الرئيسية / تقاريـــر / المسلسلات التركية المدبلجة تخاطب الغرائز وتدمّر القيم…- مصطفى قطبي

المسلسلات التركية المدبلجة تخاطب الغرائز وتدمّر القيم…- مصطفى قطبي

عندما أبصرُ السياسة الإعلامية لصناع الدراما التركية، ثم أعطفُ عليها الحالة الثقافية الكارثية التي انحدر إليها الجمهور العربي، إذ ذاك أدركُ أنّ المخطط لهذه الأمة من مشاريع هدّامة، والموضوع لها من أهداف بعيدة، كلُّ ذلك يسيرُ سيراً حثيثاً ومن دون أيّة معوّقات من أي نوعٍ، وبما يُثلِجُ صدور منْ لا يُضمرون الخير لأبناء هذه الأمة!

 
لقد حصدت الدراما التركية المدبلجة للعربية أرباحاً لم تكن في الحسبان حتى في نظر أكثر منتجيها تفاؤلاً، وتحولت الفضائيات العربية إلى منابر ومنصات لتسويق الأعمال الدرامية المنتهية الصلاحية في بلد المنشأ عبر عملاء وسماسرة شركات الإنتاج، لاسيما وأن هذه القنوات تسعى إلى شراء المسلسلات بعد انتهاء عملية تسويقها وعرضها في التلفزيونات في بلدانها الأمر الذي يظهر هذه القنوات بهيئة غير لائقة، وكأنها تقتات على فتات الدراما وتشبع ميزانياتها من بقايا الأعمال دون النظر إلى قيمتها الحقيقية ورسائلها وما قد تحدثه في المجتمعات التي تعرض فيها من تأثيرات سلبية في معظم الأحيان.‏

 

لاشك أن الأعمال الدرامية التركية المدبلجة للعربية بالإضافة إلى برامج المسابقات واستكشاف المواهب كانت إحدى الحلول بالنسبة للقنوات العربية الكبرى، لشغل مساحات واسعة من الوقت وتضمينه الدعايات المختلفة، لا سيما وأنها حلول أقل كلفة من إنتاج أعمال درامية عربية كبرى.‏ والحقيقة أن القنوات الفضائية العربية تغفل أنها تتعامل مع شرائح عريضة و شديدة التنوع من الجمهور الذي هو أمانة في أعناق هذه الفضائيات، لكن هذه الفضائيات تتنافس في السوق من أجل الربح المادي عبر الدعاية التي تمخر عباب المسلسل المدبلج من ابتدائه حتى انتهائه، وهذه هي الطريقة التي درجت عليها وسارت القنوات الفضائية العربية لصالح المردود الاقتصادي وسياسة الربح.‏ وفي الأعمال المدبلجة، نجد فنانين كبار وآخرين في بداية الطريق ومنهم مغمورون أعجبهم الأمر وانخرطوا في اللعبة، وكل منهم له ظروفه واعتباره، وحسب العروض التي تقدم لهم وتراعي موقعهم ووزنهم الدرامي، فمنهم من وجد الأمر ربما هو أقل جهداً وأوفر مالاً من التمثيل أو لمن لا يجد أدواراً تتلقفه نجده انغمس في الدبلجة من أجل الحصول على الكسب المادي ليس إلا وكثير من الاعتبارات الخاصة الأخرى.‏

 

موجة المسلسلات التركية تقتطع وقتاً ليس بقليل لدى المشاهد المحلي والعربي، وذلك من خلال المتابعة المستمرة لهذه المسلسلات في العديد من القنوات العربية. هذه المسلسلات تجنح للرومانسية وهي نقطة مفقودة في الدراما العربية، الأمر الذي جعلها تجذب الشارع وتغسل العقول والعيون برسائل ضمنية تهدف لبثها لتزعزع المجتمع بتحررها الزائد وجرأتها غير المألوفة التي نراها إلا في السينما. وما زاد الطين بلّة أنها دُبلجت باللهجة المحلية لزيادة الانجذاب والتعلّق بها، ناهيك عن فتح أبواب الحرية على مصراعيه في استخدام وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، لاسيما أمام الفئة الشابة التي مازالت في مقتبل حياتها، وتتأثر بكل ما تشاهده.

