ملِكُ الموت والحياة
يومين مضت
الشهداء صناع الحياة
16 زيارة
حُبٌّ وحياةٌ وموْت
إنَّ المرأة الفاضلة الجميلة، فقدَتْ توازنَها عَبْر العصور، عندما اسْتأْثر الرّجل بقوّة سلْطانه على عواطفها ومفاتنها، فهربتْ منه تارة إلى الحسْرة والاسْتسْلام، وطوْرًا إلى التربُّص والانتظار، وعندما نفَضَ عن عقله غُبار الجهالة، وطرَد من خياله شَبَح الأنانية، ومنَحها الحبَّ الّذي هو إكْسير الحياة، والولاء المحْضَ الّذي ينزع وحْشة أيّامها ويُبدِّد جَزَع لياليها، سعتْ إليه بكلّيّتها، باحثة في أعماقه عن مقامها الأعلى، ومقرِّها الأدْنى، الّذي أعدَّه الله لها، منذ خلق الذَّكر والأنْثى، وجعلَ المودَّة والرّحمة بينهما، الجامعةَ المثْلى والعُروةَ الوُثْقى.
تعرَّف المجاهد الفتيّ «السّيّد رضا»، على شابّة رزينة من قريته، استأثرتْ بعطْفِه ونالتْ إعْجابه، وبادلتْه الثّقة والقناعةَ والرِّضا.
خفقَ قلْباهما اليافعان بتلك الأحاسيس النّاعمة الشّبيهة بنسيْمات الفجر الأولى، تلك الأسْرار العميقة الآسرة الّتي تراودُ
الكيان لأوّل مرّة، فيغْتني بها جذِلًا، ناظرًا من ورائها إلى العالم مُسْتفسرًا باسْتئناس، مسْتطلعًا باكْتفاء، ولا يلتفتُ بعْدُ إلى الوراء، لأنَّ الحبّ هو مفتاحُ السّعادة والسّعادة هي المحجّة البيضاء.
وخطَبَ عروسته من أبيها، فرحَّب به صِهْرًا تقيًّا يحفظُ عِرْضَه ويصون ابنته، وضمَّه إلى أُسْرته كأحَد أَبنائه، وابْتسَمتِ الأَيَّام للخطيبيْن فشرَعا ينسجان من أحْلامهما أفكارًا جديدة، ومشاربَ نَضيدَة، تُطِلُّ كالضّباب من وراء حُجُبِ المستقْبل، ثمّ تتبدَّدُ بعْد أنْ تسطَع شمسُ الحاضر الرّاجف، وتنفُخَ رياحُ الأقْدار أنْفاسَها الضَّاربة في آفاق الزَّمَن.
ازْدانتْ مخيِّلةُ «السّيّد رضا» بِصُوَرِ حبيبته، وتكاثرَت زياراتهما المتبادلة المتَتالية، وراوح الحبُّ بيْن صدريْهما، متوهِّجا تتجاذبَهما قُواهُ الباطنيّة، الكامنةُ في جذور متينة، سليمَة النَّوايا، طريفة المزايا، وتآلفت روحاهُما المتوحِّدتان، فلا فرحَ هنا إلاَّ ويُقابلُه حُبور غامر هناك، ولا حزنٌ متْلفٌ داخل هذه الأحْشاء إلاّ وتُضارِعُه لهْفة لافتة عند تلك، كانا كائنيْن غريبيْن متباعدَيْن، فقرَّبتْهما بعناية، وجمعتْهما برفْق، تلك العواطفُ الفيّاضةُ الممْتعة الّتي نسمِّيها الحبّ، ذلك الشُّعاع الّذي يولدُ في الأفْئدة
ويستمرُّ فيها إلى آخر الحياة.
وذاتَ مساء، عاد المحاربُ الشّجاع إلى قريته، بعد أنْ روَّع بعبُوَاته رعاديدَ الصّهاينة، المخْتبئين كالفئران القذرة في شُقوق حُصونهم، وزوايا دُشَمهم، وهناك التقَى بوالديْه وإخْوته، استأذنَهم وهو على عَجلَة من أمْره، في الذّهاب إلى خطيبته، يسلِّم عليها، وعندما بلغتْ به قدماه باب دارها، طرقهُ ففتحتْ له، ووجهُها الصَّبيح يفيضُ بشْرًا ونضارة، قائلة: «تفضَّل يا أخي، أُدخلْ يا حبيبي».
