الدرس السادس: كيف يعين الولي؟ (1)
تمهيد:محل هذا السؤال ما لو تعدد الفقهاء الكفوؤن، لأنه لو لم يكن لدينا غير فقيه واحد توفرت فيه الشرائط المعتبرة ينتفي السؤال.
وهنا نستحضر صورتين يمكن استخلاصهما مما تقدم:
الصورة الأولى: أن نكون من القائلين بضرورة أن يكون الولي هو الأفضل من الجميع من حيث مجموع الصفات، مع الترجيح بالصفات الأهم عندما يكون أحدهم أفضل في صفة، والآخر أفضل في صفة أخرى.
والجواب في هذه الصورة واضح، وهو أن الولاية لخصوص الأفضل من بين الموجودين أو المتصدين لا لجميع الفقهاء، وعادة يكون الأفضل شخصاً واحداً. وهذا الواحد يكون هو الولي الواقعي سواء عرفناه أم لم نعرفه، غايته أن علينا العمل على معرفته، ويكون دور الناس البحث عنه وبذل أكبر جهد ممكن للوصول إليه.
الصورة الثانية: أن نكون من القائلين بعدم اشتراط ذلك، أو نكون من القائلين بالشرط المذكور لكن صادف أن مجموعة من الفقهاء متساوون في الصفات والشروط المعتبرة في الولي، بحيث لم يكن أحدهم أفضل من غيره،
أو كان لكن لم يكن بالإمكان معرفته لتقاربهم من حيث الصفات أو لأي سبب آخر.
وفي هذه الصورة افتراضان:
الإفتراض الأول: أن نفترض إجتماع هذه المجموعة وإتفاقها أو إمكانية الإتفاق فيما بينهم على طريقة واحدة في إدارة شؤون الأمة وقيادتها، وفي هذه الحال لا يترتب على تعدد الفقهاء أي مشكلة، وليس هناك مانع شرعي أو عقلي من ان يتولى الحكم مجلس فقهاء عدول كفوئين جامعين للشرائط، وهذا الحل وإن كان يشكل أفضل الحلول، لكن الشأن في إمكانية تحقيقه مما يجعله أمراً غير واقعي رغم أفضليته.
الإفتراض الثاني: أن نفترض الإختلاف فيما بينهم كما هو المتوقع.
وفي هذا الفرض يفرض السؤال المتقدم نفسه، فهل كل فقيه يكون ولياً أم لا بد من اختيار واحد؟ وعلى التقدير الثاني فما هي المرجحات التي يجب ملاحظتها في تمييزه عن غيره ليكون هو الولي دون غيره، وهل يمكن ان يكون رأي الناس واختيارهم من المرجحات؟.
ومن البديهي أنه لا يمكن القبول بكون جميع الفقهاء ولاة فعليين للأمة بأن يكون كل منهم ولياً مستقلاً عن الآخر لما يترتب عليه من لوازم فاسدة من ضياع الأمة واختلال النظام والهرج والمرج، ولذا سنكون مضطرين جميعاً بمن فينا هؤلاء الفقهاء إلى إيجاد حل تتركز على أساسه الولاية والخروج من حالة التعدد إلى حالة يحصل فيها التوحد والنظم بما تستقيم معه الأمور وتتحقق الأهداف.
ولن تحل المشكلة إلا من خلال سبيل عقلائي وشرعي يمكن من خلال سلوكه التوصل إلى حل يتناسب مع المبادئ والأهداف، وهنا قد تطرح نظريات متعددة في سبيل حل هذه المشكلة نستعرضها في هذا الدرس وما يتلوه.
نظرية التصدي
إن أول ما يتبادر إلى الأذهان عادة عند طرح السؤال السابق، هو أن الحل يرتكز على أن تكون الأولوية في الولاية والحكم لمن يسبق غيره في التصدي للحكم، فلا يجوز لغيره مزاحمته في هذا الدور.
