[120]
الاجنحة واخرى بقبضها، وكأن هناك قدرة غامضة تدفعها الى الأمام، ولكل من الطيور شكلها الخاص بها والوسائل الضرورية لحياتها.
والآية الحادية عشرة لفتت الأنظار الى مسألة خلق الأرض ومن ثم خلق الانسان الذي يعتبر عالَماً عظيماً ومليئاً بالضجيج رغم صغر حجمه، وتوبخ الذين لا يبصرون رغم انهم قادرون عليه بخطاب «أفلا يبصرون».
(ينبغي الالتفات الى أن «البصيرة» جاءت من مادة «بصر» الذي يعني «العين» أن «بصر العين»، ورغم استعمالها بمعنى «النظر» و«الرؤية» إلاّ انها تختلف عنهما بالتأكيد على عضو البصر وقوته. لكنها كالمفردتين السابقتين قد تستعمل بمعنى المشاهدة الباطنية والفكر).
وأخيراً، فان الآية الثانية عشرة تؤكد على الأعضاء الثلاثة أى الأذن والعين والقلب وسائل أساسية للمعرفة وهذا دليل واضح على اعتبار المشاهدة والحس وسائل اساسية للمعرفة.
* * *
النتيجة:
إن الآيات السابقة والتي غالباً ما تحدثت عن قضية التوحيد ومعرفة الله، أمرت الناس بسلوك طريق المعرفة والتوحيد وأن يفتحوا أعينهم جيداً، ويروا اسم «الله» على جبين كل موجود في هذا العالم، ويشاهدوا الأنظمة الدقيقة التي تتحكم بالعالم، ومن ثم يصلوا ـ بواسطة برهان النظم ـ لا الى معرفة ذات الله فحسب، بل صفاته وتوحيده وتدبيره وقدرته وعلمه اللامتناهي.
وبالنظر الى أن أهم مسألة في الإسلام هي مسألة التوحيد ومعرفة الله، وأن أهم دليل في القرآن عليها هو برهان النظم، وأهم منبع لبرهان النظم هو الطبيعة والمخلوقات فمن هنا تتضح أهمية الحس والمشاهدة والتجربة من وجهة نظر القرآن الكريم.
[121]
وقد استعان القرآن كثيراً بـ «المشاهدة الحسية» ليس في مسألة التوحيد فحسب بل في مسألة المعاد أي ثاني أهم مسألة في الاسلام أيضاً، وقد صوّر لنا لقطات من المعاد بالاستعانة بنفس الطبيعة المشهودة لنا، كما جاء ذلك في سورة (ق) حيث يقول تعالى: (وَنَزّلْنا مِنَ السَّمَآءِ ماءاً مُبارَكاً فانبتنا به جَنّات وَحَبَّ الحَصِيدِ * … وَاَحيينا به بَلْدَةً مّيتاً كَذَلكَ الخُرُوج): اي في يوم القيامة
(ق / 9 ـ 11).
كما ـ وانه للكشف عن عاقبة الظلم والجور وأهلها ـ دعا الله الناس لمشاهدة ما خلَّف هؤلاء من آثار ومشاهدة مدنهم الخربة.
هذا كله تأكيد من القرآن على ضرورة الاستعانة بـ «الحس والمشاهدة» كمصدر للمعرفة (دققوا).
* * *
ايضاحات:
الفلاسفة ومصدر الحس:
هناك اختلاف كبير في وجهات نظر الفلاسفة فيما يخص قضية اطّلاعنا على العالم الذي يحيط بنا وما هي المراحل التي نطويها للوصول الى هذه المعرفة؟ ومن أي مصدر نصل إلى أذهاننا؟ إن أكثر الفلاسفة عدّوا الحس أحد مصادر المعرفة رغم ظهور قطبين على طرفي الافراط والتفريط في هذا المجال.
1 ـ «الحسيون» حيث يعتبرون الحس الطريق الوحيد للمعرفة وينكرون المصادر الاخرى كالعقل.
«إن هؤلاء الذين ظهروا في القرن السابع عشر أنكروا قيمة البرهان القياسي العقلي، واعتبروا اسلوب التجربة الاسلوب الوحيد والسليم والمعتمد عليه في هذا المجال، وتعتقد هذه المجموعة بعدم أصالة وتجذر الفلسفة النظرية العقلية المستقلة عن العلوم التجريبية، ويعدون العلم ثمرة الحواس فقط، والحواس لا
[122]
تتعلق إلا بظاهر وعوارض الطبيعة، إذن لا اعتبار للمسائل الفلسفية الأولية، وذلك لأنها نظرية وعقلية بحتة وتتعلق بالامور غير المحسوسة، ولا يدرك الانسان هذه المسائل نفياً او اثباتاً»(1).
