أحب الرجال إلى النبي علي عليه السلام:
ثانيا : أما من جهة أبي بكر ، كما يقول حديث عمرو بن العاص : ” إن أحب الرجال إلى النبي (ص) هو أبو بكر ” فهو ينافي الأخبار الكثيرة والأحاديث الصحيحة المعتبرة المروية في كتب كبار علمائكم ومحدثيكم بأن أحب الرجال إلى النبي (ص) هو علي بن أبي طالب عليه السلام ، منهم :
1ـ روى الحافظ سليمان الحنفي في ” ينابيع المودة ” الباب55 ، عن الترمذي بسنده عن بريدة ، أنه قال : كان أحب النساء إلى رسول الله (ص) فاطمة ومن الرجال علي عليه السلام .
2ـ العلامة محمد بن يوسف الكنجي روى مسندا في كتابه ” كفاية الطالب ” الباب 91 ، بسنده عن أم المؤمنين عائشة ، أنها قالت : ما خلق الله خلقا كان أحب إلى رسول الله (ص) من علي بن أبي طالب .
ثم يقول الكنجي : هذا حديث حسن ، رواه ابن جرير في مناقبه ، وأخرجه ابن عساكر في ترجمته ، أي ترجمة الإمام علي عليه السلام(26).
3ـ روى الحافظ الخجندي بسنده عن معاذة الغفارية ، أنها قالت : دخلت على رسول الله (ص) في بيت عائشة ، وكان علي عليه السلام خارج الدار ، فسمعت رسول الله (ص) يقول لعائشة : إن هذا ـ أي علي عليه السلام ـ أحب الرجال إلي ، وأكرمهم عليّ ، فاعرفي حقه ، واكرمي مثواه .
4ـ روى ابن حجر في آخر الفصل الثاني من ” الصواعق ” بعد نقله أربعين حديثا في فضائل الإمام علي عليه السلام ، قال الترمذي : عن عائشة ، قالت : كانت فاطمة أحب النساء إلى رسول الله (ص) وزوجها أحب الرجال إليه .
خبر الطائر المشوي:
من أهم الأخبار في الموضوع ، خبر الطير المشوي المروي في كتبنا وكتبكم المعتبرة كالصحاح والمسانيد ، منها :
صحيح البخاري ، وصحيح مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، والسجستاني ، في صحاحهم ، والإمام أحمد في ” المسند ” وابن أبي الحديد في ” شرح نهج البلاغة ” وابن الصباغ المالكي في ” الفصول المهمة ” صفحة 21 ، رواه بهذه العبارة : وأنه صح النقل في كتب الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة عن أنس بن مالك … إلى آخره .
ورواه الشيخ سليمان الحنفي في ” ينابيع المودة ” الباب الثامن ، وقد خصه لهذا الخبر من طرق شتى فيرويه عن الإمام أحمد و الترمذي والموفق بن أحمد الخوارزمي وابن المغازلي وسنن أبي داود ، عن سفينة مولى النبي (ص) .
وعن أنس بن مالك وابن عباس .
ثم يقول : وقد روى أربعة وعشرون رجلا حديث الطير عن أنس ، منهم : سعيد بن المسيب والسدي وإسماعيل .
قال : ولابن المغازلي ” حديث الطير ” من عشرين طريقا .
ورواه سبط ابن الجوزي في التذكرة : 23 ، عن فضائل أحمد وسنن الترمذي .
وأشار إليه المسعودي في مروج الذهب 2/49 .
ورواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في الحديث التاسع من ” الخصائص ” .
وكتب كل من : الحافظ ابن عقدة ومحمد بن جرير الطبري والحافظ أبو نعيم ، كتابا خاصا بخبر الطير المشوي وأسانيده وطرقه وتواتره .
كما أن العلامة المحقق الورع ، الزاهد التقي ، السيد حامد حسين الدهلوي ـ وأنتم الحاضرون لقرب جواركم منه تعرفون العلمية وتعرفون وروعه وزهده أحسن وأكثر من غيركم ـ خصص مجلدا ضخما من موسوعته العلمية الكريمة : ” عبقات الأنوار ” لخبر الطير المشوي وقد جمع فيه أسناد ومصادر الخبر من طرقكم وكتب علمائكم فقط .
وأنا لا أذكر الآن كم بلغ عدد أسناد ومصادر هذا الخبر في ذلك الكتاب العظيم ، ولكني أذكر بأني عجبت حين مطالعته من سعة اطلاع العلامة الدهلوي !
