بمناسبة مولد الامام الحسن عليه السلام في 15 شهر رمضان
21 مارس,2024
مناسبات
7,219 زيارة
حياة الإمام الحسن المجتبی (عليه السلام)
اسمه و ولادته
ولد الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام في النصف من شهر رمضان في السنة الثالثة للهجرة [1]، وقيل: في السنة الثانية [2]، في المدينة المنورة. وا ُمّه فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
وأسرع النبيّ الأكرم صلـّى الله عليه وآله وسلم إلى بيت علي عليه السلام عندما سمع بنبأ ولادته المباركة، ونادى أسماء أن تأتيه بولده، فأذّن في أ ُذنه اليُمنى وأقام في اليسرى، وسمّاه حسناً بأمرٍ من جبرئيل عليه السلام.
وعقّ عنه في اليوم السابع بكبش، وحلق رأسه وتصدّق بوزن الشعر فضّة [3].
[1] الإرشاد 2: 5، دلائل الإمامة: 60.
[2] الكافي 1: 461.
[3] بحار الأنوار 43: 239، 257.
كنيته وألقابه
كنيته وألقابه
وكنيته أبو محمد، وألقابه كثيرة أشهرها: التقي والطيب والزكي والسيّد والسبط والوليّ [1] والحجـّة والمجتبى والزاهد [2].
[1] بحار الأنوار 43: 255.
[2] المناقب لابن شهر آشوب 4: 33.
صفته
كان يشبه النبيّ صلـّى الله عليه وآله وسلم خَلقاً وهيئةً، كما جاءت به الأخبار [1] ونصّ عليه المؤرخون [2].
فقد كان عليه السلام أبيض مشرباً بحمرة، أدعج العينين، والدعج: شدّة سواد العين مع سعتها، سهل الخدين أي غير مرتفع الوجنتين، دقيق المشربة وهو الشعر المستدق في الصدر الى السرّة، كثّ اللحية، ذا وفرة، والوفرة هو الشعر إلى شحمة الأذن، عظيم الكراديس والكردوس كل عظيمين التقيا في مفصل، بعيد ما بين المنكبين، ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، مليحاً من أحسن الناس وجهاً، وكان يخضب بالسواد، كان جعد الشعر، حسن البدن [3].
كما كان عليه السلام يشبه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم في هديه وسؤدده، ففي الخبر أنّ فاطمة أتت النبيّ صلّى اله عليه والله وسلم بابنيها الحسن والحسين في مرضه الذي توفيّ فيه فقالت: يا رسول الله هذان إبناك ورِّثهما شيئاً. فقال صلّى الله عليه وآله وسلم: أما الحسن فإنّ له هديي وسؤددي، وأمّا الحسين فإنّ له جودي وشجاعتي [4]، وفي رواية أ ُخرى: له هيبتي وسؤددي [5].
وقال الغزالي في إحياء العلوم: إنّ النبيّ صلّى اله عليه وآله وسلم قال للحسن: لقد أشبهت خَلقي وخُلقي، ولم يكن أحد أشبه برسول الله منه كما جاء عن مالك بن أنس[6].
[1] بحار الانوار44: 137.
[2] ترجمة الإمام الحسن من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد: 36 – 38، الدر النظيم: 490.
[3] انظر بحار الأنوار 44: 137.
[4] الارشاد 2: 6 – 7.
[5] بحار الأنوار 43 263 / ح 10.
[6] نقلاً عن سيرة الائمة الاثنى عشر 1: 463.
نشأته
نشأ الإمام الحسن عليه السلام في بيت النبوّة تحت رعاية جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، كان يدعوه بولدي، ويصرّح امام الملأ العام من المسلمين بأنّ الحسن والحسين عليهما السلام ولداه، وكذلك كان يفعل أمير المؤمنين عليه السلام في مناسبات عديدة ويعرّفهما لجماهير المسلمين بأنّهما ولدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، بل أن الله تبارك وتعالى قد سمّاهما كذلك في آية المباهلة { فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ } [1] .
وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يداعبه في صغره، فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يدلع لسانه للحسن بن علي، فإذا رأى الصبيّ حمرة اللسان يهشُّ إليه [2] .
وعن عمير بن اسحاق قال: رأيت أبا هريرة لقي الحسن بن علي فقال له: اكشف لي بطنك حتى اُقبِّل حيث رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقبِّل منه، قال: فكشف عن بطنه فقبّله [3]. ولكن هل علم أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إنّما كان يُقـّبل تلك الأحشاء التي سوف يلفظها الحسن عليه السلام بسبب السمّ الذي يدسّه إليه معاوية؟!
وعن ابن عباس: إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم كان حاملاً الحسن بن علي على عاتقه، فقال رجل: نِعمَ المركب ركبت يا غلام: فقال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم: ونِعمَ الراكب هو [4] .
وعن أبي هريرة أيضاً: بينما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد فجاء الحسن يشتدّ فوقع في حجره، ثم أدخل يده في لحيته، ثم جعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يكفح فمه فيدخل فاه في فيه ثم يقول: اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه، وأحبب مَن يحبّه [5] .
وعن أبي سعيد الخدري، قال: جاء الحسن إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وهو ساجد فركب على ظهره، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بيده وهو على ظهره ثم ركع ثم أرسله فذهب [6] .
وعن أبي بكرة: انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم كان يصلّي فإذا سجد وثب الحسن على ظهره – أو قال: على عنقه – فيرفع رأسه رفعاً رفيقاً لئلاّ يصرع، فعل ذلك غير مرّة، فلمّا قضى صلاته قالوا: يا رسول الله رأيناك صنعت بالحسن شيئاً ما رأيناك صنعته بأحد؟ فقال: إنّه ريحانتي من الدنيا، وإنّ ابني هذا سيّد، وعسى الله أن يُصلح به بين فئتين من المسلمين [7] .
وعن البهيّ مولى الزبير، قال: تذاكرنا مَن أشبه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم من أهله؟ فدخل علينا عبد الله بن الزبير فقال: أنا اُحدّثكم بأشبه أهله وأحبّهم إليه، الحسن بن علي، رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته – أو قال ظهره – فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته يجيء وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر[8].
وعن زيد بن أرقم قال: خرج الحسن بن علي وعليه بُردة ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يخطب، فعثر الحسن فسقط، فنزل رسول الله (ص) من المنبر وابتدره الناس فحملوه، وتلقّاه
رسول الله (ص) فحمله ووضعه في حجره وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الولد لفتنة، ولقد نزلتُ إليه وما أدري أين هو؟! [9].
[1] آل عمران: 61.
[2] ترجمة الامام الحسن من الطبقات الكبير لابن سعد: 39 ح 37.
[3] المصدر السابق: 39 / ح 38، مسند أحمد بن حنبل 2 / 427 و 488.