إن الماديين ومن ضمنهم أتباع المذهب «الدياكتيكي» من المتحمسين لهذه النظرية، فهم يقولون:
«إذا انقطت جميع قنوات التأثير الخارجي عن حسّنا، فهذا يعني انا سوف
لا نعرف شيئاً، وسيعجز الذهن عن جميع نشاطاته، وتبقى معرفة الواقعيات أمراً محالا، وعلى هذا فالحس منشأ المعرفة ومبنى أحكامنا اتجاه أي
مسألة، فينبغي القول أن الحس منبع المعرفة بل منبعها الوحيد(2).
2 ـ المجموعة الاخرى هي التي تقع في الطرف المقابل للمجموعة الاولى تماماً وهي التي لا تولي أي أهمية للحس في مجال المعرفة.
يقول «دكارت»: «لا نستطيع الوثوق بالمفاهيم التي وصلتنا من الخارج بواسطة الحواس الخمسة بأن لها مصداقاً خارجياً أم لا، واذا كان مصداق فلا يقين لنا بتطابقه مع الواقع»(3).
«مسار الحكمة في اوربا: يعتقد «دكارت» ان محسوسات الانسان لا تتطابق مع الواقع، وان الحس هو وسيلة ارتباط بين جسم الانسان والخارج، ويرسم لنا صورة كاذبة عن العالم، فهو يعتقد أن المفاهيم النظرية هي أساس العلم الواقعي»(4).
والخلاصة: ان هذه المجموعة تعتقد أن المعقولات فقط لها قيمة علمية
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – اصول الفلسفة واسلوب الواقعية للشيخ المطهّري، الجزء 1 الصفحة 6 (مع تلخيص قليل).
2 – المادية الديالكتيكية «نيك آئس»، الصفحة 302، (ملخص) ـ بالفارسية ـ
3 – «مسار الحكمة في اوربا» الجزء 1 الصفحة 172 (مع تلخيص) ـ بالفارسية ـ .
4 – «مسار الحكمة في اوربا» الجزء 1 الصفحة 172 (مع تلخيص) ـ بالفارسية ـ .
[123]
يقينية، اما المحسوسات فلها قيمة علمية غير يقينية(1).
إن المجموعةَ الاولى تستند على أخطاء العقل النظري والاختلاف الفاحش بين العلماء في المسائل العقلية، بينما تستند المجموعة الثانية على أخطاء الحواس، حيث يذكرون أعداداً لا تحصى من أخطاء حاسة البصر التي تعتبر أهم وأوسع حس للانسان.
لكن ممّا لا شك فيه أن كلتا المجوعتين خاطئتان، ونوضح ما ندعيه بصورة مضغوطة ونقول:
بالنسبة للحسيين يمكن حصر أهم اشكالاتهم في النقاط التالية.
1 ـ إنّ كلّ انسان عند مشاهدته للموجودات الخارجية يواجه مجموعة من الحوادث والقضايا الجزئية غير صالحة للاستدلال، لأن كل استدلال يجب أن يستند الى قضية كلية.
ومن هنا تبدأ وظيفة العقل، حيث يقوم بصياغة كلية من هذه الجزئيات، فمثلا نلاحظ أن قطعة الحجر تكسر الزجاج العادي في ظروف مختلفة، فهذه الحوادث الجزئية الحاصلة بالحس تنتقل الى العقل، فيصوغ العقل قاعده كلية اتجاه هذه المسألة، وكذلك الأمر بالنسبة للتجربة في الظروف والازمنة والأمكنة المختلفة التي تكشف عن أن الضوء ينتشر بصورة خط مستقيم، فالعقل يصوغ قاعدة كليّة من هذه الحوادث الجزئية لا وجود لها في الخارج والموجود في الخارج هو مصاديقها لا ذاتها.
وعليه فالادراكات الحسية كالمواد الخام التي قد «تحلل» وقد تتركب في مختبر العقل، ومن هاتين العمليتين نحصل على المفاهيم الكلية التي يستفاد منها في المنطق والاستدلال.