قرَّت عيْنُ المجاهد العائد برؤية حوريّته الضّاحِكة، وانْحنى أمامَها كغصن غضّ راودته النّسائم، مقبِّلًا يديْها الفضّيَّتيْن، ماسحًا براحته جبينَها الوضّاح، فمسكتْ ساعِدَه كما يتمسَّك الغريقُ بخشبة النَّجاة، ودعَتْه إلى الاسْتراحة على الشّرفة المشْرفة على الشّاطئ، فجلسَ على سجّادة ناعمة أعدَّتْها له، ثانيًا رُكْبَتيْه، سابلًا ذراعيْه، كمَنْ يتأهّبُ للمُغادرة.
فأخذَتْها الغرابة وسألتْه والقلقُ يحرِّك شفتيْها: «ما وراءَك َيا «سيّد رضا»؟ هل أصابكَ مكْروه؟ أمْ أنّك مُتْعبٌ من وعْثاء السّفر؟ أترومُ الخلود إلى النّوم؟ أمْ أنَّ ما وراء الثّغور من
مشاغل ومفاجآت، تقْتفيكَ أيْنما توجَّهتَ، حتّى إلى فِراشك ومهْبط أحْلامك؟».
أجابها باقْتضاب غريب لمْ تألفْه من قبلُ: «أجَلْ يا حبيبتي، في هذه الأيّام الحُبْلى بما تكْره الأيّام، في هذه السّاعات البطيئة المرور، وبيْن لحظاتها الّتي أحْسبُها أعوامًا طِوالًا، تتوافدُ أصْوات رفاقي إلى مسامعي من بين الأنقاض، مشْفوعةً بأزيز الرّصاص، وجلَبة الوَغى، مستنْجدين مسْتغيثين، حِرْصًا على إنقاذ الوطن السّجين لا خوفًا من السّجَّان الظّالم».
فسألتْه والحيْرة تسْلبها متْعةَ اللِّقاء: «كيف تستطيع سَماع الأصْداء النّائية، وهلْ بلغتْ بك الشّهامة والحميّة اتّهام نفْسك البريئة، وتأنيبَ ضميركَ المطْمئنّ؟». أجابها بصوت واثق كأنّه نغْمة نايٍ شجيَّة: «لقد حَمِيَ وطيسُ المعركة في هذه اللّيالي، بين جُنْد الرَّحمان وعَبَدةِ الشَّيطان، وأزْهَقْنا منهم الكثير، وأنزلْنا الرُّعب في قلوبهم، والهزيمة في صفوفهم، فتركوا أشْلاءَهم الممزَّقة طعامًا للجوارح، وقد لاحظْنا وصولَ مزيد من الذّخائر والعتاد، من قيادتهم لملْأ الفراغ، ورأْبِ الصَّدع في خلاياهم المحطَّمة، ثمَّ غادرتُ الجبهة اليوم، والقصْف المتَبادلُ يُشْعل الشَّجرَ والحجَر، ودُخان الحرائق
المضطرمة، يحجب نور الشّمس عن المتحاربين؛ ففي الوقت الّذي أنتشي فرحًا بكفَّتنا الرّاجحة، وفلولِهم الهاربة، أكادُ أسْقطُ أسيرَ القَلقَ، لِتألُّبهم علينا، وتكالُبهم وانتشارهم بين تلك المنْحدرات كالذّئاب الجائعة، يرومون افْتراس المقاومين الشّرفاء، وتمزيقَهم إِرْبًا إِرْبًا، انْتقامًا لِما فقدوه من أراوح وآليّات».
وسألتْه غيرَ مقْتنعة بصحّة افْتراضه وشدّة اضْطرابه: «أَلا يوجد شبابٌ مخْلصون من أمثالك، يؤدّون دوْرهم في الذَّوْد عن كرامة الجنوب المنْتهكة؟
إنّ محافظات لبنان الخمسة تزْدان بشبابها الأقْوياء، ورجالها الكُرماء، فلماذا يتلبَّس خطابَك الخوْف، ولا يفارق ذهْنك الحذَرُ، على إخْوتك ورفاقك الكادحين، من صلافة العدوّ وبطْشه؟».
