآيات 16-10.
[26] سورة الفرقان، الآية 63.
[27] سورة طه، الآيتان 1 و 2.
[28] سورة طه، الآية 7.
[29] سورة المجادلة، الآية 7.
[30] سورة يس، الآية 83.
[31] سورة الزمر، الآية 63.
[32] سورة الذاريات، الآية 58.
[33] سورة الرعد، الآية 26.
[34] سورة الشورى، الآيات 40 – 43.
[35] سورة الممتحنة، الآية 8.
[36] سورة الأعراف، الآية 199.
[37] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج40، ص178.
[38] سورة الملك، الآية 22.
[39] سورة هود، الآية 112.
[40] سورة الأنعام، الآية 79.
[41] سورة الأنعام، الآية 162.
[42] سورة الفاتحة، الآية 5.
[43] سورة الكهف، الآية 110.
[44] صحيفة الإمام الخميني قدس سره، ج 20، ص 81.