الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ٨١ – ١٠٠
حدّثت عن النبي (عليه السلام)، وأمّا معاوية فكان كافراً في ذلك الوقت غير مشاهد للحال، صغيراً، ولم يحدّث عن النبيّ…(١)وقال ابن كثير:… فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء، ولم يكن مستعظماً، ولما بادرت قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدّت جماعة ممّن كان قد أسلم، وأيضاً فإن “العبد” عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}…(٢)
ويجري مجرى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ما في سورة النجم، فقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (٣) لا يتّفق مع الرؤيا، بل الآية في سياق الامتنان وبيان آيات ربّه الكبرى، أمّا الرؤيا فهي نحو من التخيّل يتفق للصالح والطالح ولا منزلة للرسول في القول بهذا.
|
هذا ويمكن إجابة كلّ التساؤلات والتشكيكات بأنّ الأمر كان معجزةً، والمعجزةُ لا تدركها العقول البسيطة، فهي من قبيل إحياء الأموات، وتبديل العصى ثعباناً، وكولادة عيسى من غير أَب، وخروج ناقة صالح من الجبل الاصم، وقوله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ
٣- النجم: ١٧ ـ ١٨.
فلو كان معراج النبيّ محمّد في ليلة واحدة ممتنعاً لكان القول بنزول آدم من الجنّة وإصعاد عيسى إلى السماء ممتنعاً، بل لسرى الشك في المعجزات لأنّها في أصلها خرقٌ للقوانين المادية.
وعليه فهذه الرؤية طرحت لبذر الشكّ في قلوب المؤمنين من قبل {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ} (٥) أو {الذينَ لا يؤمنون} (٦) في حين أنّ رسالة السماء معناها الغيب والماورائيات وهي تتفق مع الإسراء وما جاء فيه، وهذا ما لا تدركه عقول هؤلاء من الامتحان الإلهيّ الذي سُنّ ليمحّص الله به المؤمنين ويميزهم عن
٣- سبأ: ١٢.
٤- البقرة: ٣.
٥- المائدة: ٥٢، التوبة: ١٢٥، الأنفال: ٤٩.
٦- النحل: ٢٢.
ولو صحّ هذا الاحتمال لكانت أيدي المؤمنين ملعونة كذلك ; لقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (٤).
ومثله حال بقية المعاذير التي ذكرها مفسروا أهل السنة والجماعة للتخلّص من كيفية صحّة لعن الشجرة، ومحاولتهم صرف الآية الكريمة عن لعن شجرة بني أميّة(٥).
وإنكّ لو تدبّرتَ في تفسير قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً
٣- التحريم: ٦.
٤- التوبة: ١٤.
٥- انظر: على سبيل المثال تفسير الميزان ١٣: ١٤١ ـ ١٤٣ ففيه جواب تلك المعاذير المطروحة.
مع الرسول ورؤياه
قال الالوسي في تفسير آية الرؤيا:… وأخرج ابن جرير، عن سهل بن سعد، قال: “رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني أميّة يَنْزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتّى مات عليه الصلاة والسلام، وأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا}. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر عن سعيد بن المسيب، قال: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني أميّة على المنابر فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: إنّما هي دنيا أُعطُوها، فقرّت عينه، وذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا}… الخ.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن يعلى بن مرّة، قال: “قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رأيت بني أميّة على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء، واهتمّ عليه الصلاة والسلام لذلك، فأنزل الله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا}… الآية ” وأخرج عن ابن عمر: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: “رأيتُ ولد الحَكَم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة، وأنزل الله تعالى في ذلك {وَمَا جَعَلْنَا}… الخ، والشجرة الملعونة الحكم وولده” وفي عبارة بعض المفسرين: هي بنو أميّة.
وأخرج ابن مردويه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنّها قالت لمروان بن
وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا، وعدلوا عن سنن الحقّ وما عدلوا، وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم، ممن كان عندهم عاملاً وللخبائث عاملاً، أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان.
ويحتمل أن يكون المراد “ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلاّ فتنة”، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه. وجعل ضمير {وَنُخَوِّفُهُمْ} على هذا لما كان له أوّلاً، أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أميّة ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، والفروج المحصنة، وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها، وتبديل الأحكام، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تُنسى ما دامت الليالي والأيام.