والخبر كما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، عن سفينة مولى النبي (ص) قال : أهدت امرأة من الأنصار طيرين مشويين بين رغيفين ، فقال النبي (ص) :اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك فجاء علي (ع) فأكل معه من الطيرين حتى كفيا .
وجاء في بعض كتبكم مثل : ” الفصول المهمة ” لابن الصباغ المالكي وتاريخ الحافظ النيسابوري ، و ” كفاية الطالب ” للعلامة الكنجي الشافعي ، و مسند أحمد ، عن أنس بن مالك ، قال :
أتى النبي (ص) بطائر فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي .
فجاء علي (ع) فحجبته مرتين ، فجاء في الثالثة فأذنت له .
فقال النبي (ص) : يا علي ! ما حبسك ؟!
قال : هذه ثلاث مرات قد جئتها فحبسني أنس .
قال (ص) : لم يا أنس ؟! قال : قلت : سمعت دعوتك يا رسول الله ، فأحببت أن يكون رجلا من قومي .
فقال النبي (ص) : الرجل يحب قومه .
فاسأل الشيخ عبد السلام وأقول : هل استجاب الله تعالى دعوة حبيبه ونبيه محمد (ص) أم لا ؟!
الشيخ عبد السلام : نعم ، وكيف لا يستجيب وقد وعده الإجابة ؟!
وهو سبحانه يعلم أن النبي لا يدعوه ولا يطلب منه حاجة إلا في محلها . فلذلك كانت دعوة رسول الله (ص) مستجابة في كل وقت .
قلت : على هذا فعلي (ع) هو أحب الخلق إلى الله عز وجل .
كما إن كبار علمائكم صرحوا بذلك ، مثل العلامة محمد بن طلحة الشافعي ، في أوائل الفصل الخامس من الباب الأول من كتابه ” مطالب السؤول ” بمناسبة حديث الراية وحديث الطير ، فقد أثبت أن عليا (ع) كان أحب الخلق إلى الله ورسوله (ص) .
ثم يقول : أراد النبي أن يحقق للناس ثبوت هذه المنقبة السَنيّة والصفة العليّة ، التي هي أعلى درجات المتقين ، لعلي (ع) … إلى آخره .
والعلامة الكنجي الشافعي ، فقيه الحرمين ومحدث الشام وصدر الحفاظ ، في كتابه
” كفاية الطالب ” الباب 33، بعد نقله الحديث والخبر بسنده عن أربع طرق ، عن أنس وسفينة خادمي رسول الله (ص) قال : وفيه دلالة واضحة على أن عليا (ع) أحب الخلق إلى الله ، وأدل الدلالة على ذلك إجابة دعاء النبي (ص) في ما دعا به ، وقد وعد الله تعالى من دعاه بالإجابة ، حيث قال عزوجل : ( ادعوني استجب لكم … ) (27).
فأمر بالدعاء ووعد بالإجابة ، وهو عز وجل لا يخلف الميعاد . وما كان الله عز وجل ليخلف وعده رسله ، ولا يرد دعاء رسوله لأحب الخلق إليه ، وهو من أقرب الوسائل إلى الله تعالى محبته ومحبة من يحبه لحبه .
وبعد هذا يقول : وحديث أنس الذي صدرته في أول الباب ، أخرجه الحاكم أبو عبد الله الحافظ النيسابوري عن ستة وثمانين رجلا ، كلهم رووه عن أنس ، ثم يذكر أسماءهم(28).
فأنصفوا أيها المستمعون ! هل من الصحيح أن نتمسك بخبر واحد رواه عمر بن العاص ، وهو أحد أعداء الإمام علي (ع) ، والمعلن عليه الحرب ، والخارج لقتاله ، ونعرض عن هذه الأخبار الكثيرة المتواترة في كتب كبار علمائكم ومحدثيكم ؟!
الشيخ عبد السلام : أظن أنكم مصرون على رد كل خبر ننقله في فضيلة الشيخين !!
نحن نتبع الحق !
قلت : إني أعجب من الشيخ إذ يتهمني أمام الحاضرين بهذه التهمة ! ولا أدري أي خبر موافق للكتاب الحكيم والعقل السليم والمنطق القويم قاله الشيخ وأنا رفضته وما قبلته ؟!