2 ـ ممّا لا شك فيه انه ينبغي الاستعانة بالقعل لاصلاح الأخطاء الناشئة من
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – اصول الفلسفة، المقالة الرابعة (قيمة المعلومات).
[124]
خطأ الحواس، فعندما نقول:
إن بصرنا أخطأ اتجاه الاشجار التي نراها متقاطعة من بعيد، فان معيارنا في التخطئة هذه هو العقل.
صحيح أن تمييزنا لهذا الخطأ يستند الى الحس أيضاً حيث إننا ندرك خطأ بصرنا من بعيد لأنا طوينا الشارع من اوله الى آخره عدة مرات وشاهدنا الأشجار في طول الشارع متوازية ولم تلتقِ في مكان، لكن هذا الاستدلال الذي يستند الى الحس يقوى عندما يكون اجتماع النقيضين محالا، ويقول بامتناع أن تكون الاشجار متوازية ثم تلتقي في نقطة واحدة، فاستدلالنا بهذا الشكل يثبت لنا خطأ ما نشاهده من بعيد
في الحقيقة أن قضية امتناع اجتماع النقيضين التي تدرك بالعقل تشكل حجر الأساس لجميع الاستدلالات، وعليه فلا يؤخد بالدليل الحسي دون الاستناد عليها.
3 ـ فضلا عما سبق، فان ما ندركه بالحس هو ظاهر الأشياء، وما نرى من الجسم بالحس إلا سطحه لا شيء آخر. وعليه فما لم تتدخل الادراكات العقلية لا نستطيع معرفة حقيقة الجسم.
قد يقال: صحيح أن الحواس لا فاعلية لها لوحدها بل يجب الاستعانة بالادراكات العقلية حتى في العلوم التجريبية، لكن ينبغي الاذعان الى هذه الحقيقة ـ وهي ان جميع الادراكات العقلية حصلت بواسطة احواس وكما يقول «جان لاك» الفيلسوف الانجليزي المعروف: «لا شيء في العقل لم يوجد قبله في الحس».
إن هذه الجملة التي أصبحت مثلا وبقيت ذكرى منه تدل على أن الذهن كان كاللوحة البيضاء في البداية وقد ينقش عليها بعد الك بواسطة الحواس، وأن لا وظيفة للعقل غير «التجريد» و «التعميم» أو «التحليل» و «التركيب» لمدركات
[125]
الحواس.
لكن هذا خطأ فظيع، وذلك لأن علمنا بأنفسنا (الذي هو علم حضوري) لم يحصل بواسطة الحواس، كذلك علمنا بوجود الحواس، أو علمنا باستحالة اجتماع النقيضين لم يحصل عن طريق الحواس، فنحن ندرك محالة أن نكون موجودين ومعدومين في آن واحد وإن لم نملك حواساً، كذا الأمر بالنسبة لقضايا أخرى لا حاجة فيها الى الحواس.
وتوجد أبحاث كثيرة في هذا المجال لو أسهبنا فيها لابتعدنا عن هدف هذا الكتاب، وتَطَرُّقُنا لبعضها هنا كان بهدف توضيح نظرية «الحسيين» و «العقليين» الذين يحصروا سبل المعرفة في بُعد واحد، وأن نظريتيهما سقيمتان وأن كلا من «الحس» و «العقل» يشكلان منبعاً ومصدراً للادراك، كما إنعكس ذلك في القرآن المجيد.
* * *
[126]
المصدر الثاني:
العقل
[127]
[128]
2 ـ العقل
تمهيد:
نُشاهد في القرآن الكريم تعابيرات كثيرة استعملت للاشارة الى هذا المصدر كما يشاهد الكثير من الآيات التي تدعو الناس الى المعرفة بالاستعانة بـ «التفكير».
ونذكر هنا بعض تلك التعابير التي استعملت للاشارة الى هذا المصدر المهم للمعرفة.
1 ـ العقل.
2 ـ اللب (وجمعه ألباب).
3 ـ الفؤاد.
4 ـ القلب.
5 ـ النُهى.
6 ـ الصدر.
7 ـ الروح.
8 ـ النفس.
كما ان هناك تعابيرات استعملت في القرآن لبيان مهمة العقل مثل:
[129]
9 ـ الذكر.
10 ـ الفكر.
11 ـ الفقه.
12 ـ الشعور.
13 ـ البصيرة.
14 ـ الدراية.
