الرئيسية / شخصيات اسلامية / يا فاطمة اشفعي لي في الجنة فإن لك عند الله شأناً من الشأن

يا فاطمة اشفعي لي في الجنة فإن لك عند الله شأناً من الشأن

أسباب انتشار السادة الموسويين

ويمكن إرجاع الأسباب التي أدّت إلى انتشار السادة الموسويين في أطراف الأرض إلى عاملين رئيسين:

الأول: إن الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) كان أكثر الأئمة أولاداً، فقد ذكر بعض علماء الأنساب أنه (عليه السلام) قد أنجب ستين ولداً بين ذكر وأنثى(1)، واتفقوا على أن عشرة من أولاده الذكور قد أعقبوا، وقيل إن الإمام موسى (عليه السلام) أعقب من ثلاثة عشر رجلاً، أربعة منهم مكثرون، وهم: علي الرضا (عليه السلام)، وإبراهيم المرتضى، ومحمد العابد، وجعفر وأربعة منهم متوسطون، وهم: زيد النار، وعبد الله، وعبيد الله، وحمزة، وخمسة مقلّون، وهم: العباس، وهارون، وإسحاق، والحسين، والحسن(2). وذكر آخرون غير هؤلاء ممن أعقب من أولاده (عليهم السلام).

ولعلّ الغاية من وراء الإكثار من النسل عند أهل البيت (عليهم السلام) ـ عدا رجحانه في نفسه ـ هي الحفاظ على استمرار بقاء هذا الوجود الطيّب لذريّة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وخصوصاً مع العلم بما انطوت عليه نوايا خصومهم من السعي في القضاء عليهم والتخلّص منهم على ما سيقف عليه القارئ العزيز.

هذا، وذكر الشيخ المفيد في الإرشاد أن لكل واحد من ولد أبي الحسن موسى (عليه السلام) فضلاً ومنقبة مشهورة(3)، ومثله ذكر الطبرسي في إعلام الورى.(4)

وقد ذكروا في بعض أحوال أولاد الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنّهم كانوا من أهل العلم والحديث والفضل والصلاح، فإنّ إسماعيل بن موسى هو الذي ولاّه أبوه على الوقف، وروي أن الإمام الجواد (عليه السلام) أمره بالصّلاة على جنازة صفوان، وله كتب كثيرة يرويها عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)(5)، وأن محمد بن موسى كان صاحب وضوء وصلاة، وكان ليلة كلّه يتوضأ ويصلّي، فيسمع سكب الماء، ثم يصلّي ليلاً ثم يهدي ساعة، فيرقد ويقوم فيسمع سكب الماء والوضوء، ثم يصلّي ليلاً، فلا يزال كذلك حتى يصبح. وقال بعضهم: وما رأيته قطّ إلا وذكرت قول الله تعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)(6).

وغيرهما ممن وصف بالفضل والصلاح والشجاعة.

وقد تنقّل أبناء الإمام (عليه السلام) في مختلف البقاع، فقطن بعضهم في مصر، وبعضهم في العراق، وآخرون في إيران، ومنهم انتشرت ذريّة موسى بن جعفر (عليهما السلام)، ولا زالت هذه الشجرة الطيبة تؤتي أكلها بإذن ربّها، فقد ضمّت هذه السلالة الشريفة على مر تاريخها المعطاء الأفذاذ من الرجال الذين صنعوا التاريخ، وكانوا غرراً في جبين الدهر يفتخر بهم الزمان، ونبغ منها رجال حملوا العلم والمعرفة والأخلاق والسيادة، وقد حفلت بذكرهم كتب الرجال والتراجم.

الثاني: ـ وهو الأهم ـ الظروف العصيبة التي أحاطت بالإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فإنه بعد أن استقرّ الحكم العباسي وتربّع المنصور الدوانيقي على دست الحكم بدأ المسلسل الدرامي في ضراوة بلغت حدّاً عاش فيه أهل البيت (عليهم السلام) الرّعب بأبشع صوره، وشمّر المنصور عن ساعديه لإبادة بني عمّه بشتى الأشكال، ووصفه الباحثون بأنه تتبعهم وراء كل حجر ومدر، حتى إذا استشهد الإمام الصادق (عليه السلام) مسموماً بإيعاز من المنصور اضطرب أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم اضطراباً شديداً، كما يحدّثنا بذلك من أرّخ تلك الفترة، حتى كادت معالم التشييع أن تنطمس لولا ظهور الإمام موسى (عليه السلام) في الوقت المناسب مع حراجة الظروف وخطورتها.

ويصوّر لنا الشيخ القرشي تلك الظروف في عرضه الرواية التي تضمّنت كيفية رجوع الشيعة إلى الإمام (عليه السلام)، فيقول: وحدّث هشام بن سالم أحد عيون الشيعة ووجوهها عن كيفية رجوعه ورجوع إخوانه إلى الإمام بعد وفاة أبيه، يقولك كنت بالمدينة مع محمد بن النعمان صاحب الطاق حين وفاة الإمام أبي عبد الله، وقد اجتمع الناس على عبد الله بن جعفر ظانّين أنّه صاحب الأمر والقائم بعد أبيه، فدخلت عليه مع أصحابي، ولمّا استقرّ بنا المجلس، وجّهنا له السؤال الآتي: كم تجب الزّكاة في المائتين من الدّراهم؟

ـ خمسة دراهم.

