“إسرائيل” ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر تمرّ في مأزق استراتيجي لم يمرّ عليها في تاريخها، وباتت مدركة أن إرادة البقاء لمشروعها باتت مهدّدة، وهي من دون الدعم الأميركي هشّة وضعيفة.
بعد قرابة الثلاثة أشهر من حرب ضروس تشنّها “إسرائيل” على قطاع غزة، مدعومة بجسر جوي أميركي من الإمدادات بأحدث ترسانة عسكرية، ورهانات إسرائيلية كبيرة بتحقيق أهداف الحرب المعلنة، بدت حكومة نتنياهو تتداعى، وصراعات المحاور داخلها وداخل مجلس الحرب تحتد، وملامح التصدّع تطفو على السطح، في حين تحافظ المقاومة الفلسطينية على منظومة التحكّم والسيطرة في القدرة على القصف الصاروخي بعيد المدى والمواجهة البرية المستمرة، وتماسك صفوفها ودقة أدائها وثبات مواقفها رغم اشتداد لهيب الحرب وطول أمدها.
المؤتمر الصحافي الأخير الذي خرج فيه رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو وحيداً إلى وسائل الإعلام يكشف حقيقة المأزق الداخلي في “إسرائيل”، يعكس حجم الأزمة والصراعات بين الأقطاب المختلفة داخل مجلس الحرب ومفاصل الائتلاف الحكومي، طغت عليه كل معاني الاضطراب والهزيمة بعد العجز الكبير عن حسم المعركة مع المقاومة في قطاع غزة.
المشهد في “إسرائيل” يؤكد وجود أزمة حقيقية وكبيرة متفاقمة تتصاعد بين القيادتين العسكرية والسياسية من جهة، وداخل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي وعلى صعيد الجبهة الداخلية الإسرائيلية من جهة أخرى، تتمثّل أوجه الأزمة في محاور أساسية:
الأول: إدراك القيادة العسكرية الإسرائيلية وتحديداً (غالانت وغانتس) أن بنيامين نتنياهو كرئيس للائتلاف الحكومي يسخّر هذه المؤتمرات لخدمة مكاسبه السياسية الحزبية بهدف تثبيت ائتلافه الحكومي وحمايته من السقوط والانهيار.
الثاني: رفض نتنياهو وشركائه في الائتلاف طلب مؤسسة “الجيش” أكثر من مرة مناقشة خطة اليوم التالي للحرب على قطاع غزة، إذ إنّ نتنياهو يريدها حرباً ممتدة طويلة تعفيه من المسؤولية والمساءلة والمحاسبة تجاه ما جرى يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وما بعده من أحداث.
الثالث: ورطة “جيش” الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة وارتفاع أعداد القتلى والجرحى بشكل غير متوقّع نتيجة قوة المقاومة وبسالتها في الميدان، والمطالبات المتصاعدة بوقف نزيف الخسائر في صفوف “جيش” الاحتلال الإسرائيلي، وهذا بدا واضحاً في عشرات الحوارات والنقاشات السياسية على وسائل الإعلام الإسرائيلية وصلت إلى وصف استمرار الحرب على غزة بأنها بلا أفق وهي حرب عبثية وفاشلة.
الرابع: مخاوف نتنياهو المتزايدة من تهديدات الوزيرين في حكومته إيتمار بن غفير وسموتريش، بالاستقالة حال توقّفت الحرب على قطاع غزة، والإقدام على مثل هذه الخطوة معناه انهيار شعبية اليمين الإسرائيلي المتطرف بشكل عام في “إسرائيل”، وشعبية نتنياهو بشكل خاص فوق الانهيار الحاصل والذي تأثّر بشكل لافت وفق آخر استطلاعات الرأي وبثّته القناة الـ 12 الإسرائيلية.
الخامس: الضغط المحلي الواسع الذي يتعرّض له نتنياهو من عائلات الأسرى الجنود والضباط الموجودين لدى حماس، وتهديد حياتهم من جرّاء القصف الجوي الإسرائيلي المتزايد في غزة.