[4] المصدر السابق: 40 / ح 39، سنن الترمذي 5: 661 ح 3784، اُسد الغابة 2: 13.
[5] المصدر السابق: 40 / ح 40، مسند أحمد 2: 532، وكفحه: استوفى تقبيله _لسان العرب 12: 118).
[6] المصدر السابق: 45 / ح 47.
[7] المصدر السابق: 43 / ح 44، مسند أحمد 5: 51، المعجم الكبير للطبراني 3: 22 ح 2591.
[8] المصدر السابق: 38 / ح 36، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 189، تذكرة الخواص: 195.
[9] المصدر السابق: 65 / ح 102، تاريخ ابن كثير 8: 35.
منزلته
لقد حرص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في مواطن كثيرة أمام الملأ العام من المسلمين على بيان منزلة الإمام الحسن وأخيه الإمام الحسين عليهما السلام، فقد روى جابر قال، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: مَن سَرَّه أن ينظر إلى سيّد شباب أهل الجنّة فلينظر إلى الحسن بن علي [1] .
واستفاض رواية حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة[2] .
وعن أبي هريرة، قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرّة وهذا مرّة ، حتى انتهى إلينا فقال له رجل: إنّك لتحبّهما! فقال: مَن أحبّهما فقد أحبّني، ومَن أبغضهما فقد أبغضني [3].
وعن أبي بكرة قال: لقد رأيت رسول الله (ص) على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرّة وعلى الحسن مرّة ويقول: إنّ ابني هذا سيّد، وعسى الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين [4].
وعن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: مَن أراد أن يتمسّك بعروة الله الوثقى التي قال الله عزّوجلّ في كتابه، فليتوال عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين، فإنّ الله تبارك وتعالى يحبّهما من فوق عرشه [5].
وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بيد الحسن والحسين فقال: مَن أحبّ هذين الغلامين وأباهما وأمّهما فهو معي في درجتي يوم القيامة [6].
وروى زاذان عن سلمان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول في الحسن والحسين عليهما السلام: اللهمّ إنّي أحبّهما فأحبّهما واحبب من أحبّهما. وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: من أحبّ الحسن والحسين أحببته، ومَن أحببته أحبّه الله، ومَن أحبّه الله أدخله الجنة، ومن ابغضهما ابغضته، من أبغضته أبغضه الله، ومَن أبغضه الله أدخله النار [7].
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم آخذاً بيد الحسن والحسين عليهما السلام فقال: إنّ ابنيَّ هذين ربيتهما صغيرين، ودعوتُ لهما كبيرين، وسألت الله لهما ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت الله لهما أن يجعلهما طاهرين مطهّرين زكّيين فأجابني إلى ذلك، وسألت الله أن يقيهما وذريتهما وشيعتهما النار فأعطاني ذلك، وسألت الله أن يجمع الأمة على محبّتهما، فقال: يا محمد إني قضيت قضاءً وقدّرت قدراً، وإنّ طائفة من اُمّتك ستفي لك بذمّتك في اليهود والنصارى والمجوس وسيخفرون ذمّتك في ولدك، وإنّي أوجبت على نفسي لمن فعل ذلك ألاّ أحلّه محلّ كرامتي، ولا اُسكنه جنّتي، ولا أنظر إليه بعين رحمتي يوم القيامة [8].
وفي معجم الطبراني باسناده عن ابن عباس، وأربعين المؤذّن، وتأريخ الطبري، بأسانيدهم إلى جابر، قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إنّ الله عزّوجلّ جعل ذرية كل نبيّ من صلبه خاصّة، وجعل ذريّتي من صلبي ومن صلب علي بن أبي طالب، إنّ كلّ بني بنت ينسبون إلى أبيهم إلاّ أولاد فاطمة فإنّي أنا أبوهم [9].
وعن حذيفة بن اليمان قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في جبل حرى أو غيره ومعه علي عليه السلام وجماعة من المهاجرين والأنصار إذا أقبل الحسن بن علي عليهما السلام يمشي على هدوء ووقار، فنظر إليه رسول الله صلّى اله عليه وآله وسلم وقال إنّ جبرئيل يهديه وميكائيل يسدّده، وهو ولدي والطاهر من نفسي وضلع من اضلاعي، هذا سبطي وقرّة عيني بأبي هو.
فقام رسول الله صلّى اله عليه وآله وسلم وقمنا معه وهو يقول له: أنت تفاحتي وأنت حبيبي ومهجة قلبي، وأخذ بيده فمشى معه ونحن نمشي حتى جلس وجلسنا حوله نظر الى رسول الله (ص) وهو لا يرفع بصره عنه، ثم قال: أما إنّه سيكون بعدي هادياً مهدياً، هذا هديّة من ربّ العالمين لي ينبئ عنّي يعرّف الناس آثاري ويُحيي سُنّتي، ويتولّى أموري في فعله، ينظر الله إليه فيرحمه، رحم الله من عرف له ذلك وبرّني فيه وأكرمني فيه.
فما قطع رسول الله صلّى اله عليه وآله وسلم كلامه حتى أقبل أعرابي يجرّ هرواة له. فلم يسلّم وقال: أيّكم محمد؟ قلنا: وما تريد؟ قال رسول الله صلّى اله عليه وآله وسلم: مهلاً، فقال: يا محمد لقد كنتُ أبغضك ولم أرك، والآن فقد ازددتُ لك بغضاً.. فخبرني ببرهانك. قال: نعم يا حسن قم. فازدرى الأعرابي نفسه وقال: هو ما يأتي ويقيم صبيّاً ليكلّمني، قال: انك ستجده عاماً بما تريد.
فابتدره الحسن عليه السلام وقال: مهلاً يا أعرابي… أنبّئك عن سفرك، خرجتَ في ليلة ضحياء إذ عصفت ريح شديدة اشتدّ منها ظلماؤها، وأطلّت سماؤها، وأعصر سحابها، فبقيت محر نجماً كالأشقر إن تقدّم نحر وإن تأخّر عُقر، لا تسمع لواطئ حسّاً، ولا لنافخ نارٍ جرساً، تراكمت عليك غيومها، وتوارت عنك نجومها. فلا تهتدي بنجمٍ طالع، ولا بعلمٍ لامع، تقطع محجّة وتهبط لجّة في ديمومة قفر بعيدة القعر، محجفة بالسفر، إذا علوت مصعداً ازددت بُعداً، الريح تخطفك، والشوك تخبطك، في ريحٍ عاصف، وبرق خاطف، فقد أوحشتك آكامها، وقطعتك سلامها، فأبصرت فإذا أنت عندنا، فقرّت عينك، وظهر رينك، وذهب أنينك.
قال: من أين قلت يا غلام هذا، كأنّك كشفت عن سويد قلبي، ولقد كنت كانك شاهدتني، وما خفي عليك شيء من أمري، وكأنّه علم الغيب، فقال له: ما الإسلام؟
فقال الحسن عليه السلام: الله اكبر أشهد ان لا إله الاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداّ عبده ورسوله. فأسلم وحسن إسلامه… الحديث [10].
