نهج الحق وكشف الصدق / الصفحات: ١٤١ – ١٦٠
وقال في الخطبة (١٤٤) من النهج أيضا: ” بعث الله رسله بما خصهم به من وحيه، وجعلهم حجة له على خلقه، لئلا تجب الحجة لهم بترك الأعذار إليهم، فدعاهم بلسان الصدق إلى سبيل الحق. إلا أن الله تعالى قد كشف الخلق كشفة، لا أنه جهل ما أخفوه من مصون أسرارهم، ومكنون ضمائرهم ” ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملا “، فيكون الثواب جزاء، والعقاب بواء “.
وقال بعد وصف خلقه آدم، ومواهبه تعالى له: ” اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد (إلى أن قال) فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائف العقول، ويروهم آيات المقدرة (إلى أن قال في حق نبينا ” ص “): إلى أن بعث الله سبحانه محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإنجاز عدته، وإتمام نبوته، مأخوذا على الأنبياء ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده “.
وقال في الخطبة (١٠٣): ” حتى بعث الله محمدا ” ص ” شهيدا، وبشيرا ونذيرا، خير البرية طفلا، وأنجبها كهلا، وأطهر المطهرين شيمة، وأجود المستمطرين ديمة “، وقال في الخطبة (١٠٦): ” اختاره من شجرة الأنبياء، ومشكاة الضياء، وذؤابة العلياء، وسرة البطحاء، ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة، طبيب دوار بطبه، قد أحكم مرهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة، فهم في ذلك كالأنعام السائمة والصخور القاسية “.
عصمة الأنبياء
١ – المبحث الثاني: أن الأنبياء معصومون.
ذهبت الإمامية كافة إلى أن الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر، ومنزهون عن المعاصي، قبل النبوة، وبعدها. على سبيل العمد، والنسيان، وعن كل رذيلة ومنقصة، وما يدل على الخسة والضعة.
وخالفت الأشاعرة في ذلك، وجوزوا عليهم المعاصي.. وبعضهم:
جوزوا الكفر عليهم، قبل النبوة، وبعدها، وجوزوا عليهم السهو والغلط (١) ونسبوا رسول الله صلى الله عليه وآله إلى السهو في القرآن بما يوجب الكفر،
وقال:
وإذا نهى النبي عن شئ، ثم فعله فليس دليلا على أن ذلك النهي قد نسخ، لأنه قد يفعله عاصيا لله تعالى. وقال: وليس لأصحابه أن ينكروا عليه، وجوز أن يكون في أمة محمد من هو أفضل من محمد ” ص ” مذ بعث، إلى أن مات. إنتهى كلام ابن حزم!!!!
وقال الغزالي، في بحث أفعال الرسول من كتابه الموسوم ب (المنخول في الأصول):
والمختار ما ذكره القاضي (يعني الباقلاني): وهو أنه لا يجب عقلا عصمتهم، إذ لا يستبان استحالة وقوعه (أي العصيان) بضرورة العقل ولا بنظره، وليس هو مناقضا لمدلول المعجزة، فإن مدلوله صدق اللهجة فيما يخبر عن الله تعالى، لا عمدا ولا سهوا، ومعنى التنفير باطل، فإنا نجوز أن ينبئ الله كافرا ويؤيده بالمعجزة. واختاره فرقة الأزارقة من الخوارج (وليراجع الملل والنحل ج ١ ص ١٢٢).
ونقل أبو رية في كتابه: أضواء على السنة المحمدية ص ٤٢ عن كتاب: نهاية المبتدئين لابن حمدان: إنهم معصومون فيما يؤدونه عن الله تعالى، وليسوا بمعصومين في غير ذلك، من الخطأ، والنسيان، والصغائر، وقال ابن عقيل في الارشاد: إنهم لم يعتصموا في الأفعال، بل في نفس الأداء، ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى.
وهذا ينكره علماء الشيعة فإنهم أجمعوا على أن الأنبياء معصومون لا يخطئون، ولا يعتريهم السهو والنسيان، وهم مجمعون على أنهم معصومون في الكبر والصغر، حتى في أمور الدنيا.