والآن نبحث كلا من العناوين السابقة في ضمن بحثنا عن الآيات التي وردت فيها تلك التعبيرات (1).
* * *
لنستمع خاشعين أولا الى الآيات التالية:
1 ـ (كَذلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(البقرة / 242)
2 ـ (اِنَّ في خَلْقِ السَّمواتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلافِ الّليل والنّهار لآيات لاُِولي الالباب)
(آل عمران / 190)
3 ـ (وَالله اَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ اُمهاتِكُم لا تَعْلَمُونَ شَيئاً وَجَعَلَ لَكُمْ
الْسَّمْعَ وَالاَبصارَ وَالأفئدةَ لَعَلّكم تشكُرُونَ)
(النحل / 78)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – إضافة الى العناوين والتعابيرات السابقة التي اشير إليها، هناك تعابيرات استعملت في القرآن وأريد بها مراحل الادراك مثل: الظن والزعم والحسبان والتيقن، وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، والتي تبدأ بمرحلة هشة ومتزلزلة من الادراك وتنتهي باليقين الذي هو أعلى مراحل الادراك ولا يتصور درجة ومرحلة أعلى منه. [130]
4 ـ (وَكَمْ اَهْلَكنا قَبْلَهُم مِنْ قَرن هُم اَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فنقبّوا في البِلادِ هَل مِنْ محيص اِنّ في ذلِكَ لَذِكرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ اَوْ اَلقى السَّمعَ وَهُوَ
شَهِيدٌ)
(ق / 36 ـ 37)
5 ـ (كُلُوا وَارْعَوا اَنْعامَكُمْ اِنَّ في ذلِكَ لآيات لاُولي النُّهى)
(طه / 54)
6 ـ (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيّناتٌ في صُدُور الّذينَ اُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجحَدُ بآياتِنا الاّ الظّالمونَ)
(طه / 49)
7 ـ (فَاِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيه مِنْ رُّوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ)
(الحجر / 29 و ص / 72)
8 ـ (وَنَفْس وَما سوّاها * فَألهَمَها فُجورَها وَتقواها)
(الشمس / 7 ـ 8)
9 ـ (وَيبيّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون)
(البقرة / 221)
10 ـ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الاَعمى وَالْبَصِيرْ اَفَلا تتفكّرُون)
(الانعام / 50)
11 ـ (اُنْظُر كَيْفَ نُصَرِّفُ لَهُم الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)
(الانعام / 65)
12 ـ (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ الله اَمواتٌ بَلْ اَحياءٌ وَلْكِنْ لاّ تَشْعُرُونَ)
(البقرة / 145)
13 ـ (اِنَّ الّذينَ اتَّقَوا اِذا مَسَّهُم طائِفٌ مِنَ الشّيطانِ تَذَكّروا فَاِذا هُمْ
[131]
مُبْصِرونَ)
(الاعراف / 201)
14 ـ (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدري نَفْسٌ بأيِّ أرض تَمُوتُ)
(لقمان / 34)
* * *
شرح المفردات:
أصل «العقل» كما جاء في لسان العرب ومفردات الراغب ـ من العقال أي الحبل الذي يُشدْ به ساق البعير لمنعه من الحركة وبما أن العقل يردعُ الانسان عن القيام بالأعمال الشينة اطلقت هذه المفرداة عليه.
وقد ذكر صاحب الصحاح أنها تعني «الحُجْر» «المنع» بينما قال البعض كصاحب القاموس: إنها تعني «العلم بصفات الاشياء كالحسن والقبح والكمال والنقصان»، اما صاحب مجمع البحرين فقد فسر العاقل بانه: «الذي يستطيع أن يسيطر على نفسه ويتغلب على أهوائه وميوله».
ويظهر أن معناه الاولي هو الصد والمنع ولهذا يقال لمن امتنع لسانه عن النطق «اعتقل لسانه» كما يقال «للدية» «عقل» لأنها تحول دون إهراق دماء أكثر، ويقال للمرأة العفيفة والمتحجبة والطاهرة «عقيلة».
يقول «الخليل بن أحمد» في كتابه «العين»: إن العقل يطلق على القلعة والحصن أيضاً.
كما نلاحظ هنا فان مفهوم الحجر والمنع متضمّن لجميع هذه المعاني، وعليه فاصلة يعني المنع.