[1] ترجمة الإمام الحسن من كتاب الطبقات الكبير لابن سعد: 46 / ح 53، تاريخ ابن كثير 8: 35، سنن ابن ماجد رقم 43.
[2] نفس المصدر: 48 / ح 55، مسند أحمد 3: 17، المعجم الكبير للطبراني 3: 29 ح 2611، مستدرك الحاكم 3: 166.
[3] نفس المصدر: 50 / ح 59، مسند أحمد 2: 440، مستدرك الحاكم 3: 171.
[4] نفس المصدر: 143 / ح 42، مسند أحمد 5: 37.
[5] بحار الأنوار 43: 270 / ح 31.
[6] بحار الأنوار 43: 270 / ح 37.
[7] بحار الأنوار 43: 275 / ح 42.
[8] بحار الأنوار 43: 276 / ح 47.
[9] بحار الأنوار 43: 284 / ح 50.
[10] بحار الأنوار 43: 333 – 335 مختصراً.
النصّ على إمامته
قال العلاّمة المجلسي (قدس سره): (يستدلّ على إمامتهما – الحسن والحسين عليهما السلام – بما رواه الطريقان المختلفان، والطائفتان المتباينتان من نصّ النبيّ صلّى اله عليه وآله وسلم على إمامة الاثنى عشر، وإذا ثبت ذلك فكلّ من قال بإمامة الاثنى عشر قطع على إمامتهما. ويدلّ أيضاً ما ثبت بلا خلاف أنّهما دعوا الناس إلى بيعتهما والقول بإمامتهما، فلا يخلو من أن يكونا محقّين أو مبطلين، فإن كانا محقّين فقد ثبت إمامتهما، وإن كانا مبطلين وجب القول بتفسيقهما وتضليلهما، وهذا لا يقوله مسلم.
ويستدلّ أيضاً بأنّ طريق الإمامة لا يخلو أمّا أن يكون هو النّص أو الوصف والاختيار، وكل ذلك قد حصل في حقّهما، فوجب القول بامامتهما.
ويستدلّ أيضاً بما قد ثبت بأنّهما خرجا وادّعيا، ولم يكن في زمانهما غير معاوية ويزيد، وهما قد ثبت فسقهما، بل كفرهما، فيجب أن تكون الإمامة للحسن والحسين.
ويستدلّ أيضاً بإجماع أهل البيت عليهم السلام؛ لأنّهم أجمعوا على إمامتهما، وإجماعهم حجّة.
ويستدل بالخبر المشهور أنّه قال عليه السلام: “إبناي هذان إمامان قاما أو قعدا” أوجب لهما الإمامة بموجب القول، سواء نهضا بالجهاد أو قعدا عنه، دعيا إلى أنفسهما أو تركا ذلك.
وطريقة العصمة والنصوص، وكونهما أفضل الخلق يدلّ على إمامتهما، وكانت الخلافة في أولاد الأنبياء عليهم السلام، وما بقي لنبيّنا ولد سواهما، ومن برهانهما بيعة رسول الله (ص) لهما، ولم يبايع صغيراً غيرهما، ونزل القرآن بإيجاب ثواب الجنّة من عملهما مع ظاهر الطفولية منهما قوله تعالى: {ويطعمون الطعام} الآيات فعمّمها بهذا القول مع أبوهما. إدخالهما في المباهلة…) [1] .
[1] بحار الأنوار 43: 277 – 278 / ذيل ح 48.
ما نزل فيه (ع) من القرآن
لقد نزلت مجموعة من الآيات القرآنية في حقّ الإمام الحسن عليه السلام منضمّاً مع رسول الله (ص) ووالديه علي عليه السلام وفاطمة (ع) وأخيه الحسين عليه السلام، ومن تلكم الآيات:
1 – قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [1].
فعن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: نزلت هذه الآية في رسول الله (ص) وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في بيت أ ُم سلمة [2].
وهذا الحديث من الأحاديث المستفيضة التي اتفق على روايتها كتب الفريقين، وتُعرف هذه الآية بآية التطهير، ويُعرف هذا الحديث بحديث الكساء. وقال العلامة المجلسي (قده): (اعلم أنّ هذه الآية ممّا يدل على عصمة أصحاب الكساء عليهم السلام… الخ) [3] .
2 – قوله تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا } الآيات / سورة الدهر.
نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، كما تظافرت الروايات في ذلك [4] .
3 – قوله تعالى: { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُم…ْ } [5]، وتُعرف بآية المباهلة وقد أجمع الفريقان على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين عليهما السلام [6] .
4 – قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } [7].
فعن ابن عباس: الحسن والحسين وفاطمة نسب، وعليّ الصهر [8].
5 – قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [9] الآيات عن سعيد بن جبير. قال: نزلت هذه الآية والله خاصّة في أمير المؤمنين عليه السلام قال: كان أكثر دعائه يقول: { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا }، يعني فاطمة و{ وَذُرِّيَّاتِنَا } يعني الحسن والحسين. { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } قال أمير المؤمنين عليه السلام: والله ما سألت ربّي ولداً نضير الوجه، ولا سألته ولداً حسن القامة، ولكن سألت ربي وُلداً مطيعين لله، خائفين وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع الله قرَّت به عيني [10].
6 – قوله تعالى: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [11].
عن ابن عباس قال: هم أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: عليّ ابن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وأولادهم الى يوم القيامة، هم صفوة الله وخيرته من خلقه [12].
7 – قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [13].
عن الصادق عليه السلام قال: الكفلين: الحسن والحسين [14].
[1] الأحزاب: 33.
[2] بحار الأنوار 35: 206 ح 1.
[3] بحار الأنوار 35: 206 ح 1.
[4] بحار الأنوار 35: 237 ح 1 – 15.
[5] آل عمران: 61.
[6] بحار الأنوار 35: 257 – 271.
[7] الفرقان: 54.
[8] بحار الأنوار 35: 361.
[9] الفرقان: 74 – 76.
[10] بحار الأنوار 43: 279.
[11] النمل: 59.
[12] بحار الأنوار 43: 279.
[13] الحديد: 28.
[14] بحار الأنوار 43: 279.
حياته
عاش الإمام الحسن عليه السلام سبع سنوات وأشهر في كنف جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وعاش في كنف والده إلى حين شهادته عليه السلام في سنة 40هـ، ثم تولّى الخلافة من بعده أشهر انتهت بالصلح مع معاوية، ورجع على أثرها إلى مدينة جدّة بقية عمره الى حين شهادته سنة.
كانت للإمام الحسن (ع) مواقف مشهودة خلال الفترة الممتدة من وفاة رسول الله (ص) إلى تولّي الإمام علي (ع) الخلافة بعد مقتل عثمان.
