شجاعة الإمام عليّ عليه السلام
الشجاعة صفة عظيمة ومؤثّرة، وأثر الشجاعة في ساحة القتال هو أن لا يخشى الإنسان المخاطر ويخوض غمار الهول ويبذل جهده وينتصر على العدو، والناس يفهمون هذا الجانب من الشجاعة.
ولكن للشجاعة مواطن أخرى غير ساحة الحرب، ويكون أثر الشجاعة هناك أهمّ منه في ساحة الحرب، كما في مجالات الحياة، وتقابل الحقّ مع الباطل، وساحة المعرفة وتبيين الحقائق وساحة المواقف الّتي تعرض للإنسان طيلة حياته، فأثر الشجاعة يظهر في هذهِ المواطن.
فالشجاع هو الّذي حينما يرى الحقّ يتبعه ولا يخشى شيئاً ولا يحول دونه محذور ولا تحول دونه الأنانيّة ولا عظمة جبهة العدو، وأمّا غير
الشجاع فلا نقول إنّه لا ينتصر على العدو فحسب، بل أحياناً قد يتداعى بناء الحقّ بانعدام شجاعة الفرد إذا كان ذا منزلة ومكانة في المجتمع. هذهِ هي حقيقة الشجاعة.
فأحياناً على أثر عدم شجاعة فرد ينقلب حقّ إلى باطل، وأحياناً على أثر عدم شجاعة شخص كان ينبغي له التدخّل ينقلب باطل إلى حقّ, هذهِ شجاعة أخلاقيّة واجتماعيّة وشجاعة في واقع الحياة، وهذهِ الشجاعة أسمى من الشجاعة في ساحة القتال.
كان أمير المؤمنين عليه السلام من أشجع الشجعان في ساحة الحرب، فلم يولِّ العدو ظهره أبداً وليس هذا بالقليل، فقصّته في حرب الخندق معلومة حيث تقدّم عندما تخاذل الجميع، كذلك قصّته في فتح خيبر، وفي وقعة بدر وأُحد وحُنين، وكلّ واحدة من هذه الوقائع لو نظرتم إليها تجدون أمير المؤمنين عليه السلام وله من العمر في بعضها 24 سنة وفي بعضها 25 سنة، وفي بعض المواطن 30 سنة قد نصر الإسلام وهو شاب لم يتجاوز العقد الثالث بشجاعته في ميادين القتال وخلق تلك الأعاجيب، وهذا يختصّ بالحرب.
ولكنّني أقول: يا أمير المؤمنين، يا حبيب الله إنّ شجاعتك في ميادين الحياة أكثر بكثير من شجاعتك في ساحة الحرب، وذلك منذ صغرك فقضيّة السبق إلى الإسلام الّتي ذكرتها والّتي لبّيت فيها الدعوة حين رفضها الجميع ولم يجرؤ أحد منهم، هي قضيّةُ شجاعةٍ.
طبعاً خذوا بنظر الاعتبار حادثة كهذه حيث يمكن أن تكون مثالاً من
أبعاد مختلفة لخصوصيّات مختلفة، إلّا أنّنا الآن ننظر إليها من زاوية شجاعة هذا العمل.
طرح النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في مجتمع كانت جميع العوامل فيه تناهض هذهِ الدعوة، فجهل الناس وحميّتهم، وشرف الأشراف المسيطرة على الناس تقف بوجه هذه الدعوة.
فأيّ نجاح يمكن أن تطمح إليه دعوة كهذه في المجتمع؟
قام النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بطرح مثل هذه الدعوة ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾8. في البداية عمد الأعمام المتكبّرون وأصحاب الرؤوس المليئة بالعصبيّة والغرور والعنجهيّة وغير المذعنة للحقّ والساخرة بكلّ كلام متين في الدنيا، عمدوا إلى الاستهزاء والسخرية، مع أنّه كان جزءاً منهم وكانت عندهم عصبيّة تجاه العِرق، فجميع الناس آنذاك كانوا كذلك، فأحياناً يقتتلون عشر سنوات انتصاراً لقريب لهم.
ولكنّه عندما حمل هذا القريب هذا المشعل بيده زوى الجميع أعينهم وصرفوا وجوههم ولم يحتفلوا به وأهانوه وحقّروه وسخروا منه.
وهنا قام هذا الغلام وقال: “أنا يا رسول الله”.
طبعاً كان قد آمن قبل ذلك إلّا أنّه هنا أعلن إيمانه، وأمير المؤمنين” عليه السلام هو ذلك المؤمن الّذي لم يكن إيمانه مستوراً أبداً طيلة ثلاث عشرة سنة من بداية البعثة إلّا في الأيام القليلة الأولى، فقد أخفى
________________________________________
8- سورة الشعراء، الآية: 214.
المسلمون إيمانهم لعدّة سنوات، إلّا أنّ الجميع كانوا يعرفون بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد آمن منذ البداية.
