الرئيسية / من / طرائف الحكم / نشأة التكلم والحاجة إليه

نشأة التكلم والحاجة إليه

إن مما أفاضه الله على الإنسان ، وخصه به دون سائر الكائنات ، هو أن خلقه الله في احسن تقويم ، وأودعه القابلية والاستعداد للتكامل … وقـد هداه السبيل ، وأمده بالعقل ، وجهزه بفطرة وغرائز تعينه على تكامله هذا ..
وقد دعته الحاجة ، وحثته الغريزة إلى تكوينه مع أبناء جنسه ، مجتمعا تعاونيا يخدم فيه بعضهم بعضا ، ويسد بعضهم حاجة بعض ..
ولاحتياجه إلى هذا الاجتماع ، احتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع … ومن أبرزها حاجته إلى التكلم ..
ولسد هذه الحاجة ، ألجأته الفطرة إلى أن يسلك طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم ، إلى الدلالة على ما في الضمير ، ويجعل هذه الأصوات المؤلفة من الحروف ، علامات تدل على المعاني المكنونة في الضمير، والتي لا طريق لها إلا من جهة العلامات والألفاظ ..
ومن هنا يتضح أن حاجة الإنسان للكلام ، إنما تتم وهو في ظرف الاجتماع والمدنية ولو كانت عيشته عيشة انفرادية لما كان هناك تكلم ..
كما يتضح أيضا أن الكلام وسيلة اجتماعية للاهتداء إلى ما في ضمير الآخرين من المعاني المكنونة ، وذلك لأن الحس لا يمكنه أن يصل لها ، ولو كنا ممدين بحاسة تنال المعاني الذهنية ، كما يهتدي اللمس والحس إلى الخشونة والنعومة ، وكما يهتدي البصر إلى الأضواء ، لما احتجنا إلى وضع اللغات والتكلم ، ولهذه الحاجة وتلك ؛ فطره الله على النطق وعلمه البيان …..

نعمة البيان :

لا يخفى أن الكلام يكشف عما في نفس الإنسان وضميره ، وهو من اعجب النعم . وتعليمه الإنسان من عظيم العناية الإلهية به ، وعلى الرغم من كثرة استخدام الإنسان له فإنه قلما يتوقف المرء للتأمل في أسرار عظمة الكلام ، فليس الكلام مجرد إيجاد صوت باستخدام الرئة والحنجرة فحسب ، وليس هو ما يحصل من التنوع في الصوت باعتماده على مخارج الحروف المختلفة في الفم ، بل هو تكوين الإنسان من هذه الأصوات حروفا وألفاظاً تشير إلى مفهوم من المفاهيم التي تغيب عن حس السامع وإدراكه ، فيقدر به على إحضار أي مفهوم لأي شيء ، وان جل ما جل ، ودق ما دق ، من موجود أو معدوم ، ماض أو مستقبل ، ثم على إحضار المعاني غير المحسوسة ، والتي لا سبيل للحس إليها ، وإنما يدركها بفكره ..
فلولا الكلام لكان الإنسان والحيوان سواء في جمود الحياة وركودها ، ولولا هذا الكلام لم تقم المجتمعات المدنية ، ولم يتقدم الإنسان هذا التقدم الباهر .. فقد جاء عن أمير المؤمنين (ع) 🙁 ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة ) .
وبالجملة : فان الكلام والبيان من اعظم النعم الإلهية على الإنسان ، وبه يحفظ للنوع الإنساني ما به قوام وجوده ، ويهديه إلى كل خير .

شكر النعم:

إن المتأمل بالكلام يتبين له أن الكلام والبيان ليس كمالاً فحسب ، بل هو منشأ للكمالات الكثيرة .. فبه تنشر المعارف والحقائق الدينية ، وبه تبسط المعالم وآداب الشريعة ، وبدونه تنسد أبواب من المعارف ، والله تعالى متصف بالمتكلم ، ومن أوصافه الجميلة( المتكلم )، وقد مدح الله الكلام في القرآن الكريم مدحا لائقاً في سورة الرحمن حيث قال :{ الرحمن علم القران خلق الإنسان علمه البيان } فجعل تعليم البيان في هذه الآية ، مقدماً على جميع النعم ، في مقام الامتنان على النوع الإنساني .
فهو من أعظم ما أفاض الله تبارك وتعالى به على الإنسان، وإن وجوب شكر النعم هو مما يحكم به العقل ، وتدعو إليه الفطرة والذوق السليم ، وإن أقل ما يقال في شكر هذه النعمة ، أن تستخدم فيما خلقت لأجله ، وأن لا يعصى الله فيها ، وان من كفر النعم استخدامها في غير ذلك .
ولا يخفى أن شكرها متوقف على معرفة أحوال النفس الناطقة ، واللسان والكلام ، وموارده ومصادره وآفاته ، والتي نحتاج لاجتنابها إلى إرادة وعزم وتوفيق .. إذ أن اللسان خفيف الحركة ، ولا يحتاج إلى جهد في تحريكه ، وميدانه رحب واسع إذ انه ما من موجود أو معدوم ، خالق أو مخلوق ، متخيل أو معلوم ، إلا واللسان يتناوله سلبا وإيجابا ، ويتعرض له بنفي أو إثبات ، بحق أو باطل …أضف إلى ذلك أن شهوة النفوس إلى الكلام كثيرة ، وأن الطبع ميال إلى إطلاق اللسان . ويبين ذلك تعبير الإمام السجاد بـ( حب الكلام ) وأن حب الكلام ناتج من الكبر والحرص والحسد .. ويؤيده تعبير الرواية بأن(النطق راحة الروح ) .. وكما هو معلوم أن النفس تميل إلى كل ما يريحها ، وإن كان فيه ضررها ، كما هو في كثرة الكلام .
فكل ذلك جعل إمساك اللسان والتحرز عن آفاته من اصعب الأمور، ولهذا كثرت الإرشادات من الأنبياء والحكماء ، بل وشددت في المنع من إطلاقه ليقتصر الأمر على الحد اللائق ، ويتقيد اللسان عن الكلام إلا بحقه …فإذا فعل المرء ذلك فهذا هو اقل الشكر.
ولقد نبه القرآن الكريم والأحاديث الشريفة إلى أن شكر النعم يفضي إلى مزيد منها ودوام فيها :{ لإن شكرتم لأزيدنكم } و( بالشكر تدوم النعم ) فإذا كان كذلك ؛ فلعل شكر هذه النعمة في دار الدنيا – باستخدامها فيما خلقت له وكفها عن آفاتها – يوفق الإنسان إلى التكلم يوم { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا }، وقول الصواب هناك مترشح من قول الصواب هنا وأمور أخرى ، إذ أن ملكات الإنسان في الدنيا تمتد إلى يوم القيامة وسيأتيك تفصيله إنشاء الله .