وجاء لعنهم في القرآن، إما على الخصوص كما زعمته الشيعة، أو على العموم كما نقول، فقد قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وقال عزّوجلّ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} إلى آيات أخر، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوّليّاً(١)، انتهى موضع الحاجة
وعليه فلا يصحّ ما قالوه من تكلّفات في كلمة الرؤيا والشجرة الملعونة في الآية، مع وضوح أنّ الملعونين في القرآن هم جند إبليس واليهود، والمشركون، والمنافقون، والذين ماتوا وهم كفار، والذين يكتمون ما أنزل الله، والذين يؤذون الله ورسوله وغيرها لا شجرة الزقوم ولا غيرها من التأويلات التي صيغت بأخرة لإبعاد الآية الكريمة عن معناها الحقيقي(٢).
المجتهدون الأوائل ودورهم في التشريع:
أبانت دراساتنا السابقة عن (وضوء النبيّ) و(منع تدوين الحديث) و(تاريخ الحديث النبوي الشريف)(١) بروز نهجين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان موجودين في حياته:
أحدهما: يتّخذ المواقف من خلال الأصول، ويتّبع القرآن والسـنّة، ولا يرتضي الرأي والاجتهاد مع وجود النصّ.
والآخر: يتّخذ الأصول من خلال مواقف الصحابة وإن خالفت النصوص، فهؤلاء يشرّعون الرأي ويأخذون به مقابل النص، ويتعاملون مع رسول الله كأنّه بشر غير كامل يصيب ويخطئ ويسبّ ويلعن ثمّ يطلب المغفرة للملعونين(٢)، أو أنّه(صلى الله عليه وآله) خفي عليه أمر الوحي حتّى أخبره ورقة بن نوفل بذلك! وهذا يخالف ما ثبت من أنّ خاتم النبوة كان مكتوباً على كتفه.
وبين هـؤلاء من رفع صوته ـ في ممارسـاته اليـومـيـة ـ فـوق صـوت النـبيّ، واعتـرض على رسـول الله في أعـمالـه(٣)، وتعـرّف المصـلحـة وهـو
٣- كاعتراض عمر بن الخطاب على رسول الله لمّا أراد أن يصلّي على المنافق، وقوله له: أتصلّي عليه وهو منافق؟! وإنكاره على رسول الله فعله في أخذ الفداء من أسرى بدر وغيرها. انظر: صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عمر.
وفي خبر آخر: أُخبر رسول الله أنّ عبدالله بن عمرو بن العاص يقول: والله لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل، فقال له رسول الله: أنت الذي تقول: “لأصومنّ النهار ولأقومنّ الليل ما عشت”؟!
قال: قد قلت ذلك يا رسول الله.
فقال رسـول الله: إنّـك لا تسـتطيع ذلك فصُـمْ وأفطـرِ، ونَـم وقُـم، وصُم من الشـهـر ثلاثـة أيّام، فإنّ الحسـنة بعشـر أمـثالهـا، وذلـك مـثل صـيام الدهـر.
قال، قلت: إنّي أُطيق أفضلَ من ذلك.
فقال (صلى الله عليه وآله): فصم يوماً وأفطِر يومين.
قال: قلت: إنّي أطيق أفضل من ذلك.
فقال: قـال: فَصُـم يوماً وأفطِر يوماً، فذلك صيام داود (عليه السلام) وهو أفضل الصيام.
فقلت: أطيق أفضل من ذلك.
فقال النبيّ: لا أفضل من ذلك(٢).
٣- كمن طلّق زوجته بغير شهود وعلى غير طهر، وقد يكون فيه إشارة إلى قوله بعد بيعته: ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تزوج به. إلخ، وانظر: نهج البلاغة ١: ٤٢ خ ١٤.