حتى يجابهني بهذا العتاب ، ويواجهني بهذا الكلام الذي يقصد منه أننا نتبع طريق اللجاج والعناد !!
وإني أعوذ بالله أن أكون معاندا أو متعصبا جاهلا ، وأعوذ به سبحانه أن يكون في قلبي شيء من الحقد عليكم خصوصا ، وعلى إخواني من أهل السنة عموما .
وإني أشهد الله ربي وربكم أني ما كنت معاندا وما تبعت طريق اللجاج في محاوراتي ومناظراتي مع اليهود والنصارى ، والهنود والمجوس ، ومع الماديين والوجوديين ، وسائر المذاهب و الفرق والأحزاب المنحرفة ، بل كنت دائما أطلب وجه الله عز وجل وأبحث عن الحق والحقيقة على أساس المنطق والعقل وأصول العلم والبرهان ، فكيف أكون معاندا في محاورتي معكم وأنتم إخواني في الدين ، ونحن وإياكم على دين واحد ، وكتاب واحد ، ونبي واحد وقبلة واحدة ؟!
غاية ما هنالك لقد وقعت بعض الاشتباهات والمغالطات في الأمر ، والتبس بذلك الحق عليكم ، ونحن بتشكيل مجالس البحث والمناظرة ، نريد أن نتفاهم في القضايا حتى يرتفع الاختلاف إن شاء الله تعالى ، ويخيم علينا الاتحاد والائتلاف ، ويتحقق أمر عز وجل إذ يقول : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )(29).
وأنتم والحمد لله عالمون وفاهمون ، ولكن تأثرتم بكلمات وأكاذيب الأمويين المعادين للنبي (ص) وأهل بيته الطيبين فقلدتم الناكثين والمارقين المتعصبين ضد الإمام علي أمير المؤمنين وشيعته أهل الحق واليقين .
فإن تخليتم عن أقاويل أولئك ، وتحررتم عن التعصب والتقليد الأعمى ، وأنصفتم الحكم في القضايا المطروحة ، فإنا نصل إنشاء الله تعالى إلى الهدف المنشود والحق المعهود .
الشيخ عبد السلام : نحن قرأنا في الصحف والمجلات ، مناظراتكم مع الهنود والبراهمة في مدينة لاهور ، وعلمنا إفحامكم إياهم فأجبناكم لانتصاركم للدين الحنيف وإثباتكم الحق ، وكنا نحب زيارتكم ونتشوق لمجالستكم ، والآن نسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياكم على الحق .
ونحن نوافقكم على مراجعة القرآن الحكيم في الأمور الخلافية ، وعرض الأخبار والأحاديث المروية على كتاب الله سبحانه ، فهو الفرقان الأعظم ، ولذا قبلنا من منكم الردود على ما نقلناه من الأخبار والأحاديث حينما أثبتم نقاط تعرضها مع الكتاب والعقل والعلم والمنطق .
فلذلك أذكر الآن دليلا من القرآن الكريم في شأن الخلفاء الراشدين وفضلهم ، وأنا على يقين بأنكم ستوافقون عليه ولا تردونه ، لأنه مأخوذ ومقتبس من كتاب الله تعالى .
قلت : أعوذ بالله العظيم من أن أرد الدلائل القرآنية أو الأحاديث الصحيحة النبوية . ولكن اعلموا أني حينما كنت أحاور الفرق الملحدة مثل الغلاة والخوارج ، وغيرهم من الذين ينسبون أنفسهم للإسلام وما هم منه ، كانوا يحتجون عليّ في إثبات ادعائهم الباطل ببعض الآيات القرآنية !
لأن بعض آيات الذكر الحكيم ذو معان متعددة ووجوه متشابهة ، ولذا لم يسمح النبي الكريم (ص) لأحد أن يفسر القرآن برأيه ، فقال :
” من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ” .
وقد وكل هذا الأمر الهام إلى أهل بيته الكرام (ع) ، فقال :
” إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ” .
وقد أجمعت هذه الأمة على صحة هذا الحديث الشريف ، فيجب أن نأخذ ذلك من العترة الهادية ، وهم أهل بيته الذين جعلهم النبي (ص) مع القرآن ككفتي ميزان .
والله سبحانه أيضا أمر الأمة أن يرجعوا إليهم في ما لا يعلمون ، فقال : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )(30).
