الرئيسية / من / المرأة مع النبي صلى الله عليه وآله في حياته وشريعته 03

المرأة مع النبي صلى الله عليه وآله في حياته وشريعته 03

نِساءٌ في حياةِ النبي صلى الله عليه وآله

أتراه قد أهمل ذكرهن أو تجاهل وجودهن في حياته الماضية؟

كلا؛ فإن محمداً بن عبد الله لم يكن من النمط الذي ينسى من أحبوه، أو يتجاهل ذكر من لم يتجاهلوه.

وما أكثر ما كان يسرح مع أفكاره في ساعات عزلته، ويرجع بها إلى الوراء إلى أيام حداثته، وصباه الأول، من عهد أمه آمنة إلى مرضعته حليمة، إلى زوجة عمه الكريمة فاطمة بنت أسد، ويقف معهن عند كل لمحة حب، أو لفتة عطف، ويدعو لهن بالرحمة والغفران. وكان يرى حياته الماضية، وكأنها شريط يتتابع ويتلاحق أمام عينيه بكل ما يحمل هذا الشريط من إكرام وآمال ومحن، ومصاعب.

ثمّ يعود ليستقر بأفكاره عند واقعه الحالي، ويُركِّز على خديجة هذه السيدة الطاهرة التي يحس بها كقوة خفية تشد ظهره، وتسند كيانه، وكأنه كان يعلم أنها سوف تقف معه، إذ لا واقف غيرها، وتصدقه حين لا مصدق سواها. وتمضي السنون تتلاحق، والأحداث تتابع ومحمد بن عبد الله هو وخديجة بنت خويلد يشقان

{27}

طريقهما معاً في الحياة وقد ظللتهما سماء الحب وأحاطتهما يد الأخلاص والوفاء.

وكان صلوات الله عليه كثيراً ما يعتكف الساعات الطوال في غار حراء، يعتزل بها الدنيا بروحه وفكره، وجسده، ويروح يسبح في ملكوت السماوات.

وما أكثر ما كانت تستبطئه خديجة وتفتقد قدومه في وقته المعين، فتذهب بنفسها غير واثقة من أن تنيب عنها خادمه أو ترسل دونها رسولاً. تذهب لتفتش عنه في الأماكن التي تعلم أنه يزورها دائماً، وخصوصاً غار حراء.. فقد كان هو الخلوة المفضلة لدى رسول الله (ص).

وقد كانت خديجة تحمل له بيدها الطعام والماء، ولا تذهب إلاّ للإطمئنان على سلامته، فقد كانت تشجعه على هذا الاعتكاف لثقتها من أن وراء هذه الخلوات رسالة مقدسة سوف يحملها بعلها الغالي.

ولذلك فلم تكن تتبرم لغيابه أو تعتب عليه وكانت تشعر بروحها وهي تذهب معه أينما ذهب، فهي معتكفة معه في الغار، وهي سارحة واياه في البراري والقفار،

{28}

فإن فاتها أن تسايره جسمياً فإنها لم تكن لتفارقه روحياً، وفكرياً.

وكانت تتابع حركاته وسكناته بعينها الساهرة الحنون وهي رفيقة به عطوفة عليه..

وفي أحد الأيام يدخل على خديجة زوجها المصطفى بعد أن كان قد أمضى في غار حراء الساعات الطوال، فتنشط لاستقباله هاشّة باشَّة ولكنها تنكر منه حاله ولونه وتنكر منه ما يبدو عليه من ضعف وإعياء، فهو شاحب اللون مجلل بالعرق، ويطلب إليها أن تدثره، وهو يرتعد. فتدثره خديجة وهي ملحاحة في التعرف إلى ما يخامره، فلم تعهد بمحمد ضعفاً، ولم يصدف لها أن رأت الأضطراب بادياً عليه كما تراه الآن وهي تعلم أن زوجها الحبيب لا يضعف، ولا يتخاذل لأي سبب مهما كان مؤثراً ومهما كان صعباً. ولذلك فهي تسأله في إصرار وإلحاح وهو يتهرب من الجواب ويماطل في الرد، ولكن خديجة الزوجة وخديجة الرفيقة والصديقة تأبى إلاّ أن تتعرف إلى حاله، وتفهم السبب كيما لا تتأخر عن موقفها الطبيعي في السير معه في كل مضمار، وإلى كل غاية.