لقد عاش الإمام الحسن عليه السلام مرارة المحنة وخيانة الأمة لهم بعد مؤامرة السقيفة وسيطرة قبائل التحالف القريشي على مقاليد الحكم بعد وفاة جدّه المصطفى (ص)، ورأى بأمّ عينيه المصائب العظيمة التي حلّت بالبيت النبوي من احراق الباب وعصر أمّه سيدة النساء بالباب وسقوط جنينها محسن والمسمار الذي مزق صدرها وكسّر ضلعها وصفعها على خدّها وقود أبيه بحمائل سيفه نحو المسجد ليبايع أبابكر قهراً وهرولة أمّه وراءهم وهي تناشدهم بأن يخلّوا سبيلها وتهددهم بأن تكشف رأسها للدعاء عليهم، فخافوا ذلك وأطلقوا سراحه، وما إلى ذلك من مصائب جليلة يشيب لها الصغير.
وكان صغر سنّه وضعف بدنه يمنعانه عن نصرة أبيه الذي استضعفه المسلمون بعد أن انقلبوا على أعقابهم كما أنبأهم الله تعالى في كتابه الحكيم: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } .
دخل الحسن عليه السلام مرّة الى مسجد جدّه رسول الله (ص) فرأى أبابكر على المنبر يخطب بالناس، فصاح به: أنزل من منبر جدّي. وخيّم الصمت على تلك الجموع الغفيرة وهي تنتقل مع ذاكرتها حينما كان هذا الصبي يجلس مع جّده على هذا المنبر.
وموقف آخر للحسن عليه السلام مع أخيه الحسين حينما جاءا إلى قبر جدّهما وكان عنده بلال المؤذن بعد أن جاء من الشام لرؤيا رأى فيها رسول الله صلّى اله عليه وآله وسلم يعاتبه على جفائه عن زيارته، فلما رأى الحسنان ضمّهما إليه وأجهش بالبكاء، فطلبا منه أن يؤذن كما كان يفعل في حياة النبيّ (ص)، فصعد بلال إلى سطح المنزل وشرع بالأذان وهرعت الناس نحو المسجد وخرجت المخدرات من خدورهن وارتجت المدينة بأصوات البكاء، ولم يُرَ أكثر باكٍ وباكية ذلك اليوم بعد وفاة رسول الله (ص).
وبعد أشهر معدودة انتقلت الزهراء إلى جوار بارئها وخلّفت لوعة وشجى في قلب الحسنين حزناً وحسرة على جدّهما واُمها، وكان علي عليه السلام يحاول سدّ هذا الفراغ العاطفي الهائل.
وترعرع الصبيان بجوار أبيهما أمير المؤمنين (ع) حتى بلغا مبلغ الرجال، يتّبعان خطاه وفي هذا السن تعاونا مع أبيهما في تعليم المسلمين القرآن وأحكام الإسلام، وكانت للحسن عليه السلام في شبابه حلقة مستقلّة للتعليم في المسجد النبوي الشريف.
ومرّت السنوات المظلمة كئيبة ثقيلة على العترة النبوية وهي ترى تلاعب صبيان بني أُمية بمقدرات المسلمين واتساع رقعة الانحراف يوماً بعد يوم حتى آلت الأ ُمور إلى الثورة على عثمان وقتله في عقر داره.
وخلال هذه الفترة التحق الإمام الحسن عليه السلام وهو في العشرين من عمره بجنود المسلمين المتجهة إلى أفريقيا بقيادة عبد الله بن نافع.
كما التحق مع أخيه الحسين عليه السلام بجيش المسلمين بقيادة سعيد بن العاص لفتح خراسان في سنة 30 هـ، فنزل الجيش قومى وصالحهم، ثم نزل جرجان وصالحهم أيضاً، وقاتلهم في طميسة احدى مدن طبرستان على ساحل بحر قزوين، واشتدّ القتال وصلّى المسلمون صلاة الخوف ثم كتب الله تعالى لهم النصر [1].
ومع أنّ التأريخ لم يحتفظ لنا بتفاصيل عن حياة أهل بيت النبوة خلال العقود الثلاثة المظلمة، إلاّ أنّه ذكر نزراً يسيراً من بعض مواقفهم وأخبارهم، منها كلمات الإمام الحسن عليه السلام عند توديعه لأبي ذر عندما أمر عثمان بنفيه الى الربذة، قال: “يا عمّاه لو لا أنّه ينبغي للمودّع أن يسكت وللمشيّع أن ينصرف لقصر الكلام وإن طال الأسف، وقد أتى القوم إليك فضع عنك الدنيا بتذكّر فراغها وشدّة ما اشتدّ منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيّك ويحكم الله بينك وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين”.
وفي أيام الثورة على عثمان طلب أمير المؤمنين علي عليه السلام من ولديه الحسن والحسين عليهما السلام بحراسة دار عثمان خوفاً من انقضاض الثائرين عليه، وقد جاء في رواية ابن كثير أنّ الحسن بن علي قد أ ُصيب ببعض الجروح وهو يدافع عنه.
ويبدأ فصل جديد من حياة الإمام الحسن عليه السلام بعد تولّي أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة، وخلال هذه الفترة التي امتدت خمس سنوات لازم فيها والده في حروبه جميعها، في الجمل والنهروان وصفين، وكان فيها قائداً للجيوش يخوض عباب الحرب وينازل الأقران ويقارع الأبطال ويجالد الانحراف بسيفه مضحياً بنفسه في سبيل استقامة دين جدّه صلّى الله عليه وآله وسلم.
فقد دخل الكوفة مع مجموعة من أصحاب أبيه عندما توجّه الى البصره، وخطب فيهم يستنفرهم للقتال، فمنع أبو موسى الأشعري وكان والياً على الكوفة الناس من الذهاب إلى نصرة علي (ع)، فالتفت إليه الحسن عليه السلام وقال له: “اعتزل عملنا لا أمّ لك، وتَنَحَّ عن منبرنا” [2]. وكان علي عليه السلام قد أعطى الراية لولده الحسن عليه السلام في كتيبته الخضراء التي جمعت وجوه المهاجرين والأنصار، فحمل بها على أنصار الجمل حتى زعزع صفوفهم.
ولمّا رأى أمير المؤمنين عليه السلام شجاعة الحسن عليه السلام وبسالته في ميدان القتال وهو لا يبالي بالموت، صاح بمن حوله: “املكوا عنّي هذا الغلام لا يهدني، فإنّي أنفس بهذين – أي الحسن والحسين عليهما السلام – على الموت لئلاّ ينقطع بموتهما نسل رسول الله” [3].