والمقصود من أهل الذكر : علي بن أبي طالب والأئمة من بنيه (ع) كما روى الشيخ سليمان الحنفي في ” ينابيع المودة ” الباب 39 نقلا عن تفسير ” كشف البيان ” للعلامة الثعلبي بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، عن علي (ع) ، قال : نحن أهل الذكر ، والذكر : هو القرآن الحكيم لقوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )(31).
وبتعبير آخر من القرآن الكريم ، الذكر : هو رسول الله (ص) لقوله تعالى : ( … قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات … )(32) .
فأهل الذكر هم آل النبي (ص) ، وأهل القرآن الذين نزل الوحي في بيتهم ، فهم أهل بيت النبوة وأهل بيت الوحي .
ولذلك كان علي (ع) يقول للناس : سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن كتاب الله ، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم نهار ، وفي سهل أم في جبل ، والله ما أنزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من أنزلت ، وإن ربي وهب لي لسانا طلقا ، وقلبا عقولا … إلى آخره .
ملخص القول في نظرنا … إن الاستدلال بالآيات القرآنية يجب أن يطابق بيان أهل البيت والعترة النبوية ، وإلا إذا كان كل إنسان يفسر القرآن حسب رأيه وفكره لوقع اختلاف في الكلمة والتشتت في الآراء ، وهذا لا يرضى به الله سبحانه .
والآن وبعد هذه المقدمة فإنا نستمع لبيانكم .
الشيخ عبد السلام : لقد أول بعض علمائنا الأعلام قوله تعالى :
( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود … )(33).
قالوا : ( والذين معه ) إشارة إلى أبي بكر الصديق ، فهو كان مع رسول الله (ص) في كل مكان حتى في الغار ، ورافقه في الهجرة إلى المدينة المنورة .
والمقصود من ( أشداء على الكفار ) : هو عمر بن الخطاب (رض) الذي كان شديدا على الكفار .
والمراد من ( رحماء بينهم ) : هو عثمان ذو النورين ، فإنه كان كما نعلم رقيق القلب كثير الرحمة .
والمعني من ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، فإنه ما سجد لصنم قط .
وأنا أرجو أن تقبل هذا التأويل الجميل ، والقول الجامع لفضيلة الخلفاء الراشدين !
قلت : يا شيخ ! إني أعجب من كلامك وفي حيرة منه ! ولا أدري من أين جئت به ؟! فإني لم أجد في تفاسيركم المعتبرة المشهورة ، هذا التفسير ، ولو كان هذا الأمر كما تقول ، لكان الخلفاء المتقدمون على الإمام علي (ع) احتجوا بها حينما واجهوا معارضة بني هاشم وامتناع السيدة فاطمة الزهراء والإمام علي (ع) من البيعة لهم .
ولكن لم نجد ذلك في التاريخ ولا التفاسير التي كتبها كبار علمائكم ، أمثال : الطبري و الثعلبي والنيسابوري والسيوطي والبيضاوي والزمخشري والفخر الرازي ، وغيرهم .
وهذا التأويل والتفسير ما هو إلا رأي شخصي غير مستند إلى حديث أو رواية ، وإن القائل والملتزم به ومن يقبله يشملهم حديث النبي (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار )
وإذا قلت : إن ما قلته هو تأويل لا تفسير .
فأقول : إن مذاهبكم الأربعة لا يقبلون تأويل القرآن مطلقا ، ولا يجوز عند أئمتكم تأويل القرآن ، وأضف على هذا ، إن في الآية الشريفة نكات علمية وأدبية تمنع من هذا التأويل ، وتحول دون الوصول إلى مقصودكم ، وهي :
أولا : الضمائر الموجودة في الآية الكريمة .
وثانيا : صياغة الجمل فـ ( محمد ) (ص) : مبتدأ ، و( رسول الله ) : عطف بيان أو صفة ، ( والذين معه ) : عطف على ( محمد ) (ص) و ( أشداء ) وما بعدها : خبر ، ولو قلنا غير هذا فهذا غير معقول وخارج عن قواعد العربية والأصول .
ولذا فإن جميع المفسرين من الفريقين قالوا : إن الآية الكريمة تشير إلى صفات المؤمنين بالنبي (ص) جميعا .
