خلال عمله في جلسات الأمم المتحدة، يظهر المندوب السوري بشار الجعفري بلاغة واتزانا، وينطبق الامر ذاته على حضوره الشخصي. يتكلم الجعفري أربع لغات بطلاقة، كما انه حائز ثلاث شهادات دكتوراه. تمتد مسيرته كدبلوماسي على مدى اكثر من ثلاثة عقود. لدى الرجل الكثير مما يود قوله، اكثر مما يسمح به نصف الساعة، الذي يعطى له للتكلم في جلسات الامم المتحدة. فيما يلي مقابلة «الأخبار» مع الدبلوماسي المحصور ضمن نطاق 25 ميلاً من مقر الأمم المتحدة. بدأنا الحوار بالحديث عن معرض صور لمصور سوري مقيم في حلب، كان قد افتتح في اليوم نفسه في مقر الامم المتحدة
حاورته: إيفا بارتليت *
ـ كيف ابصر هذا المعرض النور؟
كان هذا الانفراج الاول على مستوى الامم المتحدة من بداية ما يعرف بالأزمة السورية. على مدى اربع سنوات، عملت بجدّ لعمل شيء ما داخل الأمم المتحدة. في كل مرة حاولنا أن نفعل شيئاً، كنا نواجه بالكثير من البيروقراطية، والأعذار، والاعتذارات (أحياناً)، والحرمان من حقوقنا، (أحياناً)، والتجاهل، الخ. لقد سعدت جداً لأننا في النهاية نجحنا في تنظيم هذا المعرض – الذي لا يتناول الصورة العمومية للأزمة السورية، لكنه يركز فقط على ما حدث في حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، بعد العاصمة دمشق. (المعرض هو) عن سوريا، والشعب السوري. انه ليس عن الحكومة السورية أو المعارضة السورية أو عصابات الائتلاف السوري أو داعش. انه عن سوريا، عما حدث في حلب، عبر الصور التي لا يمكن إنكارها.
ـ لماذا في ظنّك سمحت الأمم المتحدة الآن بهذا المعرض؟ لقد ذكرت في الماضي أنك اردت أن ترعى معارض قبلاً، ولكن لم يسمح لك بذلك.
البعثة السعودية، والبعثة الفرنسية، والبعثة الدنمركية، والبعثة البريطانية، والبعثة الألمانية… كلها نظمت فعاليات معادية للحكومة السورية في الأمم المتحدة. في كل مرة كنا نشتكي عن ذلك كان يقال لنا: «يمكنكم فعل الشيء نفسه». نحن اليوم قلنا «لدينا هذا المعرض». جرى حشرهم في الزاوية. لم يكن باستطاعتهم ان يقولوا لا (يضحك)، لأنهم ظلّوا يقولون لي «يمكنك أن تفعل الشيء نفسه». نحن لا نهاجم ألمانيا أو فرنسا أو غيرها، وفقط نظهر الحقيقة في بلدنا.
ـ أنت ممثل الجمهورية العربية السورية في الأمم المتحدة، وسوريا تحتل حيّزاً مهما في عناوين الأخبار. هل تجري دعوتكم للظهورعلى قنوات تلفزيونية رئيسية؟
على نحو اساسي، اخاطب وسائل الاعلام في الامم المتحدة بالـ«ستيك آوت» (stakeout)، المنصة المخصصة للدبلوماسيين والسفراء. اظهر ايضاً على شاشات التلفزة من وقت لآخر، ولكن لنكن صادقين، عندما يسجّلون المقابلات، اتحدث لمدة 20 دقيقة، وبالنهاية، يعرضون 20 ثانية أو 10 ثوانٍ فقط، او فقط ما يناسب اجندتهم. لقد رأيتِ ما حدث مع أندرسون كوبر، وكريستيان أمانبور، وغيرهما. إنهم يحاولون دائماً أن يتلاعبوا بالحقائق، ويبذلون قصارى جهدهم لحرف الحديث من اتجاهه إلى التفاصيل السلبية والصغيرة لكي يقوم الجمهور بتكوين فكرة سلبية عما أقوله. في الوقت نفسه، خلال الوقت الذي أتكلم به، يقومون احياناً بعرض مقطع فيديو سلبي عما يجري في سوريا، ليتهموا الحكومة بالقيام بهذا وذاك. وهو ما يعني، بشكل غير مباشر، أنهم يقولون للمشاهدين بأن هذا السفير لا يقول الحقيقة. هل ترين كيف يقومون بالتلاعب؟
لقد كانت كريستيان أمانبور تكذب عندما كانت تجري مقابلة معي عما يسمى الأسلحة الكيميائية. كانت تكذب ولا تقول الحقيقة على الإطلاق! لهذا السبب قلت لها: «اتعرفين شيئاً، أنتِ أيضاً قد تكونين سلاحا من أسلحة الدمار الشامل، لأنك تسممين الرأي العام وتنحرفين عن النقاط الرئيسية التي ابيّنها».