ومن خطبة له أيضاً يستنفر فيها أهل الكوفة لمقاتلة أعدائهم من أهل الشام: “ونحن إنّما غضبنا لله ولكم، إنّه لم يجتمع قوم قطّ على أمرٍ واحد إلاّ اشتدّ أمرهم، واستحكمت عقدتهم، فاحتشدوا في قتال عدوّكم معاوية وجنوده ولا تتخاذلوا فإنّ الخذلان يقطع نياط القلوب، وانّ الإقدام على الأسنّة نخوة وعصمة، لم يمتنع قوم قطّ إلاّ رفع الله عنهم العلّة وكفاهم حوائج الذلّة وهداهم إلى معالم الملّة” [4].
وهكذا بقي الحسن عليه السلام الى جنب والده الى آخر لحظة من حياته الكريمة حينما انبعث أشقاها في صبيحة 19 من شهر رمضان سنة 40 هـ فضرب أمير المؤمنين عليه السلام على رأسه وهو يصلـّي الفجر في محرابه، فنقل إلى داره وبقي ثلاثاً، أوصى خلالها إلى الحسن عليه السلام بالإمامة وورّثه مواريث النبوّة، فاجتمع عليه جماعة من بقي من المهاجرين والأنصار وأهل الكوفة وبايعوه بالخلافة.
وجاء في رواية الكليني أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أوصى إلى ولده الحسن عليه السلام وأشهد على وصيّته الحسين عليه السلام ومحمد بن الحنفيّة وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ودفع إليه الكتب والسلاح وقال له: “يا بُني أمرني جدّك رسول الله (ص) أن أ ُوصي إليك وأن أدفع إليك كُتبي وسلاحي، كما أوصى إليّ رسول الله (ص) ودفع إليَّ كتبه وسلاحه، وآمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين عليه السلام…” الحديث [5].
[1] انظر المجلد الخامس من تاريخ الأمم والملوك ص 57، والمجلد الأول من الفتوحات الاسلامية ص 175.
[2] سيرة الأئمة الإثنا عشر 1: 493.
[3] سيرة الأئمة الإثنا عشر 1: 495.
[4] سيرة الأئمة الإثنا عشر 1: 495.
[5] الكافي 1: 297 / 1.
خلافة الإمام الحسن عليه السلام
وبعد أن قتل الحسن عليه السلام قاتل أبيه بضربة واحدة كما أمره أبوه عليه السلام, اجتمع عليه الناس في المسجد، فقام خطيباً فيهم، قال فيها بعد الحمد والثناء لله جل جلاله مؤبّنا ً والده الكريم ومعرّفاً للناس نفسه:
“لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل، لقد كان يجاهد مع رسول الله فيقيه بنفسه، وأينما وجـّهه رسول الله كان جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد توفّي في الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم إلى السماء وقُبض فيها يوشع بن نون وصيّ موسى، وما خلّف خضراء ولا بيضاء سوى سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن يبتاع فيها خادماً لأهله، وقد أمرني أن أردّها إلى بيت المال.
ثم بكى وبكى الناس من حوله حتى ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب، وعاد إلى حديثه بعد أن أَنصَتَ الناس، قال:
أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبيّ والوصيّ، وأنا ابن البشير النذير والداعي إلى الله بأذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وافترض مودّتهم على كل مسلم فقال في كتابه: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا }، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت” [1].
وبعد انتهاء الخطبة قام عبد الله بن عباس وطلب من المسلمين البيعة للإمام الحسن عليه السلام قائلاً: “معاشر الناس هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم فبايعوه” فاجتمع عليه المسلمون وبايعوه، وكان أول مَن بايعه قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري قائلاً: ابسط يدك أ ُبايعك على كتاب الله وسنّة نبيّه وقتال المحلّين.
فقال له الإمام الحسن عليه السلام: “إنّ البيعة على كتاب الله وسنـّة نبيّه تغني عن هذا الشرط؛ لأنّ فيهما تبيان كل شيء، وهما يأمران بقتال المحلـّين والباغين والمفسدين كما يأمران بالصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الفرائض” [2].
وبعد أن رأى معاوية استتباب الأمر للحسن عليه السلام أرسل رجلين أحدهما إلى الكوفة والآخر إلى البصرة لتخريب الأمر على الحسن عليه السلام وإثارة الفتن والنزاعات، فا ُخذا وقتلا، وأرسل الإمام الحسن عليه السلام الرسالة التالية الى معاوية:
“أمّا بعد فإنّك دسست إليّ الرجال كأنّك تحبّ اللقاء لا أشكّ في ذلك فتوقّعه إن شاء الله…”.
وقد سار الإمام الحسن عليه السلام على نهج أبيه عليه السلام في إقامة العدل والقسط والمساواة في العطاء بين المسلمين وأقرّ ولاة أبيه على ولاياتهم وحثّ الناس في خطبه المتكررّة على التمسّك بالتقوى ووحدة الصف والتأهب لقتال عدوّهم.
وقد بادر الإمام الحسن عليه السلام إلى تبادل الرسائل مع معاوية إعذاراً له وإتماماً للحجّة قبل إعلانه الحرب عليه، منها الرسالة التالية التي سلّطت الاضواء على مجريات الأحداث السياسية بعد وفاة رسول الله (ص) إلى تولّيه الخلافة.
“من الحسن بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. سلام عليك.
فإنّي أحمد الله الذي لا إله غيره، أمّا بعد فإنّ الله جلّ جلاله بعث محمداً رحمة للعالمين ومنّة للمؤمنين وكافة الناس أجمعين لينذر من كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين، فبلّغ رسالات الله، وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصّر ولا وان، وبعد أن أظهر الله به الحقّ، ومحق به الشرك, وخصّ قريشاً به خاصة فقال له:{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }، فلمّا توفـّي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأ ُسرته وأولياؤه ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقّه، فرأت العرب أنّ القول ما قالت قريش، وأنّ الحجة لهم في ذلك على مَن نازعهم أمر محمد، فأنعمت لهم وسلّمت إليهم. ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، انّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلمّا صرنا آل بيت محمد واولياءه إلى محاجّتهم وطلب النصف منهم باعدونا واستولوا على الخلافة بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد الله وهو الوليّ النصير.
لقد كنّا تعجبنا لتوثّب المتوثبين علينا في حقّنا وسلطان نبيّنا وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده، واليوم فليتعجب المتعجّب من توثبك يا معاوية على أمرٍ لست من أهله، لا بفضل في الدين ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب وابن أعدى قريش لرسول الله (ص) ولكتابه الكريم، والله حسيبك فستردّ وتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لتلقين عن قليل ربّك، ثم ليجزينّك بما قدّمت يداك، وما الله بظلّامٍ للعبيد.
إنّ علياً لمّا مضى لسبيله، رحمة الله عليه يوم قبض ويوم مَنّ الله عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّاً ولانـّي المسلمون الأمر من بعده، فاسأل الله أن لا يؤتينا في هذه الدنيا الزائلة شيئاً ينقصناه في الآخرة بما عنده من كرامة، وإنّما حملني على الكتابة إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عزّوجلّ في أمرك، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنّك تعلم انّي أحقّ بهذا الأمر منك عند الله وعند كلّ أوّاب حفيظ ومَن له قلب منيب، واتق الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منك ليطفئ الله النائرة ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيّك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين” [3].