ولكني أقول : إن هذه الصفات ما اجتمعت في كل فرد فرد من المؤمنين ، بل مجموعها كانت في مجموع المؤمنين ، أي إن بعضهم كانوا ( أشداء على الكفار ) وبعضهم كانوا ( رحماء بينهم ) وبعضهم ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) ولم يكن من المؤمنين إلا رجل واحد جمع كل هذه الصفات والميزات الدينية ، وهو : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، فهو الذي كان مع النبي (ص) من أول رسالته وبعثته حتى آخر ساعات حياته المباركة ، إذ كان رأس النبي (ص) في حجر وصيه وابن عمه علي بن أبي طالب حين فارقت روحه الدنيا .
الشيخ عبد السلام : إنك قلت : بأني لا أجادل ولست متعصبا ! بينما الآن تظهر التعصب ، وتجادلنا على ما لا ينكره أي فرد من أهل العلم !
أما قرأت قوله تعالى : ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم )(34).
هذه الآية الكريمة إضافة على أنها تؤيد رأينا في تأويل الآية السابقة : ( والذين معه ) فهي تسجل فضيلة كبرى ، ومنقبة عظمى لسيدنا أبي بكر الصديق (رض) ، لأن مصاحبته للنبي (ص) تدل على منزلته عنده ، ودليل على أن رسول الله (ص) كان يعلم بعلم الله أن أبا بكر يكون خليفته ، فكان يلزم عليه حفظه كما يلزم حفظ نفسه الشريفة ، لذلك أخذه معه حتى لا يقع في أيدي المشركين ، ولم يأخذ النبي أحدا سواه ، وهذا أكبر دليل على خلافته .
قلت : إذا أبعدتم عنكم التعصب ، وتركتم تقليد أسلافكم ، ونظرتم إلى الآية الكريمة بنظر التحقيق والتدقيق ، لو وجدتم أنها لا تعدّ فضيلة ومنقبة لأبي بكر ، وليس فيها أي دليل على خلافته!
الشيخ عبد السلام : إني أتعجب من قولك هذا ، والآية صريحة في ما نقول ، ولا ينكره إلا معاند متعصب !
قلت : قبل أن أخوض هذا البحث أرجو أن تعرضوا عن كلامكم ، لأني أخشى أن يمس ويخدش البحث عواطفكم ، فإن الكلام يجر الكلام ، ونصل بالبحث إلى ما لا يرام ، ولا يتحمله العوام ، لسوء ما تركز عندهم في الأفهام .
الشيخ عبد السلام : أرجو أن لا تتكلّم بالإبهام ، بل بين لنا كل ما عندك من الجواب والرد على ما قلناه بالتمام ، ونحن إنما اجتمعنا وحاورناكم لنعرف حقيقة الإسلام ، ونحن مستعدون لاعتناق مذهبكم إذا ظهر لنا وثبت أنه الحق الذي أمر به محمد سيد الأنام (ص) .
قلت : إن إنكاري لقولكم لا يكون عن تعصب وعناد ، وإعراضي عن الجواب ليس عن عيّ وجهل ، بل رعاية للأدب والوداد ، ولكن إصراركم على رأيكم ، وإحساسي بالمسؤولية في كشف الحق وإظهار الحقيقة والإرشاد ، يفرض علي الرد والجواب ، حتى يعرف الحاضرون كلمة الحق والسداد ، فأقول :
أولا : قولك : إن النبي (ص) حمل معه أبا بكر ، لأنه (ص) كان يعلم انه يكون خليفته ، فأراد أن يحفظه من شر المشركين ، كلام غريب ..
لأن النبي (ص) إذا حمله لهذا السبب ، فلماذا لم يأخذ معه خلفاءه الآخرين ، الراشدين على حد زعمكم ؟! عمر وعثمان وعلي ، لأنهم كانوا في مكة مهددين أيضا !
فلماذا هذا التبعيض ؟! يأخذ أبا بكر ويأمر عليا ليبيت على فراش الخطر ، ويفدي النبي (ص) بنفسه !
هل هذا من العدل والإنصاف ؟!
ثانيا : بناء على ما ذكره الطبري في تاريخه ، ج3 : إن أبا بكر ما كان يعلم بهجرة النبي (ص) فجاء عند علي بن أبي طالب وسأله عن رسول الله (ص) ، فأخبره بأنه هاجر نحو المدينة فأسرع أبو بكر ليلتقي بالنبي (ص) ، فرآه في الطريق فأخذه النبي (ص) معه .
فالنبي (ص) إنما أخذ معه أبا بكر على غير ميعاد ، لا كما تقول .