خيارات “إسرائيل” في الأزمات والصراعات المحتدمة باتت محدودة وهي ليست بالكبيرة، فإما استمرار الحرب وتحمّل مزيد من فاتورة الخسائر الكبيرة في صفوف “جيش” الاحتلال (جند وضباط) من دون تحقيق الأهداف سوى مزيد من القتل والتدمير، وهذا قد يؤدي إلى تطوّر وتوسّع سيناريو الحرب في المنطقة، وإما الذهاب لوقف إطلاق نار من جانب واحد، وهذا معناه الفشل الكبير في تحقيق الأهداف، لكن المفيد في هذه السيناريوهات هو حتمية المحاسبة والمحاكمة التي ستكون بانتظار قادة الاحتلال الإسرائيلي السياسيين والعسكريين على حد سواء.
أزمات نتنياهو ليست بالسهلة، وهي متعددة متشعّبة ومعقّدة بين سياسية وعسكرية، وأخرى داخلية وخارجية، يصعب حلّها، ولأجل ذلك يصرّح أنه لن يوقف الحرب على قطاع غزة، ويقول إنها بحاجة لعدة أشهر، فبين انقسامات سياسية بدت ملامحها واضحة كالشمس في وضح النهار وبين صراعات محتدمة، وفشل آخر في تحقيق أهداف الحرب وخسائر مادية ومعنوية في صفوف “جيشه” المنهزم في غزة، وأزمات خارجية تعبّر عن غضب واسع في الرأي العام العالمي، وتصاعد موجة التظاهرات ضد استمرار الحرب، وحال الرفض الواسع لاستمرار جرائم الإبادة الجماعية، يصرّ نتنياهو على استمرار الحرب وتوريط شركائه بمواجهة طويلة الأمد غير واضحة الأفق، ما زال يراهن ويبحث فيها عن تحقيق إنجاز وصورة نصر حتى الآن هو عاجز عن تحقيقها أمام تعقيدات الميدان وتفوّق سلاح الأنفاق لدى المقاومة، وأهدافه تتمثّل في ثلاثة محاور رئيسية:
الأول: مشهد إنقاذ الأسرى والجنود الموجودين لدى حركة حماس من خلال العملية البرية المستمرة في قطاع غزة، من دون المساس بحياتهم.
الثاني: مشهد إلقاء القبض على قادة المقاومة الفلسطينية من حركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية أحياء واعتقالهم ومحاكمتهم.
الثالث: مشهد رحيل قادة المقاومة وتحديداً قادة الصف الأول أمثال القادة محمد الضيف ويحيى ومحمد السنوار ومروان عيسى، إما بالاغتيال العسكري، أو بالإبعاد خارج قطاع غزة.
“إسرائيل” ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر تمرّ في مأزق استراتيجي لم يمرّ عليها في تاريخها، وباتت مدركة أن إرادة البقاء لمشروعها باتت مهدّدة، وهي من دون الدعم الأميركي هشّة وضعيفة كمجسّم من الكرتون، كما أن جوهر المأزق على الجانب الآخر أنه وبعد قرابة الثلاثة أشهر لم تنجح في القضاء على حركة حماس التي تعدّها التهديد المباشر لوجودها على الجبهة الجنوبية، فلم تنجح في تحرير أي أسير إسرائيلي بالطريقة العسكرية التي أعلنتها، كما لم تنجح في القضاء على قدرات المقاومة وانطلقت الصواريخ بعد ثمانين يوماً إلى “تل أبيب” وضواحيها، وهذا بحد ذاته يشكّل هزيمة عسكرية.
نتنياهو يواجه تحديات كبيرة في الحرب الدائرة مع المقاومة الفلسطينية وتحديداً في المعركة البرية الدائرة، وكل ما تنشره المقاومة من مشاهد يؤكد أن “جيش” الاحتلال يتكبّد خسائر فادحة بالمعدات والدبابات والجنود والضباط، وأن هزيمة حتمية منتظرة بانتظار نتنياهو و”جيشه”، وأما تسريحه لخمسة ألوية كدفعة أولى من قوات الاحتياط في “جيش” الاحتلال، كان قد جنّدهم بداية معركة طوفان الأقصى، فهو مؤشّر واضح على أن خطة “إسرائيل” بالسيطرة الكاملة على قطاع غزة وهزيمة حماس وتحرير الجنود الأسرى قد فشلت، وأن “جيش” الاحتلال الإسرائيلي بات عاجزاً عن تحقيق الأهداف العسكرية المعلنة لهذه الحرب، في وقت بات فيه نتنياهو أيضاً عاجزاً عن تقديم إجابات وصيغة واضحة طلبتها إدارة بايدن للحظة وقف الحرب على قطاع غزة.