الاخلاق الطبية … في الاسلام
الفصل الاول :
الطب … كمسؤلية
احكام الاسلام
انه لا شك في ان الله الذي هو خالق كل شيء .. كما انه عليم وبصير بكل ما في هذا الكون … وعليم بعباده ، وبصير بهم .. كما قال تعالى : « له ملك السماوات والارض ، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. هو الاول والاخر ، والظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم. هو الذي خلق السماوات والارض في ستة ايام ، ثم استوى على العرش ، يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم اينما كنتم ، والله عليم بصير ». (١) والايات في ذلك كثيرة ..
كذلك .. فانه تعالى رحيم بعباده رؤوف بهم ، لا يريد لهم الا الخير والسعادة ، والصلاح ، كما قال تعالى : « هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ؛ ليخرجكم من الظلمات الى النور ، وان الله بكم لرؤوف رحيم » (٢).
وقال تعالى : « بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمان الرحيم. » (١)
__________________
(١) الحديد ١ ـ ٤.
(٢) الحديد ٩.
والايات في ذلك كثيرة ..
وهكذا .. فانه تعالى اذا شرع لهم احكاما تنظم امور معاشهم ومعادهم ـ بما في ذلك احكام القصاص ـ فانما يهدف من ذلك الى تحقيق السعادة والكمال لهم ، وحفظهم من الانزلاق في مهاوي الشقاء والضلال والضياع ، كما اشارت اليه الاية المتقدمة من سورة الحديد …
وحينما سئل الامام الباقر عليه عن سبب تحريم الميتة ، والخمر ، ولحم الخنزير ، والدم ، قال : « ان الله تعالى لم يحرم ذلك على عباده ، واحل لهم ما وراء ذلك من رغبة فيما احل لهم ، ولا زهد فيما حرمه عليهم ، ولكنه خلق الخلق ، فعلم ما تقوم به ابدانهم وما يصلحهم ، فأحله لهم ، واباحه لهم : وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه ، ثم احله للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه الا به » (١).
وروى بأسانيد عن الرضا عليهالسلام ، انه قال : « وجدنا : ان ما احل الله ففيه صلاح العباد ، وبقاءهم ، ولهم اليه حاجة ، ووجدنا المحرم من الاشياء ولا حاجة (٢) ولا حاجة بالعباد اليه ، ووجدناه مفيدا ».
قال الحر العاملي : والاحاديث في ذلك كثيرة (٣).
ويكفي ان نذكر : ان الله تعالى قد اعتبر الاسلام نعمة انعم الله بها على العباد ، وقد اتم نعمته هذه بتنصيب علي عليهالسلام اماما وقائدا في يوم الغدير ، قال تعالى :« اليوم اكملت لكم دينكم ، واتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الاسلام دينا » (٤).
__________________
(١) الكافي ج ٦ ص ٢٤٢ ، والمحاسن ص ٣٣٤ والتهذيب ج ٩ ص ١٢٨ ومن لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٢١٨ والوسائل ج ١٧ ص ٢.
(٢) لعل الواو في قوله « ولا » زائدة.
(٣) الفصول المهمة ص ٥٤١ عن علل الشرايع ، والبحار ج ٦ ص ٩٣. وراجع علل الشرايع ج ١ ص ٢٥٠ و ٢٥٢.
(٤) المائدة ٣.
حق التشريع … لمن؟! :
واذا كان الله تعالى هو الخالق والمالك لهذا الكون والانسان ، والخبير به والمطلع على كل ما فيه من علاقات وروابط ، والعارف بما يصلحه مما يفسده ، فانه سيكون هو فقط الذي يملك حق وضع قانون وتشريع يؤمن لهذا الانسان سعادته وكماله ، ويهيمن على كل حالاته وسلوكه.
وكل من يتصدى لهذا الامر سوى المولى سبحانه وتعالى ، ممن لا يعرف عن هذا الكون والانسان شيئا يذكر ، فانه يكون خارجا عن جادة الانصاف ، وعن مقتضيات العقل ، والفطرة … بل وظالما متعديا ايضا … ولن يستطيع ان يضع النظام الكامل والشامل ، والمطابق لكل مقتضيات واحوال هذا الانسان ان لمن لم نقل : انه سيضع في كثير من الاحيان ما يؤدي الى شقائه وبلائه ، ان لم يكن الى دماره وهلاكه.
وكمثال على ذلك نقول : لو ان شخصا اخترع آلة في غاية الدقة والتعقيد وتتأثر بما حولها تأثرات مختلفة ، فهل يحق لمن لا يعرف حقيقة تركيبها ، وخصائصها : ان يمنع مخترعها عن التصرف فيها ، وعن ان يضع لها نظاما يحفظ لها سلامتها واستمرارها ، ويحافظ على كل دقائقها وخصائصها؟ ثم يتصدى هو ـ ذلك الجاهل بها وبكل شيء عنها ، او بأكثر ـ لوضع ذلك النظام والقانون؟! وهل يمكن ان يمدحه احد على ذلك؟! وهل ثمة من يتوقف في توجيه اللوم والتقريع له؟! وهل يمكن ان لا يطالب كل عاقل منصف بايقافه عند حده ، ثم بتغريمه لكل النقائص والخسائر التي نجمت عن طغيانه ذاك ، بالاضافة الى العقاب الرادع والجزاء العادل (١) ، ليكون ذلك موعظة له في نفسه ، وعبرة لغيره.