وقال بعض المحققين : إن أبا بكر بعدما التقى بالنبي (ص) في الطريق ، اقتضت الحكمة النبوية أن يأخذه معه ولا يفارقه ، لأنه كان من الممكن أن يفشي أمر الهجرة وكان المفروض أن يكون سرّا ، كما نوّه به الشيخ أبو القاسم بن الصباغ ، وهو من كبار علمائكم ، قال في كتابه
” النور والبرهان ” :
إن رسول الله (ص) أمر عليا فنام على فراشه ، وخشي من أبي بكر أن يدلّهم عليه فأخذه معه ومضى إلى الغار !
ثالثا : أسألك أن تبين لنا محل الشاهد من الآية الكريمة ، وتوضّح الفضيلة التي سجلتها الآية الكريمة لأبي بكر ؟!
الشيخ عبد السلام : محل الشاهد ظاهر ، والفضيلة أظهر ، وهي :
أولا : صحبة النبي (ص) ، فإن الله تعالى يعبر عن الصديق (رض) بصاحب رسول الله (ص) .
ثانيا : جملة : ( إن الله معنا ) .
ثالثا : نزول السكينة من عند الله سبحانه على سيدنا أبي بكر .
ومجموعها تثبت أفضلية سيدنا الصديق وأحقيته بالخلافة .
قلت : لا ينكر أحد أن أبا بكر كان من كبار الصحابة ، ومن شيوخ المسلمين ، وأنه زوج ابنته من النبي (ص) .
ولكن هذه الأمور لا تدل على أحقيته بالخلافة .
وكذلك كل ما ذكرتم من شواهد ودلائل في الآية الكريمة ، لا تكون فضائل خاصة بأبي بكر ، بل لقائل أن يقول : إن صحبة الأخيار والأبرار لا تكون دليلا على البر والخير ، فكم من كفار كانوا في صحبة بعض المؤمنين والأنبياء ، وخاصة في الأسفار .
الصحبة ليست فضيلة:
1ـ فإنا نقرأ في سورة يوسف الصديق (ع) أنه قال : ( يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) (35).
لقد اتفق المفسرون أن صاحبي يوسف الصديق (ع) هما ساقي الملك وطباخه ، وكانا كافرين ودخلا معه السجن ولبثا خمس سنين في صحبة النبي يوسف الصديق (ع) ولم يؤمنا بالله ، حتى أنهما خرجا من السجن كافرين ، فهل صحبة هذين الكافرين لنبي الله يوسف (ع) تعد منقبة وفضيلة لهما ؟!
2ـ ونقرأ في سورة الكهف : ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا )(36).
ذكر المفسرون : أن المؤمن ـ وكان اسمه : يهودا ـ قال لصاحبه ـ واسمه : براطوس ـ وكان كافرا ، وقد نقل المفسرون ـ منهم : الفخر الرازي ـ محاورات هذين الصحابين ، ولا مجال لنقلها ، فهل صحبة براطوس ليهودا ، تعد له فضيلة أو شرفا يقدمه على أقرانه ؟!
أم هل تكون دليلا على إيمان براطوس ، مع تصريح الآية : ( أكفرت بالذي خلقك من تراب)(37) ؟!
فالمصاحبة وحدها لا تدل على فضيلة وشرف يميز صاحبها ويقدمه على الآخرين .
وأما استدلالك على أفضلية أبي بكر ، بالجملة المحكية عن النبي (ص) ( إن الله معنا ) فلا أجد فيها فضيلة وميزة لأحد ، لأن الله تعالى لا يكون مع المؤمنين فحسب ، بل يكون مع غير المؤمنين أيضا ، لقوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا …)(38).
فبحكم هذه الآية الكريمة ، فإن الله عز وجل يكون المؤمن والكافر والمنافق .
الشيخ عبد السلام : لا شك أن المراد من الآية الكريمة : ( إن الله معنا …) يعني : بما أننا مع الله ونعمل لله ، فإن ألطاف الله تعالى تكون معنا ، والعناية الإلهية تشملنا .