وأجابه معاوية على الرسالة يعرض عليه التنازل عن الخلافة مقابل أموال طائلة وأن يكون له الأمر من بعده. ثم جيّش الجيوش وسار نحو العراق.
[1] سيرة الأئمة الإثنا عشر 1: 500 – 502.
[2] سيرة الأئمة الإثنا عشر 1: 500 – 502.
[3] سيرة الأئمة الإثنا عشر 1: 505 – 506.
صلح الحسن عليه السلام
لقد خاض أمير المؤمنين عليه السلام في مدّة خلافته القصيرة ثلاث حروب دفاعيّة، ولم يتركه الأعداء أن يستقرّ قليلا ً للإصلاح الاجتماعي والسياسي والفكري الذي كان يضرب باطنابه في مجتمع المسلمين، إلى أن ذهب إلى ربّه مظلوماً شهيداً.
ولم يترك الأعداء الإمام الحسن عليه السلام أيضاً أن يجرّ أنفاسه ويعيد ترتيب الوضع الاجتماعي الذي مزّقته الحروب الثلاثة في خلافة والده. فما أن بُويع الحسن عليه السلام بالخلافة حتى استنفر معاوية أهل الشام وسار بهم نحو العراق، ولم يكن أمام الحسن عليه السلام في مثل هذه الحالة سوى الدفاع.
فبدأ باستنفار أهل الكوفة واستنهاضهم لجهاد عدوّهم فلم يستجب له إلاّ عدد قليل من أهل الكوفة متفرقة الأهواء مختلفة الأهداف، بقول الشيخ المفيد: (وسار معاوية نحو العراق ليغلب عليه، فلمّا بلغ جسر منبج [1] تحرّك الحسن عليه السلام وبعث حجر بن عديّ فأمر العمّال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه، ثمّ خفّ معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما السلام، وبعضهم مُحَكِّمة [2] يؤثرون قتال معاوية بلاّ حيلة، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكّاك، وبعضهم أصحاب عصبيّة اتّبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين) [3] .
وكانت استراتيجية الخوارج هي الانخراط في صفوف جيش الإمام الحسن عليه السلام ومقاتلة جيش معاوية، فإن تمّت الغلبة لأهل الكوفة على أهل الشام انقلبوا على الإمام الحسن عليه السلام وخلعوا طاعته وأطاحوا بحكومته بعد أن تكون الحرب قد انهكت قوى جيشه؛ لأنّهم غير قادرين على مواجهة الإمام الحسن (ع) ومعاوية كلٍّ على حِدة، وكانت أعدادهم كبيرة في الكوفة، فقد اجتمع منهم إثنا عشر ألفاً في النهروان، انسحب منهم ثمانية آلاف قبل بدء القتال بعد أن رأوا
الرجحان في كفّة جيش أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أخذوا يتحينون الفرص لأخذ ثأر أخوانهم في النهروان.
وقد كان الإمام الحسن عليه السلام مطلّعاً على نواياهم، عارفاً بأهدافهم، قد اتّخذ الحيطة والحذر في التعامل معهم، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك في بعض خطبه: “أمّا والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيب السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنّا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا. ثم أصبحتم تصدّون قتيلين: قتيلاً بصفّين تبكون عليهم وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر) [4] .
وأمّا الفئة الطامعة فقد استمالهم معاوية بالأموال الطائلة والاغراءات فانحازت إليه، فالتحق قسم منهم بجيش الشام، وبقي قسم آخر في جيش الإمام الحسن عليه السلام يُخذِّل الآخرين ويثير الشكوك وينشر الدعايات التي تستهدف تضعيف معنويات المقاتلين أو محاولة القبض على الإمام الحسن عليه السلام وأهل بيته وتسليمهم إلى معاوية أو محاولة اغتياله.
وقد تعرّض الإمام الحسن عليه السلام إلى محاولة اغتيال فاشلة، وكانوا يتربصون به لقتله، فقد روى الصدوق في “علل الشرائع” أنّ معاوية دسّ إلى عمر بن حريث والأشعث وإلى حجر بن الحارث وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه، أنّك إن قتلت الحسن بن عليّ فلك مائتا ألف درهم وجند من أجناد الشام وبنت من بناتي. فبلغ الحسن عليه السلام فاستلأم ولبس درعاً وكفّرها، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة بهم إلاّ كذلك. فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه؛ لما عليه من اللأمة، فلمّا صار في مظلم ساباط ضربه أحدهم بخنجر مسموم، فعمل فيه الخنجر… فقال الحسن عليه السلام: “ويلكم والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظنّ أنّي إن وصفت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين لدين جدّي(ص) وأنّي أقدر ان أعبد الله عزّوجلّ وحدي، ولكنّي كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم، يستسقونهم ويستطعمونهم، لما جعله الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون، فبعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون” [5].
ولا يشك أحد في أنّ الإمام الحسن عليه السلام أفضل من معاوية, وأنّه أولى بالخلافة منه وأجدر بتطبيق الشريعة الإسلامية، وأنّ معاوية رجل يحبّ السلطة ويعشق كرسيّ الحكم ولا يبالي ما فعل في سبيل البقاء في السلطة، ولا يهمه مصلحة المسلمين، وانّه من مسلمي الفتح الذين
أسلموا رهبة من سطوة السيف، وهو ابن رأس الكفر أبي سفيان الذي جيّش الجيوش على رسول الله (ص) المرّة تلو الأخرى إلى أن أُرغم أنفه بالدخول في الإسلام كارهاً.
كما لا يشك أحد في شرعيّة الموقف الذي اتّخذه الإمام الحسن عليه السلام في الصلح مع معاوية، سواء عند الشيعة الذين يروونه إماماً مفترض الطاعة، ومعصوماً مسدّداً من الله تعالى لا يزل ولا يخطأ، أو عند السنّة الذين رووا فيه عن النبيّ (ص)، “إنّ ابني هذا سيّد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين” [6].
ولكن وقع الكلام عند البعض في أنّ هذا الموقف قد أدّى إلى إذلال المؤمنين وعلوّ شوكة المنافقين، أو أنّ الأولى والأجدر كان مقاومة جيش معاوية بما بقي معه من الصابرين إلى أن يلقوا حتفهم. فعن سعيد بن عقيصا قال: لمّا صالح الحسن عليه السلام معاوية دخل عليه الناس، فلامه بعضهم على بيعته، فقال الحسن عليه السلام: “ويحكم ماتدرون ما عملت، والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أوغربت، ألا تعلمون أنّي إمامكم ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيّدي شباب أهل الجنة بنصّ من رسول الله (ص) عليَّ؟” قالوا: بلى. قال: “أما علمتم أنّ الخضر لمّا خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران عليه السلام إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان عند الله تعالى ذكره حكمة وصواباً؟! أما علمتم أنّه ما منّا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلّي خلفه روح الله عيسى بن مريم عليه السلام؟!” [7] .