جسّدوا هذا الأمر في أذهانكم بشكل صحيح، ففي الوقت الّذي يُمارس فيه الجيران وكبار المجتمع الإهانات والتضييق، إذ يسخر الشاعر والخطيب والثريّ، ويوجّه الحقير والسافل الإهانات، يقف الإنسان وسط هذهِ الأمواج الجارفة والمعارضة شامخاً صلباً كالجبل الأشمّ معلناً: عرفت الله، وعرفت هذا الطريق وأصرّ عليه, فهذه هي الشجاعة، وقد تجسّدت هذهِ الشجاعة في مكّة والمدينة وفي مبايعة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد عمد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عدّة مرات وفي عدّة مناسبات إلى أخذ البيعة، وإحدى تلك البيعات وربما أصعبها هي بيعة الشجرة (بيعة الرضوان) في حادثة الحُديبية9.
فعندما ازداد الموقف حرجاً جمع النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الألف وبضع مئات من الّذين تحلّقوا حوله على ما هو مذكور في كتب التاريخ ونقله الجميع قائلاً: “تبايعوني على الموت وعدم الهزيمة وأن تحاربوا حتّى النصر أو القتل”.
________________________________________
9- بيعة الرضوان، أو بيعة الشجرة: في سنة سبع من الهجرة استنفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للعمرة فخرج معه ألف وثلاثمائة، أو ألف وستمائة، ومعه سبعون بدنة، وقال: لست أحمل السلاح، إنّما خرجت معتمراً. وأحرموا من ذي الحليفة، وساروا حتّى دنوا من الحديبية على تسعة أميال من مكّة، فبلغ الخبر أهل مكّة فراعهم، واستنفروا من أطاعهم من القبائل حولهم وقدّموا مائتي فارس عليهم خالد بن الوليد أو عكرمة بن أبي جهل، فاستعدّ لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: إنّ الله أمرني بالبيعة. فأقبل الناس يبايعونه على ألاّ يفرّوا، وقيل: بايعهم على الموت، وأرسلت قريش وفدا للمفاوضة، فلمّا رأوا ذلك تهيّبوا وصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . المصدر: كتاب معالم المدرستين للسيد مرتضى العسكري، ج1، ص 155.
وأتصوّر بحسب الظاهر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ مثل هذهِ البيعة من المسلمين في موضع آخر غير هذا الموضع. وكان في هذهِ الجماعة مختلف الناس وكان فيهم ضعاف الإيمان إذ يذكرون بعض الأسماء أيضاً وفيهم حتّى من المنافقين في هذهِ البيعة.
وأوّل من بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو هذا الشاب اليافع الّذي له من العمر عشرون سنة ونيّف، فرفع يده وقال: “أبايعك على الموت”، وبعد ذلك تشجّع المسلمون وتقدّموا وبايعوا واحداً بعد الآخر, وحتّى الذين لم يرغبوا في ذلك اضطّروا إلى المبايعة ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾10. وهذهِ شجاعة.
ففي حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أينما وجد موضع لإظهار الجوهر الإنسانيّ كان هذا العظيم يتقدّم، فكان السبّاق في كلّ الصعاب.
جاء رجل إلى عبد الله بن عمر ليتحبّب إليه، وقال: أنا أبغض عليّاً, وكان يرى أنّ هؤلاء عائليّاً لا يحبّون علياً عليه السلام ، فقال له عبد الله بن عمر: “أبغضك الله، أتبغض رجلاً سابقة من سوابقه خير من الدنيا وما فيها؟”11.
هذا هو أمير المؤمنين عليه السلام العظيم. هذا هو عليّ الساطع في التاريخ. هذهِ هي الشمس الّتي سطعت لعدّة قرون وتزداد سطوعاً يوماً بعد يوم. فأينما لزم وجود الجوهر الإنسانيّ كان هذا الرجل العظيم حاضراً
________________________________________
10- سورة الفتح، الآية: 18.
11- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج ١، ص ٢٨٨.
هناك حتّى إذا لم يكن معه أحد، فقد كان يقول: “لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله”12 ، وكان هو أيضاً كذلك. فإذا كنتم في أقليّة وكان جميع أهل الدنيا ضدّكم ولا يرتضون طريقكم، أو أنّ الأكثريّة لا تقبل ذلك فلا تستوحشوا ولا تتراجعوا، فعندما تتعرّفون إلى الطريق القويم اسلكوه بكلّ وجودكم.
هذا هو المنطق الشجاع لأمير المؤمنين عليه السلام ، وهذا ما التزمهُ أيضاً في حياته.
وفي حكومته أيضاً الّتي استغرقت أقلّ بقليل من خمس سنوات كان هذا المنطق أيضاً ماثلاً أمام أمير المؤمنين عليه السلام. فكلّ ما ترونه شجاعة، ومنذ اليوم الثاني من مبايعته عليه السلام خرج وتكلّم بشأن القطائع الّتي أعطيت قبله لهذا وذاك وقال: “وَالله لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الاْمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ؛فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ”13. وشرع في ذلك وحدثت تلك الضغائن.
فهل تُعهد شجاعة أعظم من هذهِ الشجاعة؟
وقف بشجاعة أمام أكثر الناس عناداً، ووقف بشجاعة أمام ذوي النفوذ في المجتمع الإسلاميّ، ووقف بشجاعة تجاه الثروة المتكدّسة في الشام والّتي كان يمكنها تجهيز ورصّ عشرات الآلاف من الجنود لمقاتلته،
________________________________________
12- نهج البلاغة، الخطبة: 201.
13- نهج البلاغة، الخطبة: 15.