وقال الرازي في تفسيره الكبير ج ٣ ص ٧: واختلف الناس على ثلاثة أقوال: أحدها:
قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم، وهو قول الرافضة. وثانيها: قول من ذهب إلى عصمتهم وقت بلوغهم، ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة، وهو قول كثير من المعتزلة. وثالثها: قول من ذهب إلى أن ذلك (يعني ارتكاب الكفر والكبيرة) لا يجوز وقت النبوة. أما قبلها فجائز، وهو قول أكثر أصحابنا، وقول أبي الهذيل العلاف، وأبي علي من المعتزلة.
وقال في الجزء ١٨ ص ٩ من تفسيره: وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها.
وأشار ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٢ ص ١٦٢ إلى ما قاله الفخر الرازي.
وأخرجه عبد بن حميد، من طريق السدي، عن صالح.
وأخرجه البزار، والطبراني، وابن مردويه، والضياء في المختارة، بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وأخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، بسند صحيح، عن سعيد بن جبير.
وأخرجه ابن جرير، وابن مردويه، من طريق العوفي، عن ابن عباس.
وأخرجه ابن مردويه، من طريق الكلبي، عن ابن صالح. ومن طريق أبي بكر الهذلي، وأيوب، عن عكرمة. ومن طريق سليمان التيمي، عمن حدثه، كلهم عن ابن عباس.
وأخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، من طريق يونس، عن ابن شهاب عن أبي بكر ابن عبد الرحمان بن الحارث: أن رسول الله إلخ… مرسل صحيح الإسناد.
وأخرجه ابن أبي حاتم، من طريق موسى بن عقبة، عن ابن شهاب.
وأخرجه البيهقي في الدلائل، عن موسى بن عقبة، ولم يذكر ابن شهاب.
وأخرجه الطبراني، عن عروة مثله.
وأخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس.
وأخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم بسند صحيح، عن أبي العالية.
وأخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية، بتفاوت يسير مع الذي قبله.
وأخرجه ابن أبي حاتم، عن قتادة، وعن السدي.
وأخرجه عبد بن حميد، عن مجاهد، وعكرمة.
كانت تلك هي أسانيد هذا الحديث المجعول جمعها السيوطي في تفسيره وخلاصته: أن رسول الله ” ص ” لما قرأ: ” أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى ” ألقى الشيطان على لسانه، وفي بعضها فألقى في أمنيته (تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى)، فقال المشركون:
ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، فسجد، وسجدوا، ثم جاءه جبرئيل بعد ذلك فقال:
اعرض علي ما جئتك به، فلما بلغ: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى، قال جبرئيل:
لم آتك بهذا، هذا من الشيطان، فأنزل الله: ” وما أرسلنا من قبلك من رسول، ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم ” الحج: ٥٢ وزيد في بعضها ما خلاصته: قال المشركون يذكر آلهتنا بالشتم والشر، وإن ذكرها بالخير نذكر إلهه بالخير، وأقررناه وأصحابه، فتكلم الرسول بها، فانتشر قوله ” ص ” (تلك الغرانيق..)، وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه.
أقول: صفوة القول في عصمة الأنبياء عند الأشاعرة، هو عدم وجوب عصمتهم قبل النبوة بالاتفاق عندهم. ويجوز عليهم ارتكاب الكفر وأنواع المعاصي، ويؤيد ذلك ما نسبوه إلى النبي ” ص “، في فضل عمر بن الخطاب: (لو كان بعدي نبي، لكان عمر بن الخطاب) رواه في أسد الغابة ج ٤ ص ٦٤، ونور الأبصار ص ٦١، وتاريخ ابن عساكر ج ٣ ص ٢٨٧، وتاريخ الخلفاء ص ١١٧، وقال: أخرجه الترمذي، والحاكم، وصححه عن عقبة بن عامر، وأخرجه الطبراني عن أبي سعيد الخدري، وعصمة بن مالك، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عمر… مع أنه قد تواتر في كتب التاريخ والحديث: أن عمر أسلم في السنة السادسة بعد البعثة، أو بعد ذلك، وله على الأقل سبع وعشرون سنة.