حقائق لا بد من كشفها:
قلت : حتى لو تنزلنا لكم وسلمنا لقولكم ، فلقائل أن يقول : إن الجملة مع هذا التفسير أيضا لا تدل على فضيلة ثابتة أو منقبة تقدم صاحبها على الآخرين ، لأن هناك أشخاص شملتهم الألطاف الإلهية والعناية الربانية ، وما داموا مع الله كان الله معهم ، وحينما تركوا الله سبحانه تركهم وانقطعت العناية والألطاف الإلهية عنهم ، مثل :
1ـ إبليس ـ ولا مناقشة في الأمثال ـ فإنه عبد الله تعالى عبادة قل نظيرها من الملائكة ، وقد شملته الألطاف والعنايات الربانية، ولكن لما تمرد عن أمر ربه تكبر واتبع هواه واغتر ، خاطبه الله الأعظم الأكبر قائلا: ( قال فأخرج منها فإنك رجيم * وإنّ عليك اللعنة إلى يوم الدين )(39).
2ـ ومثله في البشر : بلعم بن باعورا ، فإنه كما ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى :
( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين )(40) قالوا :إنه تقرب إلى الله تعالى بعبادته له إلى أن أعطاه الاسم الأعظم وأصبح ببركة اسم الله سبحانه مستجاب الدعوة ، وعلى أثر دعائه تاه موسى وبنو إسرائيل أعواما كثيرة في الوادي .
ولكن على أثر طلبه للرئاسة والدنيا سقط في الامتحان ، واتّبع الشيطان ، وخالف الرحمن ، وسلك سبيل البغي والطغيان ، وصار من المخلدين في النيران .
وإذا أحببتم تفصيل قصته ، فراجعوا التاريخ والتفاسير ، منها : تفسير الرازي 4/ 463 ، فإنه يروي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد بالتفصيل .
3ـ وبرصيصا .. في بني إسرائيل ، كان مجدا في عبادة الله سبحانه حتى أصبح من المقربين ، وكانت دعوته مستجابة ، ولكن عند الامتحان أصيب بسوء العاقبة فترك عبادة رب العالمين ، وسجد لإبليس اللعين ، وأمسى من الخاسرين ، فقال الله تعالى فيه : ( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين )(41).
فإذا صدر عمل حسن من إنسان ، فلا يدل على أن ذلك الإنسان يكون حسنا إلى آخر عمره وأن عاقبة أمره تكون خيرا ، ولذا ورد في أدعية أهل البيت عليهم السلام : اللهم اجعل عواقب أمورنا خيرا .
إضافة إلى ما قلنا: فإنكم تعلمون أنه قد ثبت عند علماء المعاني والبيان ، أن التأكيد في الكلام يدل على شك المخاطب وعدم بقيته للموضوع ، أو توهمه خلاف ذلك .
والآية مؤكدة ” بأنّ ” فيظهر بأن ّ مخاطب النبي (ص) وهو صاحبه في الغار كان شاكا في الحق ، على غير يقين بأن الله سبحانه يكون معهما !
الشيخ عبد السلام : ـ شاط غاضبا ـ وقال : ليس من الإنصاف أن تمثل صاحب رسول الله وخليفته بإبليس وبلعم وبرصيصا !
قلت : أنا في البداية بينت أن : ” لا مناقشة في الأمثال ” ومن المعلوم أن في المحاورات إنما يذكرون الأمثال لتقريب موضوع الحوار إلى الأذهان ، وليس المقصود من المثل تشابه المتماثلين من الجهات ، بل يكفي تشابههما من جهة واحدة ، وهي التي تركز عليها موضوع الحوار .
وإني أشهد الله ! بأني ما قصدت بالأمثال التي ذكرتها إهانة أحد أبدا ، بل البحث والحوار يقتضي أحيانا أن أذكر شاهدا لكلامي ، وأبين مثلا لتفهيم مقصدي ومرامي .
الشيخ عبد السلام : دليلي على أن الآية الكريمة تتضمن مناقب وفضائل لسيدنا أبي بكر (رض) ، جملة : ( فأنزل الله سكينته عليه ) فإن الضمير في ( عليه ) يرجع لأبي بكر الصديق ، وهذا مقام عظيم .
قلت : الضمير يرجع إلى النبي (ص) وليس لأبي بكر ، بقرينة الجملة التالية في الآية
( وأيده بجنود لم تروها ) .
وقد صرح جميع المفسرين : أن المؤيد بجنود الله سبحانه هو النبي (ص) .
الشيخ عبد السلام : ونحن نقول أيضا : إن المؤيد بالجنود هو النبي (ص) ولكن أبا بكر كذلك كان مؤيدا مع النبي (ص) .