ـ أنت الآن محظور من السفر خارج نطاق 25 ميلاً، كيف يبررون فرض مثل هذا القيد عليك؟
نعم. هم لم يعطوني أي سبب، ولم يقوموا بتوضيح أي شيء. قاموا فقط باخطاري بأنه من الآن فصاعداً، لن أكون قادراً على الذهاب أبعد من 25 ميلاً. انه قرار سيادي اميركي. أنا سفير لدى الأمم المتحدة، وليس إلى الولايات المتحدة، فربما هم يستغلون هذا الفارق البسيط. وبطبيعة الحال، فإن هذا ليس له ما يبرره. لدي الحق في التحرك وفقاً لاتفاقية فيينا الدبلوماسية. ولكن إذا كانوا يريدون ان يتعاملوا بهذه الطريقة، فليكن.
ـ بمناسبة الحديث عن السفر، اشار تقرير مؤخراً إلى أنك قدمت شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة بشأن السيناتور الاميركي جون ماكين ورؤساء الدول الذين يقومون بالسفر بشكل غير قانوني إلى سوريا ويجتمعون مع ارهابيين.
نعم، وظهر ذلك عبر وسائل الإعلام. أنا لم أطلب أن تعمم هذه الرسالة، وأردت أن يتم مشاركتها فقط مع أعضاء مجلس الأمن، ولكن تم تسريبها بطريقة أو بأخرى، إلا أنني أود أن أؤكد أنه، نعم، وأنا أرسلت رسالة للفت انتباه الأمين العام وأعضاء مجلس الأمن إلى هذا التدخل الصارخ والسافر في الشؤون الداخلية، والى الانتهاك ضد سيادتنا، بعبور حدودنا بطريقة غير مشروعة.
أحلت هذه الرسالة مع بعض الأسماء المحددة، على الرغم من أنهم يعدون بالآلاف، ولكننا فقط ذكرنا بعض الأسماء. جون ماكين، عضو مجلس الشيوخ الأميركي، يذهب ويجتمع مع «داعش» في حلب. في احدى الصور يظهر مع شخص من «داعش» وغيره من المجرمين «المعتدلين». السلاح الاميركي الذي تم تسليمه اليهم انتهى بها المطاف في أيدي «جبهة النصرة» و«داعش». كل هؤلاء الناس «معتدلون»، كما تعلمون. برنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي السابق، دخل سوريا بطريقة غير مشروعة، أيضاً. هل يمكنك أن تتخيلي هذا؟ سيناتور من الولايات المتحدة، ووزير سابق من فرنسا والاستخبارات من تركيا… وبعد ذلك يقولون لكم «اتعرفون، نحن قلقون للغاية بشأن انتشار الإرهاب».
ـ نلحظ أنه في عدّة مرّات، خلال جلسات الأمم المتحدة، طرأت «مشاكل تقنية» مفاجئة على الميكروفون الذي كنت تستخدمه ما أدّى إلى انقطاع الصوت، أو واجه بثّ الفيديو «مشاكل تقنية» لا تفسير لها…
مرّات كثيرة، مرّات كثيرة. أنا السفير الوحيد في تاريخ الأمم المتحدة منذ عام 1945 الذي تقطع خطاباته أو لا تسجّل من الأساس. لم يسبق أن حصل ذلك في اجتماعات للأمم المتحدة قطّ، حتّى إن اثنين من خطاباتي لم يسجلا، أحدهما حين كان السفير القطري السابق رئيساً… قطر بالطبع، ولكن ما يزيد الأمر سوءاً هو أن بان كي مون نفسه كان جالساً في القاعة وأيّد الخطوة التي قام بها رئيس الجمعية العامة، وتسبب ذلك بردّ فعل سلبيّ من جانب العديد من السفراء الذين تدخلوا، فقد كان موقف الأمين العام ورئيس الجمعية العامة منحازاً، وكان ذلك واضحاً منذ الأيام الأولى بالنظر الى هذه الافعال السيئة.
يتعلّق هذا الأمر بي وحدي، مثلاً في كل مرة أتكلّم فيها في مجلس الأمن، يختارون مترجماً سيئاً يعجز عن ترجمة ما أقوله بشكل كامل، لذا لا يفهم الناس رسالتي، هم يقومون بذلك عمداً. في أحد الأيام، كنت مدعواً لأتحدّث في مجلس الأمن ورأيت واحداً من موظفي المجلس يتكلّم مع المترجمين، وقد قام بحركة بيده طالباً منهما أن يتبادلا مكانيهما، لقد رأيت ذلك بأمّ عينيّ. لقد أبدلوا المترجم الجيد بواحد سيّئ، وضمنوا ألا تصل رسالتي بشكل كامل.
يقومون بالأمر نفسه في الجمعية العامة أيضاً. لقد فقدت الأمم المتحدة صدقيتها. لقد فقدت الكثير من مبادئ آبائها المؤسسين، فلا علاقة للأمم المتحدة اليوم بميثاقها.