وأما بعد النبوة، فأكثرهم على عدم وجوبها أيضا، كما صرح به الغزالي وغيره كما تقدم، واعتمد حفاظهم في تفسير قوله تعالى: ” وما أرسلنا من قبلك من رسول “، على أمثال هذه الروايات المختلفة. فراجع الدر المنثور للسيوطي ج ٤ ص ٣٦٤ وقال الآخرون من أهل السنة بوجوب العصمة بعد النبوة من الكبائر والصغائر عمدا. وأما سهوا، فإن كان من الكبائر فبينهم خلاف، وإن كان من الصغائر، فقد قال القاضي ابن روزبهان: هو جائز اتفاقا، بين أكثر أصحابنا، وقال: وأما الصغائر عمدا فجوزها الجمهور…
وأما عند الإمامية: فيجب في النبي أن يكون طاهر الولادة، طيب النسل لم يشرك أحد من آبائه من آدم إلى الخاتم، كما تقدم عن علي ” ع ” في خطبته رقم (٩٤) في نهج البلاغة:
” فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرهم في خير مستقر، تناسختهم كرائم الأصلاب، إلى مطهرات الأرحام ” إنتهى، ويقولون: إن الأنبياء معصومون من وقت مولدهم، وصرح بذلك غيره من أئمة أهل البيت المعصومين ” ع “، فراجع الكتب المعتبرة عند الإمامية ومن الأدلة التي أقامها الفخر على العصمة بعد النبوة الآية (١٢٤) من سورة البقرة:.
” لا ينال عهدي الظالمين ” حيث قال: والمراد: إما عهد النبوة، أو عهد الإمامة، فإن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا تثبت الإمامة للظالمين، وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين، وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين، لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به، والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنبا..
أقول: لا يخفى على من أمعن النظر في الآية الكريمة: أنها تنفي نيل الظالمين العهد المذكور فيها بعنوان القضية الحقيقية، ولم يلحظ فيها زمان دون زمان، فالآية الكريمة صريحة في نفي العهد عمن ارتكب الظلم في آن من آنات عمره. قال السيد سابق: في ” العقائد الإسلامية ” ص ١٨٣: إن رسل الله يدركون بحسهم الذي تميزوا به على غيرهم من البشر: أنهم دائما في حضرة القدس، وأنهم يبصرون الله في كل شئ، فيرون مظاهر جماله وجلاله، ودلائل قدرته وعظمته، وآثار حكمته ورحمته (إلى أن قال) فتمتلئ قلوبهم إجلالا لله، ووقارا له، فلا يبقى فيها مكان لشيطان، ولا موضع لهوى، ولا جنوح لشهوة، ولا إرادة لشئ سوى إرادة الله.
وقال عفيف عبد الفتاح طباره في كتابه: ” مع الأنبياء في القرآن الكريم ” ص ١٩: فالله سبحانه تولى تأديبهم وتربيتهم، وعصمهم عن الوقوع في الذنوب والمعاصي، فلم تكن حياتهم لأنفسهم، بل كانوا مثلا يهتدى بهديهم، ويسار على نهجهم، ثم غدت سننهم، وذكراهم من بعد وفاتهم، مصابيح تضئ للإنسانية ظلمة الحياة، وتوضح لها طرق الرشاد، فهم الهداة الذين أمرنا الله بالاقتداء بهم.
وأما قوله تعالى: ” وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ” الكلام في هذه الآية ووضوح تفسيرها يستدعي البحث في معنى الرسول، والنبي، والمرسل، أن الرسول صفة مشبهة لازم هو من يتلقى العلوم من الله بواسطة الملك بحيث يراه ويشاهده ويكلمه مشافهة ويقرء عليه أو يلقى إليه كلام الله تعالى فيسمى ذلك رسالة والإنسان الواجد لهذا الأمر رسولا والغاية في إطلاق الرسول عليه هي أخذه لرسالة الله بواسطة رسل السماء فقد أدوا إليه رسالة ربهم فصار رسولا أي ذا رسالة.
وإن كان التلقي وإفاضة العلم من الله تعالى بغير الطريق المذكور فهو يسمى نبوة سواء كان ذلك الطريق الآخر هو الالهام الصريح والحضور مثل ما أوحي لنبينا ليلة المعراج، وما أوحي إلى موسى في طور سيناء، أو سماع صوت في النوم أو اليقضة أو بالقذف في قلبه (النبي صفة مشبهة لازم كشريف) قال الله تعالى: ” وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم (شورى: ٥١)
وأشار لما استظهرناه فخر الدين الرازي في تفسيره ج ٢٧ ص ١٧٦ بقوله: ويشهد على ذلك أن لفظ النبي والرسول صفتان مشبهتان أخذ من الفعل اللازم، والمرسل من باب الأفعال متعد غير لازم فليس الرسول بمعنى المرسل والرسل بمعنى المرسلين إلى الناس.