ـ ففي المائة؟

ـ درهمان ونصف.

وتعجّبوا من هذه الفتوى التي لا تمتّ إلى الشريعة الإسلامية بصلة، فإن النصاب الأول في نصاب الدراهم مائتان، وما نقص عنها فليس عليه شيء، وطفق هشام يقول مستهزئً بهذه الفتوى التي لا مدرك لها:

والله ما تقول المرجئة هذا!!

والله ما أدري ما تقول المرجئة؟

وخرج هشام ومحمد من عنده وهما لا يبصران الطريق من الألم والحزن لعدم ظفرهما بالإمام القائم بعد أبي عبد الله، وجعل هشام يقول:

إلى المرجئة، إلى القدريّة، إلى المعتزلة، إلى الزيديّة، إلى الخوارج؟

وبينما كان هشام ومحمد هائمين في تيّار من الهواجس والأفكار لا يعلمان أي مبدأ يعتنقانه إذ أطلّ عليهما شيخ، فأومأ إلى هشام يشير إليه باتّباعه، فتوهّم هشام أنّه من عيون المنصور وجواسيسه قد فهم حديثهما، فالتفت إلى صاحبه وقد استولى عليه الذعر والارتباك وأمره بالبعد عنه ليكون وحده الذي ينال العقوبة والجزاء، فتبع الشيخ حتى أورده على الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فلمّا دخل سكن روعه، فلمّا استقرّ به المجلس التفت إليه الإمام قائلاً بنبرات تفيض لطفاً وحناناً: إليّ لا إلى المرجئة، ولا إلى القدريّة، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الزيديّة.. ففرح هشام لأنّه ظفر ببغيته حيث أخبره الإمام بما انطوت عليه نفسه، وتلك من أمارة الإمامة وعلائمها، ووجه له هشام السؤال الآتي:

ـ جعلت فداك مضى أبوك؟

ـ نعم.

ـ مضى موتاً؟

ـ نعم.

ـ من لنا بعده؟

ـ إن شاء الله أن يهديك هداك.

ـ جعلت فداك إن عبد الله أخاك يزعم أنّه الإمام بعد أبيه.

ـ عبد الله يريد أن لا يعبد الله.

ـ من لنا بعده؟

فأجابه مثل جوابه الأول وطفق هشام يقول:

ـ أفأنت هو؟

ـ لا أقول ذلك.

وأخطأ هشام في حديثه، والتفت إلى خطله فقال:

ـ عليك إمام؟

ـ لا.

فداخله من الإكبار والإجلال ما لا يعلم به إلا الله، ثم قال له:

ـ جعلت فداك، أسألك عمّا كنت أسأل به أباك؟

ـ سل ولا تذع، فإن أذعت فهو الذّبح.

ثم وجّه إليه أسئلة كثيرة، فإذا به بحر لا ينزف لكثرة علمه وفضله، وانبرى بعد معرفته ووثوقه بإمامته قائلاً:

ـ جعلت فداك شيعة أبيك في ضلال، فألقي إليهم هذا الأمر وأدعوهم إليك فقد أخذت علي الكتمان؟

ـ من أنست به رشداً فألق إليه وخذ عليه الكتمان، فإن أذاع فهو الذبح ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ.

ثم خرج وهو ناعم الفكر مسرور القلب بما ظفر به، فبادر إليه صاحبه قائلاً:

ـ ما وراءك؟

ـ الهدى.

ثم حدثه بالأمر.. وأقبلت جماهير الشيعة تترى أفواجاً نحو الإمام وهي تعقد له الولاء والطاعة وتعترف بإمامته.

وتلا المنصور ابنه المهدي على دست الحكم، وقد ذكر الباحثون أنه ورث من أبيه المنصور العداء للعلويين وشيعتهم، فقد أترعت نفسه بالبغضاء والكراهية لهم، وكان يغري الشعراء ويغدق عليهم من أجل هجاء أهل البيت (عليهم السلام)، والحط من شأنهم، والتقليل من أهميتهم، وذكروا عنه أنه أرعب الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) حيث أمر باعتقاله وإرساله من المدينة إلى بغداد، وكاد أن يقتله لولا أن العناية الإلهية حفظت الإمام (عليه السلام) من بطشه.

حتى إذا جاء عهد موسى الهادي ابتدأت سلسلة أخرى من المآسي، لقي منها أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم الأمرّين، وعلى الرغم من أن عهده كان قصيراً كعمره، إلا أنه كان ثقيلاً مجهداً واجه فيه أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم أعنف الرزايا وأكثرها محنة وصعوبة، فسفكت دماؤهم وانتهكت حرماتهم وهدرت كرامتهم، بما لا مجال لوصفه وبيانه.