مناقشة النظرية
ولكننا بعد التأمل في هذه النظرية وفي الأدلة الشرعية، لم نجد ما يصلح أن يكون دليلاً على هذا القول، وكل الذي نعرفه أن النصوص دلت على أن مقام الولاية والحكومة مختص بالفقهاء العدول الكفوئين، أما أن التصدي يكفي لصيرورته ولي أمر بالفعل بحيث يكون تصديه مانعاً من تصدي الآخرين، فهذا ما لم تدل عليه الأدلة، لأن النصوص إن أعطت ولاية فعلية للفقهاء كلهم، فهذا يعني أن الجميع ولاة فعليين، وهذا باطل بالوجدان العقلائي وبحكم العقل الفطري السليم على ما تقدم، ووضوح هذا البطلان يشكل قرينة حالية متصلة على أن النصوص ليست في مقام بيان الوالي بالفعل، وأنها فقط في مقام بيان شأنية الولاية، وأن الوالي هو من العلماء ورواة الحديث والفقهاء، أما أي فقيه هو الولي بالفعل، فلا بد من ملاحظة أمور أخرى لذلك ولو بالإستعانة بالروايات أو المرتكزات الشرعية أو العقلائية الممضاة من قبل المعصومين عليهم السلام.
متى ينفع التصدي
نعم، إن تصدى الفقيه وسلم له الآخرون بقيادته، وتوفرت فيه الشروط، ولم يتصد غيره لهذا العمل، فإن هذا الفقيه يكون هو الولي الفعلي، لكن فعلية ولايته لم تنشأ من محض التصدي بل من مجموعة العوامل المذكورة.
وعلى هذا الأساس انطلق الإمام الخميني رحمهم الله. فقد رأى أن أحداً لم يتصد لهذا الهدف المهم، فشعر بالوجوب العيني يحيط به، وكان مستعداً للتنازل عن هذا التصدي لو تصدى من يراه أكفأ منه، لكن لم يتصد غيره، بل لم يوجد الأكفأ منه كما أثبتت الأيام ذلك، ولست أدري إن كان سيوجد.
متى لا ينفع التصدي ولماذا؟:
لكن القاعدة تقول أن التصدي لوحده لا يكفي، فربما يتصدى من لا أهلية له تحقيقاً لمطامع شخصية، مما يفتح مجتمعنا أمام نزاعات جانبية لا يرضى عنها الله تعالى ورسوله وإمامنا الغائب عجل الله فرجه الشريف.
كما أن التصدي من قبيل فرض الذات على الأمة وكفاية التصدي لوحده ترتكز على أن يحرز الشخص بنفسه كفاءة نفسه فيتصدى، علماً أنه لم يكن إخبار الشخص عن نفسه وتزكيته لها يوماً، وسيلة شرعية للإعتماد عليه والتسليم له.
فلا بد من إضافة قيد أو قيود على التصدي، ليكون مؤثراً، وهو جملة الشروط المتقدمة في الوالي، وأن تحرز الأمة توفر الصفات فيه، ولولا ذلك لم يكن هناك سبيل لنلزم الناس بطاعة من تصدى، حتى وإن كان في الواقع أكفأ من غيره ما داموا لا يعرفونه.
رأي للسيد القائد المعظم آية الله العظمى السيد الخامنائي:
وقد أشار السيد القائد دام ظله إلى أن مجرد التصدي لا يكفي، وذلك عندما أجاب عن بعض الأسئلة بقوله:
“يجب على كل مكلف وإن كان فقيهاً أن يطيع الأوامر الحكومتية لولي أمر المسلمين، ولا يجوز لأحد أن يخالف من يتصدى لأمور الولاية بدعوى كونه أجدر، هذا إذا كان المتصدي لأمر الولاية فعلاً قد أخذ بأزمّتها من الطريق القانوني المعهود لذلك، وأما في غير هذه الصورة فالأمر يختلف”.
ومراده من الطريق القانوني المعهود، طريق انتخابه من مجلس الخبراء.
الدرس السابع: كيف يعين الولي؟ (2)
نظرية الإنتخاب
ذكرنا فيما سبق أن لدينا اتجاهين حول اشتراط أن يكون الولي الأفضل، وسيؤثر هذان الإتجاهان على وجهة الإنتخاب.
فعلى التقدير الأول يكون الولي مشخصاً في الواقع، وتكون وجهة الإنتخاب البحث عنه ومعرفته، الأمر الذي سيفرض آلية خاصة بالإنتخاب تسمح باستكشاف هذا الأفضل وتسد الباب عن انتخاب غيره.