وأيضا يشهد لما استظهرناه في معنى الرسول والنبي وقوعهما مفعولا لارسل وبعث في آيات كثيرة من القرآن العزيز فراجعها، فتلخص مما ذكرنا أن الرسول والنبي صفتان لشخص النبي والرسول من حيث أخذ الوحي وكيفيته، وأما كونه مرسلا ومبعوثا فهو مرتبة متأخرة عن ذلك وهي مرحلة التبليغ والبشارة والانذار قال تعالى حكاية عن عيسى بن مريم: ” إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا ” مريم: ٣٠ إن عيسى (ع) حين تكلم في المهد كان نبيا وحجة الله على خلقه ولم يكن مرسلا فلا مناص من التفكيك بين المقامين: مقام النبوة والرسول ومقام الارسال والبعث.
فإذا لاحظنا هذا التفكيك بين المقامين يظهر لنا أن متعلق الأمنية في كلامه تعالى: ” وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ” إنما هو فعل أرسل لا الرسول ولا النبي في الآية الكريمة ومرحلة الارسال هو إصلاح الناس بالابشار والانذار في شؤون حياتهم الدينية والاجتماعية، وما من نبي ولا رسول إلا يتمنى فلاح قومه ورجوعهم عن غيهم وضلالهم.
وإلقاء الشيطان في أمنيته، هو بأن يوسوس في قلوب المخاطبين فيحرك الجبابرة وأعوانهم على عداوته فينسخ الله ما يلقي الشيطان من قلوب المؤمنين فلا تقبله، ولا تصغي إليه غير قلوب المنافقين والجاحدين كما قال تعالى:
” إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ” حجر: ٤٢، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم (٥٢) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق (٥٣) وليعلم الذين أتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ” الحج ٥٤ بأن يحمي أولياءه من الضلال والعدوان: ومتابعة الكفر والطغيان الذين لم يرض أن يجعلهم كالأنعام حتى قال لمن تبع أهل الكفر والعناد ” أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ” الأعراف:
١٧٩.
وأيضا: أن آية التمني هي آية ٥٢ من سورة الحج التي هي مدنية بالاتفاق إلى أنها نزلت بعد الحجر بعدة سنين، وجعل قضية الغرانيق التي زوروها كانت بعد البعثة بخمس سنين وينطبق قبل الهجرة لا بعدها.
فائدة: إن الأنبياء يأخذون الوحي ويحفظونه ويميزون كلام الله من غيره بالقدرة المفاضة من الله العزيز الحكيم مما هو حقيق بمنصبهم الإلهي كما قال الله تعالى ” وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي على صراط مستقيم ” الشورى: ٥٢ فعير فيها عن هذه القدرة المفاضة من عنده تعالى بالروح وسماها أئمة أهل البيت (ع) في الأحاديث الواردة في تفسيرها وموارد أخرى ب (الروح القدس) فبهذا الروح يسددهم ويوفقهم بالخيرات ويبعدهم عما يوجب الطعن في الروح الإنسانية من ارتكاب القبايح والمعاصي عمدا أو سهوا أو خطأ وعن كلما يوجب نقصا في الروح الانساني مع القرآن الكريم.
وقد عقد البخاري في صحيحه ج ٤ ص ٢٣١ بابا بهذا العنوان: (كان النبي صلى الله عليه وآله تنام عينه ولا ينام قلبه وروى فيه النبي صلى الله عليه وآله تنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك سائر الأنبياء (ع) تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم وروى أحمد بن حنبل في مسنده في موارد منها ج ١ ص ٢٢٠ والله الهادي.
(٣) الأنعام: ٩١.
وحديث الحميدي أيضا: (كنت ألعب بالبنات في بيته، وهن اللعب) (١).
مع أنهم رووا في صحاح الأحاديث: أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صور مجسمة، أو تماثيل (٢)، وتواتر النقل عنه، بإنكار عمل الصور والتماثيل (٣)، فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلى النبي ” ص “، وإلى زوجته من عمل الصور في بيته، الذي أسس للعبادة (٤)، وهو محل هبوط الملائكة، والروح الأمين في كل وقت؟! (٥).