 

فقنواتنا العربية أصبحت تعج بمسلسلات الدراما التركية المدبلجة للعربية، التي تقدم المشاهد الفاضحة والخادشة للحياء، وممارسات غير أخلاقية ولا مقبولة ولا تتناسب مع قيمنا ولا تنسجم مع مفاهيمنا. فلا عاداتهم تشبه عاداتنا، ولا تقاليدهم تشبه تقاليدنا، مسلسلات دخيلة علينا جملة وتفصيلاً، انتهينا من المسلسلات المكسيكية الطويلة المملة، وجاءتنا المسلسلات التركية لتدس لنا السم بالعسل، وتناقش القضايا المهمة بأساليب مراهقة متهتكة، سلبت عقول الشباب من الجنسين، وانحدرت بقيمهم نحو الهاوية بما تعرضه وتطرحه من مشاهد غرامية مبتذلة، كعلاقة الفتاة المراهقة مع سائق العائلة، أو تلك الفتاة الأخرى التي تضاجع أصحابها في الجامعة، وتمارس معهم الزنا بالتناوب بعلم أهلها تمهيداً لاختيار شريك حياتها المثالي! والاقتران به بعد اجتيازه اختبارات المعاشرة السريرية بمباركة ورعاية أقطاب العائلة الموقرة!

لا نبالغ حين نقول إن المسلسلات التركية المدبلجة أحدثت ارتجاجاً ما في مفهوم العلاقات الأسرية لدى شرائح معينة ولاسيما أنها أسرت قلوب بعض المشاهدين في العالم العربي بما تقدم من أحداث وشخصيات رومانسية حالمة لم يتوقف تأثيرها على الكبار فقط، إنما امتد إلى الأطفال واليافعين الذين مازالوا في طور النمو الذهني والعاطفي فقد أصبحت هذه المسلسلات جزءاً من يوميات بعض المشاهدين.

زوبعة الدراما التركية… ألهبت عواطف المشاهدين أو بالأحرى المشاهدات التواقات إلى الهروب من الضغوط الحياتية إلى عالم الرومانس والخيال و الأحلام… وفي الوقت ذاته كانت غنيمة دسمة للعديد من القنوات العربية التي استثمرتها شر استثمار. بمعنى… أنها بدأت بحملة إعلانية واسعة لقصص حب تشبع نهم الفاشلين فيها… لتسيطر على انتباههم… ويبدأ رش ملايين الدولارات رغبة بحجز وقت إعلاني لا يتعدى الثواني… وفيما بعد انهالت عروض لسلع و منتجات أهمها موبايلات تحمل ميزة عرض حلقات لاحقة لتلك المسلسلات التركية المفرغة من أي مضمون ذي قيمة ولو بسيطة!‏

وككل جديد يقتحم حياة بلداننا… بدأ الانجراف وراء قصص حب ملونة بألوان تركية، وأصبح أبطال تلك القصص… يضاهون تلك الشخصيات الأدبية و الفنية والتاريخية التي حفرت إسمها بالصخر كما يقولون على صفحات التاريخ… ليأتي مهند ونور والشلة اللاحقة لهم، ويسيطرون على أذهان أجيال كاملة ويرسخون أسماءهم ويصبحون الأبطال الجدد بل و المثل الأعلى لهم!‏

 

قرب تركيا من الدول الأوربية فرض أنموذجاً لا يمكن لنا أن نتقبله مطلقاً، فأحد المشاهد تعرض حواراً بين الأم وابنتها تعترف فيه تلك الأم بأنها تحمل جنيناً في رحمها من جارها بصورة غير شرعية، فتتقبل الابنة الأمر وتواسي والدتها على فعلتها اللطيفة تلك؟! فهل هذه من العادات والتقاليد…؟ ناهيك عن تكرار فكرة الصداقة بين الشاب والفتاة والأجواء التي يتلذذان فيها وتودي بهم إلى حالات عشقية لا يمكن لنا رؤيتها في بلداننا.