____________
(١) فان من سن سنة حسنة كان له اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة ، ومن سن سنة سئية كان عليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة.
فالمتحصل من كل ذلك اختصاص حق التشريع بالباري سبحانه وتعالى ، العالم بكل شيء ، والمهيمن على جميع المخلوقات.
شمولية قوانين الاسلام :
وبعد … فلا ريب في ان التشريعات الالهية والتعاليم القرآنية ، انما تهدف الى تحقيق الكمال والسلامة والهناء والسعادة ـ كل السعادة والهناء ـ لهذا الانسان ، بالاضافة الى تكامل الانسان في انسانيته ، وفي قربه من الله تعالى ، والفوز برضاه.
وبديهي : انه كلما كانت النظم ادق واشمل كلما كانت السعادة والسلامة لهذا الانسان اتم واكمل ، ووصوله الى ذلك الهدف الاسمى اسرع وايسر.
ومن هنا … فقد كانت تعاليم الاسلام وقوانينه دقيقة وشاملة لجميع شؤون الانسان ، ومختلف احواله واوضاعه : سياسية كانت ، او اقتصادية ، او سلوكية ، او نفسية ، او غيرها .. مما يرتبط بالفرد او بالمجتمع … فكل شيء محكوم لقانون ، ويهيمن عليه نظام ، يوجهه لخير الانسان ، ويجعله في خدمته.
نعم كل شيء … فبالنسبة لشخص الانسان ، نجده لم يغفل حتى عن اكله وشربه ، وقيامه ، وجلوسه ، ومشيه ، ونبرات صوته ، بل لقد تدخل حتى في اختيار ، ومواصفات البيت الذي يعيش فيه. والثياب التي يلبسها ، وفي كيفية تصرفه بها … بل وحتى في خلجات الانسان القلبية ، وافعاله الجوانحية.
كما اننا نجد : ان الاسلام لم يشرع اي قانون يضر بمكانة الانسان الاجتماعية ، او بذوقه ، وسجيته ، او بروحه وحالته النفسية ، او بصحته البدنية.
وكمثال على ذلك : نشير الى تعاليم الاسلام المتعلقة بتقليم اظفاره ، وترجيل شعره ، واوامره له بالتنظيف والتطهر ، حتى لقد ورد : ان الله يبغض الرجل القاذورة (١) ، وورد : ان النظافة من الايمان (٢) ، وعنه (ص) : بئس العبد القاذورة (٣) … بل لقد حرم عليه بعض الالبسة التي تضر بمكانته الاجتماعية وتوجب استهانة الناس به.
الى غير ذلك من الشؤون والاحوال التي يمر بها الانسان او تمر به ، والتي غفل عنها اي تشريع آخر سوى التشريع الالهي الحق ، لانه صادر عن ساحة الحق سبحانه وتعالى … حتى ليقول الامام الصادق عليهالسلام : « ان عندنا الجامعة ، قلت : ( اي الراوي ) وما الجامعة؟ قال : صحيفة فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج اليه الناس حتى الارش في الخدش ، وضرب بيده الي فقال : اتأذن يا ابا محمد؟ قلت : جعلت فداك ، انما انا لك ، فاصنع ما شئت ، فغمزني بيده ، وقال : حتى ارش هذا (٤). »
طبيعية قوانين الاسلام :
ونحن لا نريد ان ندعي هنا : ان شمولية الاسلام هذه قائمة على اساس النص الصريح على كل كلية وجزئية ، فان ذلك امر متعسر بل متعذر … وانما تكمن شموليته في كونه قد نظر الى الانسان ، واحواله ، واوضاعه نظرة واعية تتسم بالشمول والدقة ، فقد لاحظ :
__________________
(١) البحار ج ٧٦ ص ٨٤ وج ٨٠ ص ١٠٦ عن كنز الفوائد للكراجكي وج ٩٩ ص ٣٠٣ فقه الرضا ٤٨ وج ٩٩ ص ٨٤ ، والخصال ج ٢ ص ٦٢٠ ، وتحف العقول حديث الاربعمائة ص ٧٣.
(٢) البحار ج ٦٢ ص ٢٩١ عن طب النبي للمستغفري.
(٣) الفصول المهمة ص ٤٤١ ، وطب الصادق ص ١٥ عن الدعائم.
(٤) الوسائل ج ١٩ ص ٢٧٢ حديث ١.
اولا : شؤونه الثابتة التي لايطرأ عليها تغيير ولا تبديل في اي من الظروف والاحوال ، فوضع لها قوانين ثابتة ، وانظمة محددة … وذلك من قبيل قوانين الارث ، والزواج ، والطلاق ، ونحوها … ويمكن ان يدخل في ذلك جميع الاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية ، حسب الاصطلاح الاصولي.