ولما رأى النبي ” ص ” الصور في الكعبة لم يدخلها حتى محيت (٦)، مع أن الكعبة بيت الله تعالى، فإذا امتنع من دخوله، مع شرفه، وعلو
(٣) صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٣١ و ٣٣٢ و ٣٣٣ و ٣٣٤، وصحيح البخاري ج ٧ ص ٢١٥ باب عذاب المصورين يوم القيامة وباب نقض الصور، وباب ما وطي من التصاوير ص ٢١٦ باب من كره القعود على الصورة، وباب كراهية الصلاة في التصاوير ص ٢١٧، باب من لم يدخل بيتا فيه صورة، وباب من لعن المصورين، وباب من صور صورة.
(٤) قال الله تعالى: ” في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها أسمه، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال ” النور: ٣٦. قال السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ٥٠ وأخرج ابن مردويه، عن أنس بن مالك، وبريدة، قال: قرأ رسول الله هذه الآية، فقام إليه رجل، فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء. (الحديث).
(٥) قال رسول الله ” ص “: ” نحن أهل بيت طهرهم الله، من شجرة النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم “. رواه السيوطي في تفسيره ج ٥ ص ١٩٩ ولا ريب في أن بيته الكريم كان محل الوحي، ومهبط أمين وحي رب العالمين.
(٦) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٦ و ٨٧، في هامشها سيرة زيني دحلان ج ٢ ص ٢٨٦.
وروى الحميدي، عن عائشة قالت: (دخل علي رسول الله ” ص “، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر، فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي ” ص “، فأقبل عليه رسول الله، وقال: دعها. فلما غفل، غمزتهما، فخرجنا) (٢).
وكيف يجوز للنبي ” ص ” الصبر على، هذا مع أنه نص على تحريم اللعب واللهو، والقرآن مملوء به (٣). وبالخصوص مع زوجته، وهلا
(٢) رواه مسلم في الصحيح ج ١ ص ٣٤٥، كتاب صلاة العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه، والبخاري في الصحيح ج ٢ ص ١٩، كتاب العيدين، باب اللعب في العيدين والتجمل فيه.
(٣) أخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي، عن أبي أمامة، عن رسول الله ” ص “،: قال لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام. في مثل هذا أنزلت هذه الآية: ” ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ” الآية لقمان: ٦ ورواه السيوطي في تفسيره ج ٥ ص ١٥٩، والطبري ج ٢١ ص ٣٩، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٩، وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٨ وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن مردويه، من طريق عائشة، مرفوعا: إن الله تعالى حرم القينة، وبيعها، وثمنها، وتعليمها، والاستماع إليها، ثم قرأ: ” ومن الناس من يشتري لهو الحديث.. ” راجع:
الدر المنثور ج ٥ ص ١٥٩ وتفسير الشوكاني ج ٤ ص ٢٢٨، وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٨ وقد جاء في السنة الشريفة، عن الرسول ” ص “: ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله تعالى إليه شيطانين، يجلسان على منكبيه، يضربان بأعقابها على صدره حتى يمسك ” راجع الكشاف ج ٢ ص ٤١١، والدر المنثور ج ٥ ص ١٥٩، وتفسير الآلوسي ج ٢١ ص ٦٨.
وقال الله تعالى: ” وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وغرتهم الحياة الدنيا ” الأنعام: ٧٠.
وقال تعالى: ” الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وغرتهم الحياة الدنيا، فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا، وما كانوا بآياتنا يجحدون ” الأعراف: ٥١.
وهل سر ذلك، والدافع إليه، وإلى نسبة السهو، وعدم العصمة إلى الأنبياء ” ع ” هو كون الخلفاء غير مأمونين من الخطأ والسهو، وعدم علمهم بالمعارف الدينية، والأحكام الشرعية، كما صرح في الكتب المعتبرة، مع أنه أساس الخلافة عندهم؟ أو غير ذلك؟.
وهل سر جعل أحاديث اللعب بالبنات، وشهوده ” ص ” المعازف والراقصات، والاستماع لأهازيجهن، هو إثبات فضيلة للخليفة الأول، والثاني كما يظهر من عدة منها؟.
أو هو إظهار منزلة حليلته عائشة عنده، كما يظهر من أخرى. ثم لا يقنعه ذلك كله، حتى يطلع زوجته عليها، في ملأ من الناس: وهو يقول لها: ” أما شبعت؟ أما شبعت؟ وهي تقول: لا، لأنظر منزلتي عنده. (راجع سنن الترمذي ج ٥ ص ٢٨٤ والتاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٣١٤، ومصابيح السنة ج ٢ ص ١٩٦).