فردّ عليها، والحكْمة تنْبُع من شفتيْه: «إنّ رهطًا حاشدًا من اللّبنانيين، لا يضعُه الصَّهاينة في خانة المعارضين لاحتلالهم، بلْ يفترضونه من الموالين والمؤازرين، ويتلقّوْن منه المناصرة والمعاضَدة.
إنّهم نوْع غريبٌ من البشر، الّذين لا يُراعون حقوق وطن،
أوْ وصايا دِين، أوْ أواصِرَ قوميّة، وعندما يدقّ الواجب المقدّسُ ناقوسَ الخطَر، وتفتحُ الحرْبُ أبوابَها، وينادي الفُرقاء أشْياعَهم، يُشيحون بأبصارهم عن المشاهد الدَّمويّة، ويسدّون آذانَهم بكُتَل حديديّة، وأنوفَهم بِقِطَع قطنيّة، حتّى لا يؤْذي عواطفهم النّجيعُ المتجمّد، ولا ينغِّصُ عيْشَهم أنينُ الجرْحى، ولا تُفْسدُ موائدَهم روائحُ الجُثَث المنْتِنة.
إنّ عبيدَ الرَّفاه والمال، لا قِيَم لهم… ولا أمَلَ منهم، فهمْ أجْسام هَشَّة وأرواح مريضة، تلوثتْ بأوحالِ المدنيَّةِ، وكلِفتْ بها، حتّى الخَبال، وهي تركُض على الرّغم منها، وكآلهتها العمياء، خلْفَ العناء والشَّقاء».
فقاطعتْه خطيبتُه، والواقع الأليم يحزُّ في نفْسها:
«ولكنَّكَ يا سيِّدي، انتسبْتَ إلى المقاومة بالرّوح قبل الجسَد، وحملْتَ أعْباءها الثِّقال، طَوال سَنوات مشحونة بالمتاعب، مسْبوقة بالتّعبئة، مشفوعةٍ بالابتلاء، أَفَلا يحقُّ لمحارب قدير قمينٍ من طِرازك، أنْ يُضمِّد جراحَه المشهودة، ويسترْجع أنْفاسَه المفْقودة، ويستعيدَ توازنَه المطلوب، ثُمَّ يرْجع إلى ميْدان العِراك العتيد، برغْبة أشدّ وهِمَّة أقْوى، وعِنادٍ أرْوع؟».
لمْ يَسْتَسِغْ المقاومُ الجَلُود مَرامَ خطيبته ومبرِّراتها الواهية، فانْتصب على ساقيْه، جائلًا طَرْفه في أفُق الجنوب الممتلئ بالصُّداع والصُّراخِ والحسراتِ، وبَدا بهامته المرفوعة، ووقاره المهيب، كعمود من النّور، ماثل بيْن الأرض واللّانهاية، فأجابها وصوته الجهْوري يتماوجُ ثقةً بالنّفْس وحنوًّا عليْها:
«لم أشِخْ يا حبيبتي بعْدُ فأتقاعد كالعجائز، أو أُلازِمَ الفِراش والنَّقاهة كالمعتلِّين، ولم يهدّ النَّصَبُ عزيمتي فاسْتسلم للكسل المميت والفَراغ المـَقيت، إنَّ الجهادَ بابٌ من أبواب الجنّة، والجنوب باب الجهاد والجنان، المفتوح على مصراعيْه؛ إنّ الجنوب الرَّازح تحت أوْجاعه، والمثخَنَ المكبَّل، العالق بين فكَّيْ الإهْمال السياسيّ، ومخالب الافْتراس الصُّهيونيّ، والمبتلى بمباضع العنْصريّة الطّائفيّة المسوِّسة، يصْرخ متظلّمًا ولا من يسمع، ويتقلَّب مريضًا ولا من معالج، وينادي واعظًا ولا من مجيب، ويدافع مستميتًا عن المحاسن الطّبيعيّة والكمالات الروحيّة، ولا من مناصر، فماذا تنصحينني أنْ أفْعَل يا أمَةَ الله؟
هل أُديرُ له ظهْري، وأقدِّم عذري في لياليه المظلمة، الّتي لا تعْبأُ بالأقوال، ولا تقبل الأعْذار؟
أمْ أتلَهّى عنه بَبَهرجَة المرئيّات ومفاتن المخلوقات، والحياة الّتي لا تكترثُ بالمرْضى والضّعفاء، لم تعُدْ تحسبُه من أبنْائها.