وعلى التقدير الثاني لا يكون هناك تعين في الواقع لمن هو الولي الفعلي، بل يكون جميع الفقهاء الذين تتوفر فيه الشروط متساوين في هذا الحق، وتكون وجهة الإنتخاب اختيار أحدهم بعد أن لم يمكن أن يكونوا بأجمعهم ولاة فعليين كما بينا سابقا، وإن كان المستحسن هو اختيار الأفضل.
والإنتخاب على التقدير الأول لا دخل له لا في شأنية الولي للولاية ولا في فعلية ولايته، لأن كل هذا قد تحدد في الواقع للأفضل، والإنتخاب مجرد اعلان عن معرفته، ومعنى ذلك أننا لو كنا مخطئين في التشخيص يكون من اخترناه ليس الولي الواقعي، غاية الأمر أننا نكون معذورين في خطئنا إن لم يكن لدينا أي تهاون في البحث عنه، لذا يكون البحث عن الأفضل، واختياره وانتخابه واجباً وليس أمراً اختيارياً.
وعلى التقدير الثاني فلا دخل للإنتخاب أيضاً في أهلية ولاية من اخترنا، لأن أهليته سابقة على الإنتخاب ثابتة بالنصوص أو غيرها من الأدلة المتقدمة، لكن سيكون له دخل في فعلية ولاية الولي وحسم التعدد لصالح الوحدة وترجيح المنتخب على غيره.
والكلام هو نفسه في دور الإنتخاب لو كنا من القائلين باشتراط الأفضل لكن تساوى مجموعة من الفقهاء في الفضل أو لم نعرف من هو الأفضل من بينهم.
وتأتي نظرية الإنتخاب على التقدير الثاني كحل عقلائي معقول بدون أن يتنافى مع المسلمات الشرعية بعد أن تبين معنا أن التصدي بمجرده لا يكفي.
شرعية الإنتخاب
وعلى كل حال فقد عرفنا من خلال البحوث المتقدمة الشروط المعتبرة في الشخص حتى يصير ولياً للأمر في الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة، وهذه الشروط لا بد أن يطلع عليها الناس وأن يحرزوا توفرها في الشخص المفترض أنه سيكون الولي حتى يكونوا ملزمين شرعا باختياره.
وليس هذا الحكم حكماً فردياً حتى يقاس الأمر على كل فرد على حدة فيفرد نفسه بولي خاص به، بل هو حكم للمجتمع الإسلامي المطالب كمجتمع بالتشخيص، وحيث أنه لم يذكر لنا في الروايات كيف يكون تشخيص المجتمع، فمعنى ذلك اللجوء إلى الطريقة العقلائية.
التشخيص بين المرجعية والولاية
والمأنوس في أذهان اتباع الشريعة من طرق التشخيص ما هو المتداول في تحديد المرجعية، ولذا ربما يظن البعض أنه يمكن اعتماد هذه الطرق نفسها في تحديد الولي.
لكن لو دققنا بعض الشيء سنجد أن هذه الطرق ستقودنا إلى الإنتخاب.
طرق التشخيص ثلاثة
ونحن نعرف طرق التشخيص المتبعة في المرجعية، وقد ذكرت في الكتب الفقهية، وهي الطرق الثلاثة المعروفة: من شهادة أهل الخبرة، والشياع المفيد للعلم، والمعرفة الشخصية بالشخص المتصدي للمرجعية، وهذه الطرق الثلاثة لا يمكن تبنيها كلها في باب الولاية.
الطريق الاول: البينة المؤلفة من قول شاهدين من أهل الخبرة.
وهذا الطريق لا يمكن اعتماده هنا لسببين:
الأول: لأن البينة ذات بعد فردي لا إجتماعي، فلا تشكل أساساً لمعرفة اجتماعية، إذ الذي يطلع عليها هو الفرد وهذا لا يفيد بالنسبة للأمة، وعلينا البحث عن سبيل معرفة يحقق معرفة جماعية لا فردية.
الثاني: لأنه سيفسح المجال لأن يكون جميع الفقهاء ولاة فعليين، إذ ما من فقيه متصد أو يريد التصدي إلا وسيجد من يشهد له بأهليته لذلك، بل ربما يأتي أناس يدعون أنهم أهل خبرة كما يحصل أحياناً في مجال التقليد، فتضيع الأمور على الناس وتتشابك وربما نتنازع فيما بيننا، وفي هذا تضييع لهدف تشكيل الحكومة الإسلامية.