مع أن الغناء والملاهي من عمل الشيطان، ومما حرم في الشريعة المقدسة، بنص الكتاب والسنة أفمن العقل أن تعزى إليه ” ص ” تلك المسامحة المسقطة له عن محله إلى هوة الجهل؟ وينتهرها الخليفة الأول، ويدحضها الثاني فحسب، دون رسول الله ” ص “؟ وما هذا الشيطان الذي لا يخاف من الرسول، ويفرق من عمر؟ وأي نبي هذا الذي يسمع الملاهي، وترقص بين يديه الرقاصة الأجنبية، وتضرب بالدف وتغني، أو ينظر هو وزوجته إلى تلك المواقف المخزية، ثم يقول: ” لست من دد، ولا الدد مني، أو يقول: ” لست من دد، ولا دد مني “، أو يقول: ” لست من الباطل، ولا الباطل مني “؟ (أخرجه البخاري في الأدب، وابن عساكر، راجع كنز العمال ج ٧ ص ٣٢٣، وفيض القدير ج ٥ ص ٢٦٥ كما في الغدير ج ٨ ص ٧٤.
ألا تعجب من رسول، يلعب الحبشة في مسجده الشريف الذي هو من أشرف بقاع الدنيا، والذي أسس على التقوى من أول يوم، كما صرح به القرآن الكريم قال تعالى: ” وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ” الجن: ١٨، ألا تعجب منه، يرى الحبشة يزفون ويرقصون، وهو وحليلته ينظران إليهم، وعمر ينهاهن، ويقول النبي ” ص “:
” دعهن يا عمر “. وقد قال ابن منظور في لسان العرب ج ١٩ ص ٢٧٤: قد رخص عمر في غناء الأعراب.
أقول: هذه الرواية وغيرها مما ورد في سنن البيهقي ج ١٠ ص ٢٢٤، وكنز العمال ج ٧ ص ٢٣٥ تكشف لنا سر جعل هذه الروايات، مضافا إلى ما ورد: من إحراز المعازف والغناء في أيام خلافة بني أمية مقاما عظيما عندهم كما صرح به أبو الفرج الإصبهاني في الأغاني ج ٢ ص ٢٠ و ٢١١ و ج ٤ ص ٢٦٠ و ج ٧ ص ٣٨٧ و ج ٨ ص ٣٢٦
ثم.. أليس من شرط انعقاد النذر، كون متعلقه راجحا، ومما يبتغي به وجه الله، ليكون مقربا إليه تعالى زلفى، فيصح للناذر أن يقول: لله علي كذا. وقد قال رسول الله ” ص “:
” لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله تعالى “، أخرجه أبو داود، وأحمد، كما في التاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٨٣، وقال ” ص “: ” ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه “، أخرجه ابن ماجة في سننه ج ١ ص ٦٨٦
فأي رجحان في ضرب المرأة الأجنبية الدف بين يدي الرجل الأجنبي، وغنائها ورقصها أمامه؟ إلا أن يقال: إن تلك الجارية، أو مسجد النبي ” ص ” قد أباحا تلك المحظورات..
أو أنه الوضع والغلو في فضائل الشيخين وعائشة؟ والله الهادي.
فكيف يجوز لعاقل: أن ينسب موسى ” ع ” مع عظمته، وشرف منزلته، وطلب قربه من الله تعالى، والفوز بمجاورة عالم القدس إلى هذه الكراهة؟ وكيف يجوز منه: أن يوقع بملك الموت ذلك، وهو مأمور من قبل الله تعالى؟!
وفي الجمع بين الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال في صفة الخلق يوم القيامة: وإنهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة، فيعتذر إليهم، فيأتون نوحا فيعتذر إليهم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي
كيف يحل لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء؟ وكيف الوثوق بشريعتهم، مع الاعتراف بتعمد كذبهم؟
وفي الجمع بين الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وآله قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: ” رب أرني كيف تحيي الموتى، قال:
أولم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي ” (٣)، ويرحم الله لوطا ” لقد كان يأوي إلى ركن شديد ” (٤)، (ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف، لأجبت الداعي) (٥)!.
كيف يجوز لهؤلاء الاجتراء على النبي بالشك في العقيدة؟.