إكليل الصمت:

إن لمراعاة جوانب الاستواء في سمات الشخصية الحظ الأوفر في تكامل الفرد ، فزيادة الكلام من غير حاجة ، تدل على وجود خلل في الشخصية ، ونقص فيها ، وتعد هذه الممارسة حينئذ تعبيراً شاذاً عن أحاسيس الشخصية ، كما لو أرادت أن تلفت نظر الآخرين إليها وما إلى ذلك .
ولعل ما يدفع الكثير إلى كثرة الكلام وإلقائه دون أي تفكر أو تحفظ ـ بالإضافة إلى ما مر من خلل في نفسية الفرد ، و سهولة الكلام وغير ذلك ـ هو الغفلة عن أهمية مسألة الصمت ، والكلام في مدارج الكمال ، وان الكلام ليس حروفا فحسب ؛ بل انه قلب وعقل وإرادة ، وان المرء مخبوء تحت لسانه فمتى تكلم عرف ، وأن دليل عقل الرجل قوله( وأن كلام الرجل ميزان عقله ) .
وانه لا يستقيم قلب عبد حتى يستقيم لسانه ، وان الكلام من العمل بل أن الكلام والصمت في محلهما هم العمل ، وبالكلام ابيضت الوجوه وبالكلام اسودت الوجوه ، وإنما سبب هلاك الخلق ونجاتهم الكلام والصمت ، فطوبى لمن رزق معرفة عيب الكلام وصوابه ، وعلم الصمت وفوائده ، فإن ذلك من أخلاق الانبياء وشعار الاصفياء ، ومن علم قدر الكلام احسن صحبة الصمت ، ومن أشرف على ما في لطائف الصمت وائتمنه على خزائنه ، كان كلامه وصمته كله عبادة ، ولا يطلع على عبادته إلا الملك الجبار .
إلى غير ذلك مما ورد في الروايات الشريفة .
وكلما أمعن الإنسان وتأمل في بواعث الكلام وآثاره، تجلى له الصمت كضرورة حتمية لدينه ودنياه ، ، وأدرك بأن الصمت أول العبادة ، وانه لم يعبد الله بشيء مثل الصمت والمشي إلى بيته ، وانكشف له أن كلامه من عمله ، وان كماله بصمته وكلامه ..
وباتضاح هذه الأهمية لهما – أي الصمت والكلام – تنكشف الحاجة إلى معرفة الكثير عن الكلام والصمت والميزان بينهما ومتى يرجح الكلام ؟ .. ومتى يجب ؟ .. ومتى يحبذ الصمت ؟ .. ومتى يجب ؟.. ومتى يحرم ؟ .. وما هو الفيصل بين الصمت والكبت ؟ .. وما السبيل للتمكن منه ؟ .. وهل المطلوب حبس اللسان عن الكلام ؟ أم حبس الجنان عن الآثام والثرثرة الباطنية ؟
فكثير من يرغب في الصمت – إما لآية أو رواية أو حكمة ، أو ندم من موقف ، فعزم على الصمت، أو غير ذلك – غير أن القليل من يوفق للوصول إلى هذه الغاية ، وما ذلك إلا لعدم الإلمام بما يخص( الصمت والكلام ).
فعلى الراغب في الكمال أن يعلم أن الكمال كل الكمال في ما أثرى به أهل البيت (ع) حقول المعرفة الإنسانية ، وتجاربها بأروع وأدق ما يقال ويعمل في (الصمت والكلام ) من الحكم الهادية إلى صراط الله المستقيم .

Overall rating

 

شاهد أيضاً

سقوط مرتزقة الإعلام في معسكر العمى الإستراتيجي

سقوط مرتزقة الإعلام في معسكر العمى الإستراتيجي بين نمط د. هشام الهاشمي للقصف الإيراني لقاعدة ...