أمْ أنْزحُ إلى بلادٍ نائية، لاهثًا وراء المباهج والمنافع؟ والهجرةُ إلى سفوحِ «سُجد» و«عرمتى»، هو أهمّ الأسْفار وأمتعها، والنّزوح إلى جبل «بو ركاب»، هو أجْمل أُمنيّات الشّباب المؤمن الحيّ وأنبلُ مَطالبه.
لقد تعبَ جَسَدي من حمْل روحي المثقلة بأثمارها، إنّ في أعماقي توْقًا غامرًا إلى تضحية مجرَّدة من العناصر الفاسدة، تبقى محفوظة كالكنوز، ناصعة كالثّلوج في ذاكرة الزّمن.
أريد أن أدورَ حول نفسي وفوْق الجنوب أربعًا وعشرين مرّة في اليوم مشْرقًا عليه بكلّ ما في خلجاتي من الوَلعِ والانعطافِ والإيثار.
أُحبُّ أنْ أُبارِك مساعيَ المجاهدين وأواسيهم بما ينْبجس في خَلَدِي، من نُسيْمات العِشْق الإلهيّ المتيّم بفوّهات بنادقهم، وآثار أقْدامهم.
أتمنّى أنْ أنالَ الشّهادة بكلّ ما فيها من حلاوة وآلام، أَوَدُّ أنْ أعانق جذْعَ زيتونةٍ مقطوعةٍ، مُضَرَّجًا، صاعدًا إلى الله، مع حفْنة
من تراب الجنوب، وورقة من تَبْغه، وثمرة من برتقاله».
بعدما عاينَت الخطيبةُ العاشقة شلاَّل الغضب ينْحدر من فم «السّيّد رضا» وشَررَ الثّار يتطاير من ناظِرَيْه، أدْركتْ بحِدَّة فَراستها، أنّ الأسَدَ الهصُور الّذي تمثُلُ حائرة أمام سطْوته وسوْرته، لم يُخلَقْ ليعيش طويلًا، ولم يطلبِ الشّهادة ليكْتفي بالرِّيادة، فقالتْ وعواطفُ الأنوثة تنْسكب حبّاتٍ بلّورِيَّة من عينيْها الوالِهتيْن:
«طوبى لكَ يا عمادَ أفْراحي وأحزاني، بلْ يا عمادَ تلك الأمَّة الباحثة عن غَدها في مجاهل الغرْب، النّاسية ماضيها المجيد وحاضرَها الشّريد، بين معارف الشّرْق ومعاركه.
أنا أفهمك جيّدًا، وأستنطقُ حماستك وأمانتك، كما أتصوّر مناعة صَحْبك وصِدْقهم، البادِرة النّادرة، واليد المنقِذة لهذه الأمّة البائسة اليائسة.
ولكنَّني يا حبيبي امرأة تسْتميلُها زهرةٌ خضيلة، وتسْتبيها ابتسامة أسيلة، لا أستطيع أنْ أتجاهل حناني الفيَّاض عليك، ونفْسي الجامحة إليك، ولا أقْوى على دفْن براعم مودّتي النّديَّة في لواعجي الملْتهبة، أنا قفيرٌ مليء بالشَّهْد البرِّيّ،
بلْ أنا وردة تسكَرُ بملامَسَة الأنْسام ومناجاة الأنْوار، فهلاَّ عرَفْتَني وأترعْتَ فراغي بفطْنتك وغِبْطتك، وعزيّتَ فتوَّتي بنضارتك ومَلاحَتِكَ؟».
طفَت على حَدَقتَي الخطيب الحسّاس، حروفٌ وأسمْاء عويصة مُبهمة، لا تُحسن قراءتها إلّا النّفوسُ الكبيرة، والضّلوع الموتورة، فتقدّم منها ولزَّها إليه، وتأوَّدتْ جوارحُه اضْطرابًا معها، واحتفاظًا بها، وأحاطَ مَنْكبيْها بذراعه المفْتول كحبال المنجنيق، وهمَس في أذنها همْس الفراشة للأغصان:
«أحبُّكِ كثيرًا أيّتها الحمامةُ الوادعة وفوْق الكثير.