وقد ذكر المؤرخون أن في يعهد موسى الهادي حدثت واقعة فخ التي ضارعت حادثة الطف في كيفيتها وأسماء أشخاصها، وبعض آثارها، وما جرى فيها.

وأمّا عهد الرشيد فكان أسوأ عهد مرّ على العلويين والشيعة، فقد قابلهم منذ بداية حكمه بكل قسوة وجفاء، وصبّ عليهم جام غضبه، وأقسم على استئصالهم وقتلهم، فقال: والله لأقتلنّهم ـ أي العلويين ـ ولأقتلنّ شيعتهم(7).

وأمعن الرشيد في التنكيل بالعلويين وشيعتهم، وذكرت المصادر أنه كان يتتبعهم بشتّى الوسائل، ويحتال لقتلهم بمختلف الطرق، وكان يرى أن بقاء ملكه وسلطانه لا يستقرّ إلا بإبادتهم.

لقد كان الرشيد شديد الوطأة على عترة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا على علم بمقته وبغضه لهم، فحينما علموا بخلافته هاموا على وجوههم في القرى والأرياف متنكّرين لئلا يعرفهم أحد، قد أحاط بهم الرعب والفزع، واستولى عليهم الخوف والإرهاب، وكان في طليعة من لقي العناء من أهل البيت (عليهم السلام) الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فرض الرشيد عليه رقابة صارمة، ترصد عليه تحرّكاته وسكناته، حتى ثقل عليه وضاق به ذرعاً، فغيّبه في سجون البصرة وبغداد، ينقل من سجن إلى آخر، وكان آخرها سجن السندي بن شاهك حيث قضى الإمام (عليه السلام) مسموماً(8).

وقد تمخّض عن ذلك تفرّق سلالة الإمام الكاظم (عليه السلام) وانتشارهم في مختلف البقاع، ولم يكن هذا الأمر خاصًّ بأولاد الإمام (عليه السلام)، بل كان عاماً لجميع العلويين وشيعتهم، نعم كان أبناؤه (عليه السلام) من أكثرهم محنة وأشدّهم ابتلاءً.

وكان من آثار ذلك أن ذهب بعضهم في طيّ النسيان، فلم يعرف له عقب أو مكان، إذ كان بعضهم يخفي نسبه خشية أن يفاجأ بما يودي بحياته، كما كان من نتائج ذلك أيضاً بروز ظاهرة التقيّة التي فرضت على أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم فرضاً لم يجدوا مناصاً عنها، طلباً للنجاة، وبحثاً عن الأمن والأمان.

وقد انعكست مسألة التقية على جميع مظاهر سلوكه في عباداتهم ومعاملاتهم، ونشأ من ذلك ما يمكن أن يعبّر عنه بالفقه الوقائي الذي يعني بهذه الحالة عند تحقق موضوعها كما بيّنها الفقهاء، واستندوا في ذلك إلى ما رسمته الأئمة (عليهم السلام) الذي عانوا من تلك الظروف القاسية التي مرّت بهم مستثنين منها بعض الموارد حيث تكون المواجهة هي الحلّ، وقد حدّدها الفقهاء وضبطوها في دراساتهم الفقهية.

على أن موضوع التقية لا ينحصر بالشيعة الإمامية وحدهم، بل هو أمر يعود إلى تأمين الحماية والوقاية من الوقوع في الخطر الذي يتهدّد الحياة. وبعبارة أخرى: إن مسألة التقية قضيّة فطرية تستوجب درء المخاوف عن النفس، وفق ضوابط محدّدة مدروسة، مع الاحتفاظ بالثوابت وصيانتها، وليست هي انسلاخاً عن المبدأ وإلغاءً للمعتقد، وهي عمليّة مؤقتة تعالج ظرفاً طارئاً ليعود الإنسان بعدها إلى طبيعته الأولى التي كان عليها في سلوكه.

ومن خلال ذلك يمكننا أن ندرك أنّ ما يقوم به خصوم الشيعة من الحملات والتشنيق عليهم في أمر التقيّة ما هو إلا استغلال لظروف الشيعة الصعبة والتشهير بمحنتهم، وإلا فلو أن هؤلاء عانوا بعض ما عاناه الشيعة لحملوا لواء التقية عالياً، وما يدرينا لعلّهم يتّقون في بعض أعمالهم من حيث لا نشعر بأنهم يتّقون.

1 – مناهل الضرب في أنساب العرب، ص393.

2 – مناهل الضرب في أنساب العرب، ص393.

3 – الإرشاد: ج2، ص246.

4 – إعلام الورى: ج2، ص37.

5 – معجم رجال الحديث: ج4، ص100-102.

6 – الإرشاد: ج2، ص245.

7 – حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص74.

8 – حياة الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام): ج2، ص485-520.

شاهد أيضاً

[ يا أَيُّها الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْبَطَلُ ] – قصيدةٌ من ديوان السّباعيّ الذّهبيّ في الشّعر العربيّ

[ يا أَيُّها الصَّدْرُ الشَّهِيدُ الْبَطَلُ ] – قصيدةٌ من ديوان السّباعيّ الذّهبيّ في الشّعر ...