أما كلمة «اللب» وجمعها «الالباب» ـ كما يقول كثير من أهل اللغة ـ يعني الخال والصفوة من كلّ شيء، ولهذا يطلق على المرحلة الرفيعة من العقل «اللب»،
[132]
فان كل لب عقلٌ لكن ليس كل عقل لُباً، لأن اللب هو العقل في مراحله الرفيعة والخالصة، ولهذا السبب نُسِبَتْ اُمورُ القرآن الكريم الى «أُولي الألباب» لا تدرك إلاّ بالمراحل الرفيعة من العقل، كما يطلق اللب على باطن كثير من الفواكه لانَّه خالص من القشر(1).
وإن كلمة «الفؤاد» ـ كما أشرنا سابقث ـ من مادة «فأد» على وزن (وَعْد) وفي الأصل معناه وضع الخبز على الرماد أو الحصى الحارة، كي يُخبز جيداً، كما يطلق على طبخ وشوي اللحم(2).
وعلى هذا فالعقل عندما ينضج يطلق عليه «فؤاد» وجمع «أفئدة».
ويضيف الراغب في مفرداته: إن «الفؤاد» يعني القلب مع زيادة وهي الأنارة واللمعان.
إن «القلب» ـ كما جاء في القاموس والمفردات والعين ولسان العرب ـ في الاصل يعني تغير الشيء وتحوله، وغالباً ما يستعمل بمعنيين، فتارة يطلق على العضو الذي يتكفل بضخ الدم الى جميع أعضاء البدن، وتارة اخرى يستعمل ويراد به الروح والعقل والعلم والفهم والشعور، وجاء هذا الاطلاق من حيث ان القلب الجسماني والقلب الروحي في حركة وتغيّر مستمرين، وكما يقول بعض أهل اللغة:
ما سمي القلب إلاّ من تقلبه ***** والرأي يصرف بالانسان واطوارا!
كما أنَّ كلمة «القلب» تطلق على مركز كل شيء مثل: قلب العسكر، لأن لاقلب مركز جسم وروح الانسان، وقد جاء في القاموس أن خالص كلّ شيء يقال له «قلب».
وكلمة «النهي» تَعني «العقل» ومن مادة «نهي» على وزن (سَعْي) ويعني المنع من شيء مأخوذ، وقد صرح كثير من أئمة اللغة (كصاحب المفردات ومجمع البحرين
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – لسان العرب والمفردات ومجمع البحرين.
2 – لسان العرب وتاج العروس ومفردات الراغب.
[133]
ولسان العرب وشرح القاموس) أن هذه التسمية جاءت من حيث أن العقل ينهى عن الأعمال المشينة.
وَ«الصدر» في الأصل يعني القسم الأمامي الذي تحت الرأس (في الجسم) ومن ثم اطلق على القسم الأعلى والمقدم لأي شيء، مثل صدر المجلس اي أعلاه، وصدر الكلام أي بدايته، وصدر النهار أي أوله (كما جاء ذلك في المفردات ولسان العرب).
إلاَّ أنه قد يستفاد من بعض الكلمات معنى المقدمية والبداية لكل شيء، وعلى كل حال، بما أن العقل عضو مهم ويقع في الجزء الاعلى من البدن أُطلق عليه صدر، خاصة وأن القلب الجسماني يقع في وسط الصدر (العضو المعروف من البدن)، وسنذكر فيما بعد أن هناك علاقة وثيقة بين انقلاب القلب العضوي والانقلابات العقلية.
أما كلمة «الروح» فى الأصل تعني التنفس، وبما أن هناك علاقة وثيقة بين التنفس وبقاء الحياة، استعملت بمعنى النفس ومركز العقل وفهم الانسان.
وقد صرح البعض أن كلمتي «الروح» و«الريح» اشتقتا من أصل واحد، واذا سميت الروح ـ التي هي وجود مجرد ومستقل ـ روحاً فلذلك من حيث ان الروح كالريح توجد الحيوية والحركة من دون أن تُرى.
وَكلِمة «النفس» ـ وكما يقول الرغب وصاحب القاموس ولسان العرب وكتاب العين ـ تعني الروح التي هي مركز ادراكات الانسان، إلا أن القرآن الكريم ذكر مراحِلَ النفس: «فالنفس الامارة» هي النفس التي تأمر الانسان بالمعاصي وترغبه به، و«النفس اللوامة» وهي التي تندم على المعاصي التي ارتكبها الانسان وتوبخه عليها، و«النفس المطمئنة» وهي التي تتحكم بجميع الشهوات والميول وقد وصلت الى مرحلة الاطمئنان.