قد وقفْتُ شِغاف قلبي سكَنًا لمسرّاتكِ وآهاتكِ.
بيْد أنَّ أعماقي الّتي تلِدُ الأشْياء، ولَدتْ لذَّة أُخرى.
لذَّةً ملكَتْني قبلَ ولادتي، وتُزْمِعُ الآنَ هَلاكي وإبِادتي.
إنَّ صوتَها أجملُ الأصْوات فهي تُثيرني دائمًا كعاصفة صاخبة.
حبَّذا لو تعرفين مكانَتها الرّفيعة عنْدي.
أو تتعقَّبينَ آثارها المحفورة على رمال الشّواطئ، المنحوتة في كُثْبان الصَّحارى.
وفي اليوم الّذي بعثتْ لي مَلَك الموت، أمطرتْني بالأعباء الثِّقال.
لقد حمَّلتْني ألفَ وصيَّةٍ غير قابلة للتأْجيل.
آه، لو تقرئين رسالتَها الّتي كتَبتْها لي بِمِداد من دماء!
إنَّها حبيبتي الأُولى الّتي لا مفَر َّمن الزّواج منها.
كيف تُسامرين رجلًا تعلَّق فؤادُه بامرأة أخرى؟
أحببتكِ بإرادتي كلّها وكَلِفْتُ بِها بلا وازعٍ ولا لِقاء.
إنَّ عشيقتي الأميرة تَغار منكِ على بُنْدُقيَّتي ورَصاصتي.
وهي تُجمِّل إليَّ وجْهَ الموت القبيح، بقدْر ما تحبِّبين إليَّ مفاتنَ الحياة.
شتَّانِ بين عروس هامتْ بي لِذاتها وأخْرى تولَّهْت بي لله.
الأُولى تعلِّق صورتي على جدار غرفتها، وتحفر اسْمي على عِقْدِها الذَّهبيّ.
أمَّا الثّانية فتقدّمني قرْبانًا شهيًّا على مذْبح الحرّيّة.
الوَداعَ! الوَداعَ! أيّتها الغيْمةُ العابرة، أيّها الشّعاع الجميل
المهدَّد بالظّلام والضَّياع.
أريد أن أُسافرَ إلى عرَاقة الأرْض وصَلاَبة الأحْجار.
أَراني مصْطحبًا إلى أرائك الرَّغَد والحبور، غبارَ الخنادق، وأَوارَ البنادِق.
ها قدْ فتَح الجنوبُ أبْوابَه، وحمَلتْ أمْواجُه الرَّاحلين إلى الجزائر البعيدة.
وعلى أديمِه المشبَعِ بالقصائدِ والزَّغاريدِ، سأبني مجدي الكبير في حُفرَةٍ صغيرةٍ.
إنَّ عرْشي الصّغير لا يتَّسع لِجناحيَّ الطّليقيْن.
إنَّه يضيق حتَّى بأنفاسي المقطوعة وأطْرافي الهامدة.
بيْد أنّه يستطيع الاحتفاظ ببَركة التُّراب وعَبقِ النَّجيع.
وفي أثناء نومي الأبديّ ويقَظتي الدّائمة.
وحين تلجأُ الدّهور إلى السّكينة.
وحيث أفسِّر أحلامي المبْهمة، على ضفَّة بِركة من دمائي.
بلْ بعدما تقْهر نعْشي رُفاتي، ويتمرَّد كفَني على رِثائي.
هنالك، في رحِم الأرْض الصَّامت.
بعْدما أولدُ من جديد، ويضُمُّني الخلودُ إلى صدْره، سوف أفرح مع الفَرِحين وأسْتبشِرُ مع المستبشِرين، وأفوزُ معَ الفائِزين.
والآن، الآن، وبهمَّة تتمرَّدُ على القُصُورِ وتذمُّ الضّغينة.
وأنا على الضفّة الأولى لحياتي الثّانية.
أَوَدُّ أنْ أتزَّوج الشَّهادة.
خِلال نهارٍ جنوبيٍّ مُضيء.
مع وثبة علَويّة راهبة.
وبجسارة حسيْنيَّة فائقة.
وفي ليلة مباركة من ليالي القدْر.
من أجْل أنْ يُزْهِرَ نيْسان.
ويفْرحَ الإنْسان».

2025-06-01