٤- لأنّ عمر رفع الجزية عنهم فهم ليسوا بأهل ذمّة، فيحلّ سبي ذراريهم، قال محيي السنّة البغويّ: روي أنّ عمر بن الخطّاب رام نصارى العرب على الجزية، فقالوا: نحن عرب لا نؤدّي ما يؤدّي العجم، ولكن خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض، بعنوان الصدقة. فقال عمر: هذا فرض الله على المسلمين. قالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجز ية، فراضاهم على أن ضعّف عليهم الصدقة.
٣- ربّما كان إشارة إلى ما ذهب إليه عمر من منع غير القرشيّ الزواج من القرشيّة، ومنعه العجم من التزوّج من العرب.
٤- إشارة إلى منع عمر أهل البيت خُمسَهم.
٥- يعني أخرجت منه ما زاده عليه غصباً.
٦- إشارة إلى ما نزل به جبرئيل من الله تعالى بسدّ الأبواب المفضية إلى مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلاّ باب عليّ.
٧- إشارة إلى ما أجازه عمر في المسح على الخفّين، ومخالفة عائشة وابن عبّاس وعليّ وغيرهم له في هذا الصدد.
٨- يعني متعة النساء ومتعة الحجّ.
٩- لِما كبّر النبيّ(صلى الله عليه وآله) خمساً في رواية حذيفة وزيد بن أرقم وغيرهما.
١٠- والجهر بالبسملة ممّا ثبت قطعاً عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) في صلاتهِ، وروى الصحابة في ذلك آثاراً صحيحة مستفيضة متظافرة.
فعن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال لجابر: والله يا جابر لو كنّا نُفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنّا نُفتيهم بآثار من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأُصول علم عندنا، نتوارثها كابراً عن كابر، نَكنِزُها كما يكنز هؤلاء ذهـبهم وفضّتهم(٧).
وسأل رجلُ الإمام الصادق (عليه السلام) عن مسألة فأجابه فيها، فقال الرجل: أرأيتَ
٣- أي من أجناسها التسعة، وهي: الدنانير والدراهم والحنطة والشعير والتمر والزبيب والإبل والغنم والبقر.
٤- وذلك لمخالفتهم هذه الأحكام. وقد أوضّحنا حكم الوضوء منه في كتابنا (وضوء النبيّ) فراجع، نأمل أن نوفّق في الكتابة عن الغسل والصلاة وغيرها من الأحكام الشرعية التي أشار الإمام علي بن أبي طالب إلى التحريف والابتداع فيها إنّ شاء الله تعالى.
٥- وهم الذين أجلاهم عمر عن مواطنهم.
٦- الكافي ٨: ٥٨، الروضة ح ٢١.
٧- بصائر الدرجات: ٣٠٠ ح ٤ والنص عنه، و٢٩٩ ح ١.
المجتهدون الاوائل والأذان!
والآن لنرى موقف عمر بن الخطاب وموقف غيره من المجتهدين في الأذان، وهل لهؤلاء دور في هذا التغيير، أم تقع تبعات التحريف على اللاحقين من بني أميّة وبني العبّاس؟ وغيرهم من المتأخّرين حسب تعبير الصنعاني(٦).
٣- صحـيح البخاري ٤ / ٣٨١ كـتاب الشـروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة، ح ٩٣٢.
٤- المصنّف لعبد الرزاق ١٠: ٣١٣ كتاب أهل الكتابين، باب هل يسأل أهل اليهود بشيء / ح ١٩٢١٣، مجمع الزوائد ١: ١٧٤ باب ليس لاحد قول مع رسول الله٩.
٥- صحيح البخاري ١: ١١٩/١٢٠ كتاب العلم، باب ٨٢، ح ١١٢، صحيح مسلم ٣: ١٢٥٧، ١٢٥٩، كتاب الوصية باب ترك الوصية…
٦- انظر: كلامه المتقدم في صفحه ٢٣ من هذه الدراسة. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم وبعد أن اتى بخبر عبدالله بن زيد قال:… فيكون الواقع الاعلام اولاً ثمّ راى عبدالله بن زيد الأذان فشرعه النبيّ بعد ذلك اما بوحي واما باجتهاده (صلى الله عليه وآله) على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد الاجتهاد له (صلى الله عليه وآله) وليس هو عملاً بمجرد اتمام هذا ما لا يشك فيه بلا خلاف والله اعلم.