{29}

وأخيراً يخبرها الرسول بما سمع ويشرح لها ما أحس ويقص عليها خبر الروح الذي فاجأه في غار حراء وقال له: إقرأ فيجيبه ما أنا بقارئ فيكررها عليه ثلاثاً، ويرد الجواب نفسه ثلاثاً أيضاً فيقول، الروح:

(إقرأ بأسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* إقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم)

صدق الله العظيم

وهنا تسأله خديجة وهي في نشوة روحية نشطة: ألم تسأله من أنت، ألم تسأله عن إسمه؟ فيجيبها صلوات الله عليه قائلاً: سمعته يقول: أنا جبرئيل جئت أبلغك رسالة ربك، ثمّ يردف، وكأنه يريد أن يبث خديجة ما يحس وأن يشاركها بأفكارها.

قال: لقد خشيت على نفسي.

فتجيبه رضوان الله عليها باندفاع وحماس.

كلا والله، ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة.

{30}

بهذه الكلمات البليغة الحكيمة ردت خديجة على زوجها مشجعة مصدقة، وكلها أطمئنان إلى صدق محمد بن عبد الله، ثمّ ينزل عليه الوحي ليأمره بأن ينذر وأن يبلغ ويدعو إلى رسالة السماء، وينهض رسول الله لكي ينذر وتنهض خديجة أيضاً تهب معه بكل طاقاتها وإمكانياتها المعنوية، والعاطفية، والمادية.

ومضت تواكب سيره المبارك في كل مضمار، وعندما خرج ليصلي في المسجد لأول مرة، وخرج معه إبن عمه علي بن أبي طالب (ع)، كانت خديجة ثالثتهما في الصلاة لم تقعد بها خيفة ولم يثنها عن اندفاعها الإسلامي تردد أو شك فهي تعرف محمداً كما لا يعرفه غيرها من الناس، وتثق فيه ثقة مطلقة.

وهذه إحدى نواحي الإعجاز في النبي، فإن أكثر عباقرة التاريخ كانوا يعانون الأمرَّين من تصرفات زوجاتهم، وعدم تصديقهن بعبقريتهم، فإن الإنسان الاعتيادي مهما كان عبقرياً فذاً لا يمكن له أن يخلو من نقص، ونقاط ضعف إذا فرض فأمكن له أن يخفيها عن

{31}

كل أحد لا يمكن له أن يخفيها عن زوجته التي هي أقرب الناس إليه، بالنسبة إلى رسول الله وزوجته خديجة انقلبت هذه القاعدة فأصبحت الزوجة أول مصدقة ومؤيدة لأنه صلوات الله عليه كان فوق مستوي غيره من الرجال مهما كانوا عباقرة وأفذاذاً، فكلما كان الشخص قريباً منه كان أكثر حباً له، وأكثر عقيدة، وأرسخ إيماناً برسالته، ودعوته.

فقد كانت عواطفه الإنسانية عامة شاملة لكل نواحي الحياة سيان في علاقاته الداخلية، أو الخارجية. حتى أنه كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه.

وإذا لقيه أحد فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده.

وكان أشد حياء من العذراء في خدرها.

وكان أصبر الناس على أقذار الناس.

كان عطوفاً على كل ضعيف باراً بكل مسكين ما ضرب أحداً وما نهر خادماً قط.

{32}

وقد روي عن أنس أنه قال: خدمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته.

وحتى زيد بن حارثة الذي خطف من أهله وهو صغير ثم اهتدى إليه أبوه واهتدى هو إلي أبيه على لهفة الشوق بعد اليأس من اللقاء، فلما خُيِّر بين الرجعة إلى أبيه وبين البقاء مع الرسول اختار البقاء مع السيِّد عن الرجعة إلى الوالد، وشق عليه أن يفارق ذلك الرصيد العامر بالعطف والحنان، والذي غمره بحبه ومواساته، إذ هو ضعيف شريد لا يرى ذويه، ولا يدري من هم ذووه.

وحتى مولاه ثوبان، والمولى في أغلب الأحوال يكون كارهاً لمولاه حاقداً عليه قالياً له نظراً لما يحسه من تقدم سيده عليه ومالكيته له، ولكن ثوبان نحل وظهر عليه الحزن في ليله ونهاره فلما سأله صلوات الله عليه عن سبب ذلك قال: قرب منيتي وخوفي من فراقك لآنك في الجنة سوف تكون في درجات الآنبياء فلا أستطيع أن أراك.

ولهذا نزلت الآية الكريمة التي تبشر المؤمنين المخلصين بصحبة الآنبياء الصالحين، «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع

 

 

 

 

0

 

 

 

 

– الشهيدة بنت الهدى

 

شاهد أيضاً

المرأةُ في شَريعةِ النبي .. (قِيمةُ المَرأةِ في الاسلامِ)09

المَرأة وَالعَمَل يقوم تقسيم الوظائف في كل مجتمع ومحيط على أساس تقبل الأشخاص لتلك الوظائف ...