وعن عبد الرحمن بن عبيد قال: لما بايع الحسن عليه السلام معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية، فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلهم يأخذ العطاء… إلى آخر كلامه الطويل.
فقال الحسن عليه السلام: أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا فلو كنتُ بالحزم في أمر الدنيا أعمل، لسلطانها أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً ولا أشدّ شكيمة ولا أمضى عزيمة، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلت إلاّ حقن الدماء فارضوا بقضاء الله وسلّموا لأمره، والزموا بيوتكم وأمسكوا – أوقال: كفـّوا أيديكم – حتى يستريح برٌّ أو يستراح من فاجر” [8].
فقد سلّط الإمام الحسن عليه السلام في الخبرين السابقين الأضواء على عدة أ ُمور:
الأول: أنّ سرّ الصلح مع معاوية قد خفي على الناس، ولم يشأ الإمام أن يوضحه.
الثاني: أن الصلح هو أمر من الله تعالى ويجب على الشيعة امتثاله وطاعته.
ثالثاً: أنّ خطّة الإمام الحسن عليه السلام في الصلح كانت تكمن في جرّ الأنفاس وكسب الوقت للاستراحة بعد أن أنهك أهل الكوفة القتال طيلة السنوات الخمس الماضية، والخمس والعشرين سنة التي سبقتها والتي قضوها بالفتوحات في عهد الثلاثة.
رابعاً: أنّ الصلح لا يعني ترك الأمر نهائياً بل هو انتظار واستعداد إلى حين موت معاوية، ثم يرجع الأمر إلى ما كان عليه من المقاومة والمنازعة، فإنّ الإمام الحسن عليه السلام كان يعلم بأنّ في نـّية معاوية استخلاف ابنه يزيد المتجاهر بالفسق وشرب الخمور، وحينئذ سيثير هذا الأمر حفيظة الكثير من المسلمين الذين لا يشكّون في عدم لياقة يزيد للخلافة إلى التمرّد عليه وعصيانه وبالتالي توفّر أجواء الثورة للانقضاض على الحكم السفياني وتقويضه.
ولعلّ سر الصلح الذي لم يشأ الإمام الحسن عليه السلام الإفصاح عنه يكمن في ملحمة عاشوراء، فلو لا هذا الصلح لم يكن هناك عاشوراء وكربلاء الذي يعني انقراض الإسلام الواقعي وهو التشيّع لآل محمد صلوات الله عليهم، وإذا انقرض التشيّع فلا معنى حينئذ لظهور قائم آل محمد عليه السلام ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً، فإنّه لا ظهور لهذا المصلح الإلهي لهذا العالم الذي مُلِيَْ فساداً وظلماً فلو لا الحسين وعاشوراء فلا مهدي ولا ظهور يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
ومن هنا يمكن أن ندرك قول الامام الباقر عليه السلام: ” والله الذي صنعه الحسن بن علي عليه السلام كان خيراً لهذه الأ ُمة ممّا طلعت عليه الشمس، ووالله لقد نزلت هذه الآية { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } إنّما هي طاعة الإمام، ولكنّهم طلبوا القتال { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } مع الحسين عليه السلام {قالوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ }، { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } أرادوا تأخير ذلك إلى القائم عليه السلام” [9] .
[1] منيج: بلد بالشام.
[2] المُحَكِّمَه: الخوارج (انظر الملل والنحل 1: 106).
[3] الإرشاد 2: 10.
[4] بحار الأنوار 44: 21 / 5.
[5] بحار الأنوار 44: 23 / 1.
[6] مسند احمد بن حنبل 5: 37، 51، مجمع الزوائد 9: 175، كنز العمال 13: 667.
[7] بحار الأنوار 44: 19 / 3.
[8] بحار الأنوار 44: 29 – 30.
[9] بحار الأنوار 44: 25 / 9.
معاهدة الصلح
وأرسل معاوية ورقة بيضاء وختم فيها بخاتمه ليكتب فيها ما يرى من شروط، فكتب الحسن عليه السلام:
“بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان: صالحه على أن يسلّم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسوله (ص) وسيرة الخلفاء الصالحين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحدٍ من بعده عهداً بل يكون
الأمر من بعده شورى بين المسلمين، وعلى أنّ الناس آمنون حيث كانوا في أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وعلى أنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم… الخ” [1].
ولمّا تمّ الصلح وأ ُبرم، طلب معاوية من الحسن عليه السلام أن يعلن أمام الناس تسليم الأمر إليه، فقام الحسن (ع) وقال في خطبة منها: “وقد علمتم أنّ الله هداكم بجدّي محمد، ورفعكم به من الجهالة، وأعزّكم بعد الذلّة، وكثّركم بعد القلّة، وإنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأ ُمّة وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا مَن سالمت وتحاربوا من حاربت، فرأيت أن أ ُسالم معاوية وأضع الحرب بيني وبينه، وقد بايعته، ورأيت أنّ حقن الدماء خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلاّ صلاحكم وبقاءكم، وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين” [2].
وخطب معاوية الناس في يوم الجمعة في النخيلة خطبة قال فيها: “إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون” [3].
وهكذا صالح الحسن عليه السلام بعد ستة أشهر من المواجهة العسكرية مع جيش الشام، وتفرّق صفوف جيش الكوفة واستجابتهم لإغراءات معاوية وخذلانهم للحسن عليه السلام وهجموا عليه وجرحوه وانتهبوا متاعه فاضطرّ إلى مصالحة معاوية أو أن يقتل مع أهل بيته وشيعته المخلصين في معركة غير متكافئة وسيلقي عليها التأريخ ظلاله القائمة فتنطمس الحقائق وتضيع آثار الدماء الزاكيات لأهل البيت عليهم السلام.
[1] بحار الأنوار 44: 65 / 13.
[2] بحار الأنوار 44: 65 – 66.
[3] بحار الأنوار 44: 53.
حياته الاجتماعية
أنجب الإمام الحسن عليه السلام خمسة عشر ولداً، سبعة منهم من ثلاث نساء، هنّ: أم بشير بنت أبي مسعود بن عقبة الخزرجية، وخولة بنت منظور الفزارية، وأمّ اسحاق بنت طلحة بن عبيد الله التميمي. والباقي من أ ُمهات أولاد ثلاث أو أربع.