ثم لاحظ :
ثانياً : الشؤون التي يطرأ عليها التغيير والتبديل ، ولا يمكن ان تكون في اطار ضابطة معينة وثابتة ، فجعل اصولا وقواعد عامة ، يجري التغيير والتبديل في نطاقها.
فهذه القوانين والضوابط ثابتة ، والمتغير هو ما تنطبق عليه تلك القواعد والاصول.
ويمكن ان يدخل في هذا الاطار ايضا سائر الموضوعات التي تعرض لها العناوين الثانوية ، حسب الاصطلاح الاصولي.
ومن هنا … فقد كان للاسلام مرونة خاصة بالنسبة لموقفه من الثقافات ، والعلوم التي تفيد المجتمع الاسلامي ، وبالنسبة لشؤون الادارة الداخلية ، وشؤون الامن في البلاد الاسلامية ، تبعا للضرورات التي تفرضها الظروف والاحوال الطارئة والمتغيرة.
وقد اعطى ذلك للاسلام قدرة خاصة على استيعاب كل جديد ، وعلى ان يساير التطورات الحضارية المختلفة على مر العصور ، وعلى اتخاذ الموقف المناسب في الظروف والاحوال والمتغيرات باستمرار ، ولسوف يبقى محتفظا بهذه القدرة مستقبليا ايضا … فهو القانون الوحيد ، الذي يستطيع ان يكون انسانيا ، وحضاريا ، وعالميا ، وابديا.
الفقيه … وغير الفقيه :
١ ـ اما وظيفة الفقيه فليست الا الكشف عن الاحكام الالهية الثابتة لموضوعاتها ، وتطبيق القواعد والكليات الثابتة على مصاديقها المتحولة المتغيرة فالفقيه لا يجعل الاحكام الشرعية ، وانما هو يكشف عنها ، او يطبق القاعدة على موردها.
٢ ـ هذا … ولا شك في ان الفطرة والعقل والعقلاء يحكمون على من ليس له قدرة الكشف والتطبيق هذه ـ حيث لا يمكن الاحتياط (١) ولا يمكن العمل به ـ بالرجوع الى الذي يملك هذه القدرة ، ويمارسها فعلا … لانه هو المتخصص في هذه الجهة ، وله خبرات تؤهله لان يكون مرجعا لمن يفقد هذه الخبرات تماما … كذلك الذي يراجع الطبيب او المهندس في ما يرتبط بهما من امور الطب والهندسة ، لانه هو لا يملك خبرات في هذين المجالين.
٣ ـ كما ان الانسان يفضل بحسب فطرته وسجيته وعقله : الامهر من الاطباء واصحاب الاختصاصات ؛ ولا يراجع غيره الا اذا لم يقدر على الاستفادة منه.
وقد امر الله تعالى ارشادا الى ذلك ، فقال : فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون (٢) … وقال تعالى ايضا مشيرا الى ان ذلك مرتكز في فطرة الانسان وسجيته : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (٣).
٤ ـ ومن الجهة الثالثة : فان فطرة الانسان وسجيته ، تدفعه الى ان يهتم بمراجعة من يثق بصدقه واخلاصه من اهل الاختصاصات … وكلما كان الامر اهم ،
__________________
(١) كما في كثير من الموارد العامة : سياسية ، واجتماعية ، وادارية … وغيرها.
(٢) النحل ٤ : ٣.
(٣) الزمر ٩.
كلما زاد اهتمام الشخص في ان يجد من يجمع اقصى الشروط الملائمة لانجاح وسلامة العمل الذي يرمى اليه على النحو الاكمل والافضل ..
٥ ـ واذا كان الشرع والدين هو اعظم قضية يمكن ان تواجه هذا الانسان ؛ لانها تمس كل شؤون حياته الفردية والاجتماعية ، ويتوقف عليها مصيره ومستقبله ، ان دنيا ، وان آخرة. وكل خلل يطرأ ، او تجاوز يحصل ، فسيؤثر مباشرة على حياة الانسان ومصيره ..
ـ اذا كان كذلك ـ فانه لابد وان يسعى هذا الانسان الى ان يوفر كل الشروط والضمانات التي تجعله يحصل على اعلى درجات الاطمينان والثقة في من يفترض فيه ان يكون قائداً ومعلما ومرشدا له في هذا السبيل … سواء من الناحية العلمية ، اوالسلوكية ، او غيرها من النواحي ، التي لها مساس بالمهمة التي يريده لاجلها …
وليس ذلك الا الرجل المجتهد العادل ، الذي بنى نفسه من الداخل قبل الظاهر ، والذي يكون ظاهره انعاكسا لباطنه .. الرجل الذي يملك اعظم المهارات والكفاءات العلمية في هذا المجال … الى غير ذلك من مواصفات نص عليها الفقهاء في كتبهم المعدة لذلك ..