من مجموع ما سبق، يتبين لنا أن القرآن المجيد استعمل مفردات كثيرة
[134]
للاشارة الى العقل، وكلٌّ من هذه المفردات تشير الى جانب من جوانب هذا الوجود النفساني، وبتعبير آخر فان كلا منها يتعلق ببعد من أبعاد العقل.
وبما أنّ هذه القدرة الغامضة تردع الانسان عن الأعمال المشينة وتمنعه عنها قيل لها عقل ونُهى.
وبما أنه في حال انقلاب وتحول دائم قيل له «قلب»، وبما أنه في القسم الأعلى من بدن الانسان قيل له «الصدر».
وبما أن هناك علاقة وثيقة بينه وبين الحياة قيل له «روح» و«نفس»، وعندما يصل الى مرحلة الاخلاص ويصفو من الشوائب يقال له «لُبّ»، واخيراً عندما تنضج أفكاره يطلق عليه «فؤاد».
نستنتج من هذا البيان أن استعمال هذه المفردات المتنوعة في القرآن لم يكن اعتباطاً بل كان منسقاً ومتماشياً مع الموضوع الذي في الآية، وهذا من عجائب القرآن التي يدركها الانسان عند تتبعه لآيات القرآن وتفسيره لها موضوعياً.
* * *
أفعال العقل:
إنَّ «الذكر» النقطة المقابلة للنسيان، وكما يقول الراغب: انه حالة في الانسان تمكنه من حفظ ما أدرك واستحضاره في الذهن عند الحاجة، وهذا المعنى قد يتم بالقلب وقد يحصل باللسان.
وإن «الفكر» يعني فعالية العقل، وعلى ما يقوله الراغب: إنه قوة تسوق العلم الى المعلومات، ويعتقد بعض الفلاسفة: أن حقيقة الفكر تتركب من حركتين: حركة نحو المقدمات، ثم حركة من المقدمات الى النتيجة، ومجموع هاتين الحركتين اللتين
[135]
تؤديان الى العلم والمعرفة يقال لَهُ «الفكر».
إنَّ «الفقه» يعني «الفهم» بصورة عامة ـ كما جاء ذلك في لسان العرب ـ إلاّ ان الراغب في مفرداته يقول: انه بمعنى الاطلاع على أمر خفي بالاستعانة بأمر ظاهر وجلي، وعليه فالفقه علم يحصل بالأدلة (بالطبع إن الفقه المصطلح فعلياً هو علم الأحكام الاسلامية).
أمّا «الشعور» فيعني العلم والمعرفة ـ كما يقوله بعض من أئمة اللغة كصاحب القاموس ولسان العرب ومقاييس اللغة وغيرهم ـ إلاّ أن الراغب قال في مفرداته: يعني «الاحساس». واذا كان المقصود هو الاحساس الباطني فلا اختلاف مهم بين ما قاله الراغب وما قاله الآخرون في شرح معنى الشهور، وقد جاء الشعور في كثير من آيات القرآن وأُريد به (العلم)، إلاّ انه استعمل في موضع آخر وقصد به الاحساس الخارجي.
إنَّ كلمة «البصيرة» اشتقت من البصر، وقد جاءت ـ كما يقول الراغب ـ بثلاثة معان: بمعنى العين، وبمعنى قوة العين، وبمعنى قوة الإدراك والعلم.
وقد قال البعض: إن معناها في الأصل هو العلم سواء حصل بالمشاهدة الحسيّة أو بالعقل(1).
وتستعمل مفردة «البصيرة» بالخصوص في «الادراك القلبي والعلم»، ولهذا جاء في لسان العرب آنها تعني الاعتقاد القلبي، وقد فسرها البعض بالذكاء الذهني.
وقد استعملت بهذا المعنى الأخير في القرآن الكريم حيث يقول: (قُلْ هذِهِ سَبِيْلي أَدْعُوا إِلَى الله عَلى بَصِيرَة أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني) (يوسف / 108)(2).
وكلمة «الدراية» تعني العلم والخبرة بصورة عامة، أو العلم والخبرة في الامور الخفية والمستترة، كما قد جاءت بمعنى «الكياسة»، كما يستفاد من مقاييس اللغة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – التحقيق في كلمات القرآن الكريم مادة «بصر».