وأما ما اشتهر على الألسن من أنّ الحسن عليه السلام قد تزوج نساء كثيرة قد وصل عددها إلى ثلاثمائة، وأنّه مزواج مطلاق، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد حذّر الناس من على منبر الكوفة من تزويجة فهي دعايات أ ُموية غرضها الحطّ من شخصية الإمام الحسن عليه السلام وإظهاره بمظهر الرجل الشهواني الذي لا يهمّه من أمر الدين والأ ُمّة إلاّ التلذّذ بالنساء، وقد اتسعت هذه الدعايات في العصور اللاحقة كسياسة تبريرية لما كان يمارسه خلفاء السوء من تجميع النساء بأعداد غفيره للشهوات البهيمية.
وهذه الدعايات لا تصمد أمام النقاش العلمي للأسباب التالية:
انّ أصل القصّة – الزواج بثلاثمائة – قد نقلها أبو طالب المكي في كتابه “قوت القلوب” ثم أخذها الآخرون منه، وهو رجل صوفي من أهل السنـّة.
انّ الحسن عليه السلام لم يرزق إلاّ خمسة عشراً ولداً طيلة حياته التي استمرت خمسين عاماً تقريباً، ولو كان قد تزوج بمثل هذا أو نصفه أو ربعه أو عشره لكان قد أنجب من الأولاد بالمئات.
3-إن التاريخ لم يحتفظ لنا إلاّ باسماء هذه النساء الثلاثة فقط، ولو كان الحسن عليه السلام مطلاقا ً وأنّه طلّق أكثر من سبعين امرأة لذكر ذلك، لأنّه محلّ افتخار وتباه عند المسلمين أن يتزوّج منهم الحسن سبط رسول الله (ص).
4-انّ الأخبار قد تضاربت في عدد النساء التي تزوجها أو طلّقها الحسن عليه السلام، ولو كانت حقّاً لما اختلفت هذا الاختلاف الشديد. “وأولاده الذكور هم: زيد، والحسن، وعمرو، والقاسم، وعبد الله، وعبد الرحمن، والحسين، وطلحة” [1] وذهب ابن شهر اشوب في المناقب إلى أن أولاده أربعة عشر منهم عشر ذكرا ً [2].
[1] انظر بحار الأنار 44: 163/ 1 نقلاًعن الشيخ المفيد في الارشاد.
[2] انظر بحار الأنوار 44: 168/ 4.
أخلاقه عليه السلام
لابدّ أن يتصف الإمام المعصوم في عقيدتنا بكل فضيلة وينقطع عن كل رذيلة، فالإمام مجمع صفات الكمال وإليه تنتهي مكارم الأخلاق، لكن مع ذلك فقد أشتهر كل إمام بصفات معيّنة كان له فيها الصدارة على غيره من الناس.
ومن تلك الصفات الأخلاقية التي اشتهر فيها الإمام الحسن عليه السلام هي الهيبة والشرف وجلالة القدر، فقد روي أنّه كان يُبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فلا يمرّ أحد من الناس إجلالاً له، فإذا علم دخل بيته فمرّ الناس. ولقد كان يمشي في طريق مكّة فما يراه أحد من خلق الله ماشياً إلاّ نزل ومشى حتى كان سعد بن أبي وقاص ينزل من راحلته ويمشي خلفه [1]4.
وفي المناقب: قيل للحسن بن علي عليهما السلام: إنّ فيك عظمة, قال: “بل فيَّ عزّة، قال الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }. وقال واصل بن عطاء: كان الحسن بن علي عليهما السلام عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك [2]5.
واشتهر الإمام الحسن عليه السلام أيضاً بالكرم والسخاء، فقد روي أنّ رجلاً سأله فأعطاه خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وقال له: ائت بحمّال يحمل لك: فأتى بحمّال فأعطى طيلسانه وقال: هذا كرى الحمّال [3].
وروى ابن شهر آشوب في المناقب عن البخاري أنّ الحسن عليه السلام وهب مرجل ديته، وسأله رجل شيئاً فأمر له باربعمائة درهم [4].
وقال أنس: حيّت جارية الحسن عليه السلام بطاقة ريحان، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله. فقلت له في ذلك: أدّبنا الله تعالى فقال: { وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } وكان أحسن منها إعتاقها [5].
وأشتهر الإمام الحسن عليه السلام أيضاً بالتواضع وحبّ الفقراء والمساكين، فقد روي أنّه مرّ على فقراء وقد وضعوا كسيرات على الأرض وهم قعود يلتقطونها ويأكلونها، فقالوا: هلمّ يا ابن بنت رسول الله إلى الغداء. فنزل وتلا قوله تعالى: { إن الله لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }. وجعل ياكل معهم حتى اكتفوا والزاد على حاله ببركته عليه السلام، ثم دعا لهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم [6].
[1] بحار الأنوار 44: 338 / 11.
[2] بحار الأنوار 44: 338 / 12.
[3] بحار الأنوار 43: 341 / 14.
[4] بحار الأنوار 43: 342 / 14.
[5] بحار الأنوار 43: 342 / 15.
[6] بحار الأنوار 43: 352 / 28.
عبادته عليه السلام
كان الإمام الحسن عليه السلام مع أخيه الإمام الحسين عليه السلام أعبد الناس في زمانهما، لأنّهما المصداق الأمثل للغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الانسان: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ }. وقد روي في عبادته الشيء الكثير، فقد كان عليه السلام مستغرقاً في الله تعالى طول وقته وعلى امتداد عمره الشريف، نقتصر على ذكر بعض الأمثلة.
فقد روي أنّ الحسن عليه السلام كان إذا توضأ أرتعدت مفاصله، واصفـّر لونه. فقيل له في ذلك فقال: حقّ على كل من وقف بين يدي ربّ العرش أن يصفر لونه وترتعد مفاصله[1].
وكان إذا فرغ من الفجر لم يتكلّم حتى تطلع الشمس وإن زَحزح [2]. وقال الصادق عليه السلام: “إنّ الحسن بن علي عليهما السلام حجَّ خمسة وعشرين حجّة ماشياً وقاسم الله تعالى ماله مرتين [3].
وقال الصادق عليه السلام: “حدّثني أبي، عن أبيه عليهما السلام: أنّ الحسن بن علي عليهما السلام كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم وأفضلهم، وكان إذا حجّ حجَّ ماشياً، وربما مشى حافياً، وكان إذا ذُكر الموت بكى وإذا ذكر القبر بكى، وإذا ذكر البعث والنشور بكى، وإذا ذكر الممرّ على الصراط بكى، وإذا ذكر العرض على الله تعالى شهق شهقة يغشى عليه منها، وكان إذا قام في صلاته ترتعد فرائصه بين يدي ربّه عزّوجلّ، وكان إذا ذكر الجنّة والنار اضطرب اضطراب السليم وسأل الله الجنّة وتعوّذ من النار” [4].
[1] بحار الأنوار 43: 339 / 13.
[2] بحار الأنوار34: 339/13.
[3] بحار الأنوار 43: 339 /13.
[4] بحار الأنوار 43: 331 / 1.
2024-03-21