فهؤلاء المجتهدون في الصدر الأوّل كانوا يتعاملون مع الأحكام وفق ما عرفوه من الشرائع السابقة، وكانوا يتصورون بأنّ الأمر بيدهم يفعلون ما يشاؤون، فكانوا هم الذين اقترحوا على رسول الله البوق، الناقوس “فنقسوا أو كادوا أن ينقسوا” حتّى رأى عبدالله بن زيد أو غيره في المنام….
إذاً فكرة كون تشريع الأذان كان بـ “رؤيا” جاءت من قبل الصحابة المجتهدين، ثمّ تطوّرت حتّى وصل بها الأمر إلى ما وصل لاحقاً، وهذا ما يجب الوقوف عليه في مطاوي بحوثنا..
إذ جاء عن كثير بن مرة الحضرمي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أوّل من أذّن في
نعم إنّهم رفعوا بضبع الصحابة الحالمين الرائين للأذان إلى مرتبة النبوة والمعاينة الحقيقيّة حتّى قال عبدالله: “يا رسول الله، إنّي لَبينَ يقظان ونائم”، وفي آخر: “لقلت: إني كنت يقظاناً غير نائم”، وبعكس ذلك نراهم يحطّون من منزلة النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن المعاينة الحقيقية في المعراج ـ {ثُمّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْأَدْنَى} ـ إلى مرتبة التشكيك، مستخدمين العبارة نفسها “بين النائم واليقظان”، ورووا ذلك في الصحيح!!
ففي صحيح مسلم بسنده عن قتادة، عن أنس بن مالك ـ لعله قال: عن مالك بن صعصعة (رجل من قومه)، قال ـ قال نبي الله (صلى الله عليه وآله): بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان….
ثمّ أتيت بدابة أبيض يقال له البُراق فوق الحمار ودون البغل يقع خطوه عند أقصى طرفه، فحُمِلتُ عليه، ثمّ انطلقنا حتّى أتَينا السماء الدنيا…. ثمّ سرد قصة المعراج(١).
بل في رواية شـريك في حديـثه عن أنس التصـريح بأنّـه (صلى الله عليه وآله) كان نائمـاً. قال: “وهو نائم بالمسجد الحـرام” وذكـر القصـة الـواردة ليلـة الإسـراء، ثـمّ
بل صرّح إمام الشافعية القاضي أبو العبّاس بن سريج بوضع هذا الحديث على عائشة فقال: هذا حديث لا يصحّ وإنّما وُضِعَ ردّاً للحديث الصحيح(٣).
ترى من هو الواضع؟
وما هو غرضه من التحر يف في مقابل ما هو أصيل؟
ولماذا جَحْدُ منزلة النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومحاولة جعل القضية مناماً عاديّاً؟
ولماذا يختص ذلك بمعاوية وعائشة؟!
وهل يكمن في ذلك إنكارٌ مُبَطَّن لرؤيا النبيّ بني أميّة ـ أو تيماً وعديّاً ـ يردون الناس عن الإسلام القهقرى؟!(٤) إذ ليس في الرؤيا المناميّة كبير أمر ولا كثير طائل، وإذا كان المعراج رؤيا فلماذا لم يَرَها الآخرون كما رأى الأذان سبعة أو أربعة عشر أو عشرون شخصاً؟! لكي لا يكذّب المشركون النبيَّ (صلى الله عليه وآله) أو لكي لا يرتدّ من أسلم من المسـلمين؟ ألم يقـولـوا مثل هذا التعلـيل في سـرّ رؤى الصـحابـة للأذان؟!
٣- سبل الهدى والرشاد ٣: ٧٠، نقلاً عن المعارج الصغير لابن الخطاب بن دحية.
٤- الكافي ٨: ٣٤٣ ـ ٣٤٥ باب رؤيا النبيّ(صلى الله عليه وآله).