 

للأسف المأسوف عليه، فقنواتنا العربية تنقل إلينا عبر الدراما التركية، قيماً كثيرة خارجة عن المألوف لدينا من عادات وتقاليد، ومن الأولى أن نتحدث عن أهمها كقيمة الحب الخاطئ، فالإعلام مؤثر جداً في متابعيه، ويرسخ القيمة التي توجَّه إلى المشاهد مهما كانت غريبة عنه، وكل ذلك مع مرور الوقت طبعاً، فالحب في مجتمعنا العربي يؤدي إلى نتيجة معروفة هي الزواج غالباً، أما الحب لديهم فقد يؤدي مثلاً إلى الحمل والولادة ثم حالة من الندم تكتنف الأب فيعود لعائلته التي شكلها بدايةً وهكذا… وهذا النوع من العادات غير موجودة لدينا بهذا الشكل السافر والفاضح أبداً.

 

لا بد لنا من التأكيد على فكرة التكريس المؤذية ”تكريس الفكرة الخطأ” وخصوصاً في موضوع الحمل غير الشرعي الذي تتعرض له الفتاة من قبل الصديق أو المعجب أو البطل… والتي تؤثر على محبي الدراما التركية بصورة سلبية بخاصةً الجيل الصاعد والأطفال، فردّة فعل الأهل غالباً غير منطقية إذا ما قارنّا الموضوع نفسه في سياق عاداتنا وتقاليدنا العربية، فهم يقدمون مجموعة من الحلول للمتلقي من دون أن يدرك ذلك، وستكون مؤثرة في لا شعوره لتولد حالة سلبية ضمن المستقبل القريب.

 

وبكل أمانة وتجرد أعترف، أنه لا يوجد في العالم حرصٌ على بثّ (القيم) المنحطة والمنحلة يقارب حرص مجموعة من القنوات العربية، على تبنّي قيم المسلسلات التركية الدنيئة والمريبة، وبثها عبر قنواتها على مدار اليوم، ويتكرر بث المادّة الواحدة مرات عديدة خلال الشهر الواحد، أو الأسبوع الواحد، ولا يرجع سبب التكرار إلى عجز مالي يمنع هذه القنوات من شراء المسلسلات الجديدة، بل يرجع أساساً إلى محاولات ترسيخ تلك القيم، والإلحاح على تجذيرها في الأذهان، بوصف التجذير وظيفة من أبرز وظائف التكرار.

 

والشاذ في الموضوع، أنّ العديد من القنوات العربية، تنتقي بعناية فائقة المسلسلات التركية التي تعرضها، وتتعرض للطبقة المخملية الثرية جداً، فكل المشاهد تعرض أجواء الرفاهية، بينما تتناسى أنّ المجتمع التركي يضمّ طبقات متنوعة ما بين المتوسطة والفقيرة والمخملية. فالنخبة التي يصورها المسلسل بهذه الطريقة تؤدي إلى التأثير على الناس البسطاء، وهنا تكمن الخطورة أكثر لأن الإنسان عندما لا يتمكن من تحقيق متطلباته سيلجأ إلى إجراء سلبي فتسوّل له نفسه إلى ارتكاب فعل السرقة أو القتل مثلاً، ويبدو أن التكرار الذي نلاحظه على مدار 150 حلقة أو أكثر مع الحفاظ على عدم ملل المشاهد سيفضي إلى الخطر الذي أشير إليه، وبمرور 5 أو 6 أشهر على متابعة المسلسل الواحد منها سيعتقد أنه يعيش حالة صحية وسليمة متوهماً ذلك.

 

إننا بأمس الحاجة للتصدي لهذا الغزو الفكري التخريبي الكاسح الذي تتعمد العديد من القنوات العربية تقديمه وتصديره إلى بلداننا، وصار لزاماً علينا الدعوة لتطبيق الإجراءات الاحترازية الصارمة، وأن نكرس جهدنا نحو الارتقاء بمستويات الوعي والإدراك عند أفراد الأسرة، وتحذيرهم من مخاطر هذه المسلسلات المبتذلة والسخيفة، للوقوف بوجه هذا المد الفضائي المفسد، وبخاصة أن الشريحة المثقفة قصرت في فضح هذه الغزوة التركية، في وقت تقوم فيه العديد من القنوات العربية الانتهازية بتقديم دعاية مجانية لنشر النفوذ التركي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي على الوطن العربي.

شاهد أيضاً

تركيا خائفة من النيران السورية لذا هي أمام تحول مصلحي لا بديل عنه في علاقاتها الخارجية – الوقت

 الإستدارة التركية المفاجئة بخطواتها اتجاه روسيا والكيان الاسرائيلي وفتح باب المناورة امام مصالحة مع سوريا ...