2 – وقد جاءت في آيات اُخرى واريد منها نفس المعنى كما في الآيات: (14 من سورة القيامة)، و(104 من سورة الانعام)، و(203 من سورة الأعراف)، و(102 من سورة الاسراء).
[136]
آنها في الاصل تعني الالتفات الى شيء ثمّ استعملت وأُريد منها الخبرة بشيء، وقد استعملت في القرآن الكريم مراراً وقصد بها مفهوم «العلم»، ويستخلص من هذا القسم من بحثنا ان الألفاظ التي استعملت للتعبير عن العقل وأريد منها مفهوم العلم والادراك ألفاظ متنوعة، وكلٌّ منها تُعبّر عن بُعد وجانب من أبعاد وجوانب العقل، وقد استعملت كلٌّ في موردها!
فعند البحث عن الخبرة مع الدقة استعملت «الدراية»، وعند البحث عن التحليل والعقلي استعمل «الفكر»، وعند البحث عن أمر خفي ومعرفته بالاستعانة بأمر محسوس استعمل «الفقه»، وعند البحث عن الخبرة المقترنة بالحفظ والحضور بالبال استعمل «الذكر»، وعلى هذا السياق تستعمل كل مفردة في محلها وكل لفظ في مقامه.
وينبغي الالتفات هنا الى هذه النقطة وهي أن التعبيرات التي استعملت في
القرآن لبيان مهام العقل لها مراحل ورتب، تبدأ بـ «الشعور» ويراد منه الادراك البسيط، ثم مرحلة «الفقه» والذي يعني ادراك المسائل الخفية من المسائل الجليّة، وبعدها تأتي مرحلة «الفكر» ويُراد منه التحليل العقلي، ثم تأتي مرحلة «الذكر» أي الحفظ في الذهن والحضور في البال، ثم مرحلة «النُهى» التي تعني الادراك العميق لحقائق الامور، وتنتهي هذه المراحل بمرحلة «البصيرة» التي تعني النظر الذهني العميق.
وهذا هو معنى البلاغة والفصاحة!
* * *
جمع الآيات وتفسيرها:
قيمه العقل في مقياس القرآن:
إنَّ أول آية تناولناها بالبحث هنا تؤكد على أن العقل والتفكير هما هدف الخلق، وتكشف عن هذه الحقيقة بالتعبير بـ (لعلَّ) التي تفيد بيان الهدف في موارد
[137]
كهذا المورد.
وقد أكدت بعض الآيات هذا الموضوع ووبّخت الناس على عدم تفكرهم وتعقلهم وآخذتهم بعبارة كهذه: (أفلا تعقلون)(1).
وقد تكرر هذا المضمون بصيغة جملة شرطية، حيث يقول تعالى: (قد بيّنا لكم الآيات إن كُنتم تعقلون)(2).
إن هذه التعابير المختلفة: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونْ، أَفَلا تَعْقِلُونْ، إنْ كُنْتُم
تَعْقِلُونْ)تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة وهي: إنّ الله وهب الانسان العقل كي يستعين بقدرته على إدراك الحقائق وفهمها، ويستحق اللوم والتوبيخ إذا ترك الانتفاع بهذه القدرة.
والآية الثانية ومن خلال اشارتها الى الله في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار صرحت: ان ادراك هذه الآيات أمر يسير لأُولي الالباب.
وكما أشرنا سابقاً، (اُولي الألباب) هم العلماء الذين خلصت عقولهم من جميع ترسبات الأوهام، فهم يدركون وقايع نظام الخلق، ويرون جمال الخلق من خلالِ المخلوقات، وهذا يكشف عن اهمية العقل كطريق لمعرفة الحق لله جلا وعلا.
* * *
والآية الثالثة، بعد أن أشارت الى خروج الانسان من بطن اُمّه لا يعلم شيئاً شرحت وسائل المعرفة، فبدأت بقوة «السمع» الذي تُعرف علومه بـ «العلوم النقلية»، من خلال الاصغاء الى أقوال الاخرين، ثم ذكرت «البصر» الذي يميّزُ به
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 – (آل عمران: 65)، (الانعام: 32)، (الاعراف: 169)، (يونس: 61)، (هود: 51)، (يوسف: 109)، (الانبياء: 10 و67)، (المؤمنون: 80)، (القصص: 10)، (الصافات: 138).
2 – (آل عمران): 118.