الطريق الثاني: المعرفة الشخصية.
وهذا الطريق ينفع صاحب المعرفة فقط دون غيره، ويستحيل عادة أن يملك جميع أفراد الأمة الخبرة الشخصية الكافية لمعرفة أهلية الشخص للولاية، نعم يمكن أن يكون صاحب المعرفة من أهل الخبرة إن كان قادراً على المقارنة بين الفقهاء.
الطريق الثالث: الشياع المفيد للعلم أو الإطمئنان.
وهو الطريق الوحيد المتبقي الذي يمكن اعتماده هنا، وهو أن يكون هناك شياع يفيد العلم أو الإطمئنان1، فإن أمكن تحصيله فبه، وإلا فلا سبيل للحل إلا باختيار الطرق العقلائية من اعتماد الأكثرية.
1- الإطمئنان يدخل تحت عنوان الظن، فقد يشتد الظن ويقوى إلى أن يبلغ مرحلة يشابه فيها العلم أي تارة يكون في قبال الظن احتمال يلتفت إليه العقلاء ويراعونه في حياتهم وأخرى يكون الإحتمال ضعيفا لدرجة أن العقلاء يتعاملون معه معاملة العدم ولا يراعون وجوده.
لكن الذي يسهل الأمر هو إمكان تحصيل شياع مفيد للعلم أو الإطمئنان من خلال تشكيل مجلس حاشد من أهل الخبرة العدول، وبالتالي يمكن من خلال إيكال الأمر إلى هؤلاء تحصيل العلم أو الإطمئنان بكفاءة الشخص المعين للولاية، أو بأفضليته إن كنا نبحث عن الأفضل.
ومع تحصيل العلم أو الإطمئنان من قول أهل الخبرة بالأفضلية، لا يضر حينئذ أي قول معارض، لأن قول هذا المعارض هو في أحسن الحالات لن يفيد أكثر من الإحتمال الضعيف الذي لا يعتنى به عقلائياً، ويمكن للأكثرية المهمة في مجلس حاشد من أهل الخبرة أن تفيدنا الإطمئنان إن لم تفد العلم.
ولا يكفي للمنتخِب أن يعتمد على مجرد الإطمئنان بتوفر الصفات في الشخص المقصود من دون ملاحظة منشئه، بل لا بد وأن يكون مستندا إلى سبب عقلائي حتى يكون حجة عقلائية وبالتالي شرعية، والسبب في ذلك أن حجية الإطمئنان ليست ذاتية بل تستند إلى السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشرع الممثل بأهل العصمة عليهم السلام ولم توجد سيرة على الإعتناء في مقام الإحتجاج بالإطمئنان الناشئ من أسباب غير عقلائية.
معنى الشياع:
ومما ذكرنا يتبين أن الشياع ليس مجرد شهرة بين الناس، بل هو عبارة عن إخبارات كثيرة من كثير من أهل الخبرة، فلا يكفي الشياع بين الناس ما لم يكن ناشئاً عن شياع بين أهل العلم والخبرة2، وإلا فيمكن للدعاية أن تساهم في تحقيق هذا الشياع بعيداً عن الأسس الصحيحة، كما لا قيمة لشياع أو شهرة تنشأ من قول شخص أو شخصين، بل هذا في الحقيقة خارج عن حقيقة الشياع ومندرج في البينة أو قول الشخص الواحد.
2- وقد ذكر ذلك أيضا الإمام الخوئي قدس سره في بعض أجوبة استفتاءات وجهت إليه.
نتيجة البحث:
فتحصل أنه لا سبيل إلا بالشياع، وأن أفضل طريقة له هي تشكيل مجلس يضم حشداً من أهل العلم والخبرة يشخصون من خلال مشاورات بينهم واستشارة الآخرين من هو الولي، ويكون الإنتخاب منهم وليس انتخاباً مباشراً من الناس.
وهذا ما اتبعته الجمهورية الإسلامية المباركة أيام الإمام الخميني قدس سره الذي عمل على تأسيس مثل هذا المجلس.