الأمويّون والأذان
لقد تطوّرت فكرة الرؤيا وما جاء في تشريع الأذان في العهد الأموي وتأطّرت بإطارها الخاص ; إذ لو جمعنا القرائن والشواهد لعرفنا بأن معاوية ومن بعده هم الذين تبنوا هذه الفكرة وأنّهم كانوا قد سعوا لتثقيف الناس حسبما يريدونه، وهذا ما نلاحظه في نصوص الأذان بعد الإمام عليّ، إذ لم يشر عليّ (عليه السلام) إلى هذا التضاد في الأذان في ما رواه عن النبيّ، بل لم يردنا خبرٌ صريحٌ في تكذيب الروايات المدّعية لثبوت تشريع الأذان بالرؤيا قبل الإمام الحسن بن عليّ(عليه السلام).
فأوّل ما تطالعنا النصوص بهذا الصدد هو كلام سفيان بن الليل حينما قدم على الإمام الحسن بعد الصلح، قال: فتذاكرنا عنده الأذان فقال بعضنا: إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله بن زيد.
فبعضهم في هذا الخبر يقول: (إنّما كان بدء الأذان برؤيا عبدالله)، لكنّ الإمام الحسن صحّح رؤيتهم الخاطئة قائلاً: إن شأن الأذان أعظم من ذلك.
ونحن لو واصلنا السير التاريخي وانتقلنا من خبر الإمام الحسن إلى ما جاء عن الإمام الحسين وأنه سئل عمّا يقول الناس؟ فقال (عليه السلام): “الوحي ينزل على نبيكم، وتزعمون أنّه أخذ الأذان عن عبدالله بن زيد” ; لعرفنا استمرار هذا النزاع بين الناس وأهل البيت في كيفية نشوء وبدء تشريع الأذان.
وقد مر عليك كلام أبي العلاء سابقاً حيث قال: قلت لمحمّد بن الحنفية: إنا لنتحدث أنّ بدء الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الانصار في منامه.
قال: ففزع لذلك محمّد ابن الحنفية فزعاً شديداً وقال: عمدتم إلى ما هو الاصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنّه إنّما كان رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه يحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام.
قال: فقلت: هذا الحديث قد استفاض في الناس؟
قال: هذا والله هو الباطل…
فبدءُ النزاع العلني وانتشاره كان في زمن معاوية بعد صلح الإمام الحسن، وفزعُ محمّد بن الحنفية الفزع الشديد، وإخبارهم إياه باستفاضة هذا الحديث، ليدلاّن على أنّ وضع تلك الأحاديث الأذانية أو بدء انتشارها كان في زمان معاوية بن أبي سفيان، الّذي كان حسّاساً إلى درجة كبيرة من ذكر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، إذ
وعلى ذلك فلا ضير إذن في الزيادة أو الحذف في الأذان، فلَكَ أن تحذف «حيّ على خير العمل» كما فعل عمر وتضع موضعها «الصلاة خير من النوم»، ولك أن تفرد الإقامة ولا تثنّيها “لحاجة لَهُمْ”، ولك أن تزيد النداء الثالث يوم الجمعة، ووو… إلى آخر هذه الاجتهادات، إن كان لها آخِر.
ومن هذا الباب كان معاوية أوّل من أفشى مقولة التثويب الثاني، وهي دعوة المؤذّنُ للخليفة أو الأمير ـ لكثرة مشاغله ـ إلى الصلاة بقوله “السلام على أمير المؤمنين، الصلاة الصلاة رحمك الله”، وسار المغيرة بن شعبة على نهج معاوية في هذا أيضاً، بل قيل إنّه أوّل من فعل ذلك.
ولكن صرّح الأعلام بأنّ معاوية كان أوّل من أحدث هذا، وتبعه المغيرة بن شعبة ومَن حذا حذوه(٢).
فشاع الأمر واستفاض، وصار كأنّه حقيقة لا مناص عن الإذعان لها ـ مع أنّ الحقيقة الإسلامية هي شيء آخر ـ وراحت أصداء هذا الحدث الأذاني تمتد وتمتد إلى العصر العباسي، ومنه وصلت إلى يومنا الحاضر.
فقد قال رسول الله عن بني هاشم: “أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنّما نحن وهم شيء واحد” وشبك بين أصابعه.(٢)
نعم كان الأمر كذلك، فرسول الله كان لا يرتضيهم، وهُم لم يدخلوا الإسلام إلاّ مكرهين.