من الشهادات الملفتة للنظر في ساحة الآخرة, يوم القيامة, حوار الإنسان مع جوارحه…!, كيف يكون هذا الأمر؟ وما الهدف من ذكره؟ وهل توجد لهذه الشهادة ثمرة وأثر تربوي ينتفع منه الإنسان في حياته؟
لقد ورد هذا الحوار في سورة فصلت حيث قال تعالى:
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أعْداءُ اللهِ إلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إذا ما جاؤُها شَهِدَ عَليْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَ قالُوا لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَليْنا قالُوا أنْطقَنَا اللهُ الّذي أنْطقَ كُلَّ شَيءٍ وَ هُوَ خَلَقكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ وَ إليْه تُرجَعُونَ * وَ مَا كُنْتُمْ تَتْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَليْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أبْصارُكُمْ وَلا جُلودُكُمْ وَ لكِنْ ظنَنْتُمْ أنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَ ذلِكُمْ ظنُّكُمُ الَّذي ظنَنْتُمْ برَبِّكُمْ أرْداكُمْ فأصْبَحْتُمْ مِنَ الخَاسِرينَ * فإنْ يَصْبرُوا فالنَّارُ مَثوىً لهُمْ وَ إنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ المُعْتَبينَ }[1]
وقد ذكرت آراء كثيرة في كيفية كلام الجوارح منها :
- إنّ الله تبارك وتعالى يخلق فيها قدرة الإحساس والإدراك والشعور, وبالتالي القدرة على الكلام, أو أنّ الأمر يكون كما في حال الشجرة التي أوجد الله تعالى فيها الصوت واسمعه موسى”ع”.
- وأما الوجه الآخر؛ إنه يظهر فيها أمارات تدل على كون أصحابها مستحقين للنار, فسمى ذلك شهادة مجازاً, كما يقال: عيناك تشهد بسهرك, أي فيها ما يدل على سهرك, لكن صاحب تفسير الميزان ضعّف جميع الآراء التي ذكرت وأعطى رأياً جديداً حيث قال وهو إنّ معنى شهادتها هو أداءها ما تحمله, حيث قال: (شهادة السمع والبصر أداؤها ما تحملاه وإن لم يكن معصية مأتياً بها بواسطتهما كشهادة السمع أنه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنه سمع صاحبه يتكلم بكلمة الكفر, وشهادة البصر أنه رأى الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنه رأى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الإصغاء إليه فتكون الآية على حد قوله تعالى: { إنَّ السَمْعَ وَ البَصَرَ وَ الفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسؤُلا }[2] )[3]
كما أن هناك خصوصية للجلود تختلف عن غيرها وهي أنها في حالة مباشرة للمعصية وتشترك في جميع المعاصي, ولذلك نرى الإنسان يعاتبها على شهادتها ونطقها.
ويطرح هنا سؤال: لماذا تتكلم الجوارح في ذلك الموقف؟
الظاهر إن بعض المشركين ينكرون ما ينسب عليهم من المعاصي والذنوب رغم شهادة الملائكة الموكلين على أعمالهم, وكذلك عرض صحيفة الأعمال أمامهم, فيختم الله تعالى على أفواههم ويأذن إلى الجوارح بالنطق كما في الحديث الوارد عن أمير المؤمنين “ع” الذي يذكر فيه أحوال أهل المحشر فيقول:” ثم يجتمعون في مواطن أخر فيستنطقون فيها فيقولون: وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْركِينَ فيختم الله تبارك وتعالى على أفواههم ويستنطق الأيدي والأرجل والجلود, فتشهد بكل معصية كانت منهم, ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم { لِمَ شَهِدْتُمْ عَليْنا قَالُوا أنْطقَنَا اللهُ الَّذي أنْطقَ كُلَّ شَيْءٍ }[4]
إن شهادة الجوارح على الإنسان فيها دلالات تربوية كثيرة منها :
على الإنسان أخذ الحيطة والحذر في كل تصرفاته لأنه في دائرة الرقابة الشديدة وإن الرقيب عظيم ودقيق, يبدأ بالجوارح ثمّ الملائكة وفوق كل هؤلاء الرب العظيم عالم الغيب والشهادة.
على الإنسان أن لا يأمن العذاب والحساب في كل أمر يقوم به حتى لو كان هذا الشيء صغيراً في نظره , وفي أي مكان حتى لو كان المكان محصناً وأميناً لأن الشاهد والرقيب حاضر وهو من أقرب الأشياء إليه , وهذا الرقيب بدنه الذي هو شريك معه في الجرم .
إنّ الإنسان في ذلك اليوم لا ينفعه سوى عمله الطاهر الصحيح , فالجميع عاجزون عن نصرته ودفع العذاب , بل وحتى بدنه لا يستطيع مساعدته ولو بكتمان ما كان شريكه فيه حيث تقاسم معه في تلك اللحظة اللذة والفرحة والانبساط والسعادة ولو كانت قليلة وزائلة .
إسـراء البنا _ العراق
[1] فصلت , 19 -24
[2] الإسراء ,36
[3] محمد حسين الطباطبائي , الميزان في تفسير القرآن , ج17,ص379 .
[4] عبد علي بن جمعة الحويزي , تفسير نور الثقلين , ج4,ص454 .