حين ترتكب إحدى بعثات حفظ السلام الأخطاء، مثل قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك (الأندوف) في الجولان السوري المحتلّ، فهي تخفي ذلك، ولا تتشارك المعلومات مع مجلس الأمن. مثلاً، إسرائيل تتعامل مع جبهة النصرة الآن في الجولان، فتساعد الإرهابيين وتعالج جرحاهم في مستشفيات إسرائيلية، وقد أظهر التلفزيون الإسرائيلي نتنياهو وهو يزورهم، ولكن تقرير الأمين العام لا يزال ينفي ذلك، ولا يعالج هذا الموضوع، ولا يعترف بوجود تعاون بين إسرائيل والإرهابيين في الجولان.
ـ هذه مسألة شديدة الاهمية، بما أن الإعلام يتهم الرئيس الأسد بأنه مسؤول بطريقة ما عن «داعش» وغيرها من الإرهابيين. من تحمّله مسؤولية انتشار الإرهاب في سوريا؟
لا بدّ أنكم اطلعتم على التقارير المقلقة التي أشارت إلى أن «داعش» أتت من معسكر بوكا، السجن الأميركي الشهير في العراق. فالبغدادي، خليفة «داعش»، كان مسجوناً في بوكا وأفرج عنه الأميركيون لا الرئيس السوري. والأشخاص الذين ارتكبوا المجزرة في باريس كانوا يقاتلون في سوريا وعادوا إلى فرنسا. لقد سمحت فرنسا بذهابهم إلى سوريا والعراق حيث قتلوا الكثيرين، ثمّ عادوا بشكل طبيعي والشرطة الفرنسية سمحت بدخولهم. إنهم الإرهابيون أنفسهم، هم جيدون حين يقتلون السوريين، وسيئون حين يقتلون فرنسيين.
في عام 2012، قال وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس بنفسه إن الجهاديين- لم يكن يسميهم إرهابيين في حينها – يبلون بلاءً حسناً. وزير الخارجية الفرنسي قالها! العضو الدائم في مجلس الأمن المكلّف الحفاظ على الأمن والسلم العالميين. لقد وصف أعمالهم القبيحة بالقول إنهم يبلون بلاء حسناً. أمّا وزير الداخلية في حينها، الذي بات اليوم في منصب رئيس الوزراء، ذلك الذي كان يبكي فوق جثث الأشخاص الذين قتلوا في باريس – فما الذي قاله؟ في ذلك الوقت كان الوزراء الفرنسيون يتنافسون على من سيذهب أبعد في حقده تجاه الرئيس الأسد، فرددوا «يجب أن يتنحّى، يجب أن يرحل، يجب أن يستقيل»، كان الأمر رائجاً في وقتها. في ذلك الوقت، قال وزير الداخلية الفرنسي «لا أستطيع أن أفعل أي شيء لأمنع الفرنسيين الجهاديين من الذهاب إلى سوريا لتأدية الجهاد».
لا يستطيع، كوزير للداخلية أن يوقف الإرهابيين الآتين من فرنسا من الذهاب إلى سوريا لقتل السوريين! من خلال تركيا طبعاً. لماذا؟ بسبب حرية التعبير، حرية ماذا… حرية الأكاذيب. «لا يستطيع إيقافهم».
ولكن الآن بإمكانه أن يوقفهم، فقد بات يدرك عواقب ما فعله. لقد حذّرناهم في تصريحاتنا: لا تلعبوا مع الإرهابيين، سيرتدّون عليكم. لقد ظنّوا أنهم قوى كبرى وسينفدون، اعتقدوا أنهم محصنون من وباء الإرهاب. من جهة أخرى، يقولون علناً اليوم إن الأميركيين والأتراك سيبدأون بتدريب الإرهابيين في تركيا في الربيع. بات الأمر علنياً بدون أي خجل. والأردنيون يقومون بالأمر نفسه في معسكرات سرية تديرها فرنسا وبريطانيا وأميركا في شمال البلاد. وهذا يجري في السعودية وقطر، إنه سلوك مخزٍ.
فهل تصدّقون أن السعودية ترعى مركز الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب؟ وهل تصدّقون للحظة أن قطر ترعى لجنة تحالف الحضارات الحريصة على الحوار بين الثقافات والحضارات والأديان؟ إنهم يشترون الأمم المتحدة بمالهم القذر.
ـ في ما يتعلق بالمواقع الأثرية المدمرة في سوريا، لمّح وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى أنّ من واجب أميركا حماية الآثار السورية. ما رأيك بتصريحه في ضوء التورط الأميركي في الحرب السورية؟
هذا الرجل مفصول تماماً عن الواقع. أخبرني ذلك أميركي قاتل معه في فيتنام، قال لي «هذا الرجل لطالما كان مفصولاً»، ولكنه ليس الوحيد كذلك. من ناحية أخرى، يوجد العديد من أعضاء مجلس الشيوخ النزيهين والأشخاص الجيدين في الكونغرس الذين عارضوا خطّة الإدارة الأميركية بتوجيه ضربة إلى سوريا. يوجد أشخاص جيدون والدستور الأميركي يستند إلى قيم جميلة، هذا عندما يطبّق.