وفي الصحيحين قال: (بينما الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وآله بحرابهم دخل عمر، فأهوى إلى الحصباء، فحصبهم بها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
دعهم يا عمر) (٦).
وروى الغزالي في ” إحياء علوم الدين “: (أن النبي صلى الله عليه وآله كان جالسا، وعنده جوار يغنين ويلعبن، فجاء عمر، فاستأذن، فقال النبي للجواري:
(٣) البقرة: ٢٦٠.
(٤) هود: ٨٠.
(٥) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٧٩ و ١٨٣، وصحيح مسلم ج ٤ ص ٨٩.
(٦) التاج الجامع للأصول ج ١ ص ٣٠٤، وصحيح البخاري ج ٤ ص ٤٦، وصحيح مسلم ج ١ ص ٣٤٦.
وفي الجمع بين الصحيحين: عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما قام في مصلاه، ذكر أنه جنب، فقال لنا:
مكانكم. فلبثنا على هيئتنا قياما، فاغتسل، ثم خرج إلينا، ورأسه يقطر، فكبر، وصلينا (٢).
فلينظر العاقل: هل يحسن منه وصف أدنى الناس بأنه يحضر الصلاة ويقوم في الصف وهو جنب؟ وهل هذا إلا من التقصير في عبادة ربه؟، وعدم المسارعة إليها؟، وقد قال تعالى: ” وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ” (٣)، ” فاستبقوا الخيرات ” (٤)، فأي مكلف أجدر بقبول هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وآله؟؟.
(٢) صحيح البخاري ج ١ ص ٧٤ وصحيح مسلم ج ١ ص ٢٢٧، وسنن أبي داود ج ١، في باب الجنب يصلي بالقوم وهو ناس.
(٣) آل عمران: ١٣٣.
(٤) المائدة: ٤٨.
وكيف يجوز منه أن يقول: ما نسيت؟ فإن هذا سهو في سهو، ومن يعلم أن أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول الله صلى الله عليه وآله، مع أنهما لم يذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله؟.
وفي الصحيحين، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ” أنه دعا زيد بن عمرو بن نفيل، وذلك قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه ” (٢).
فلينظر العاقل: هل يجوز له أن ينسب نبيه إلى عبادة الأصنام، والذبح
قال: فما رؤى النبي صلى الله عليه وآله من يومه ذاك يأكل مما ذبح على النصب، حتى بعث.
أقول: سر وضع حديث: أكل النبي صلى الله عليه وآله ما ذبح على النصب، ليس إلا ما هو مشهور عندهم من كون خلفائهم الثلاثة، وأبي سفيان، وأمثالهم من الآكلين مما ذبح على النصب في الجاهلية.
فكيف يجوز: أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله البول قائما؟ مع أن أرذل الناس لو نسب هذا إليه تبرأ منه؟!.
ثم المسح على الخفين، والله تعالى يقول: ” وأرجلكم ” (٢)، فانظروا إلى هؤلاء القوم: كيف يجوزون الخطأ والغلط على الأنبياء، وأن النبي
وروى ابن ماجة في سننه ج ١ ص ١١٢: وكان من شأن العرب البول قائما.
وروي عن ابن عمر، عن عمر، قال: رآني النبي صلى الله عليه وآله وأنا أبول قائما، فقال:
يا عمر، لا تبل قائما، فما بلت قائما بعد.
وعنه أيضا، في سنن الترمذي ج ١ ص ١٠: قال عمر: ما بلت قائما مذ أسلمت.
ومن اعتذاره لبوله قائما قوله: ” البول قائما أحفظ للدبر ” راجع فتح الباري ج ١ ص ٣٤٣، وإرشاد الساري ج ١ ص ٢٧٧، و ج ٤ ص ٣٦٥، وقد صرح المحققون بتناظر الصحابة في حياة عائشة بهذه المسألة، فأنكرت هي ذلك أشد الانكار، وقالت: من حدثكم:
أن النبي صلى الله عليه وآله كان يبول قائما، فلا تصدقوه. ما كان يبول إلا قاعدا، راجع:
سنن النسائي ج ١ ص ٢٦، وابن ماجة ج ١ ص ١١٢، والترمذي ج ١ ص ١٠، وقال ابن حجر في فتح الباري ج ١ ص ٣٤١: هذا الحديث صحيح السند.
(٢) المائدة: ٦. قال تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا، إذا قمتم إلى الصلاة، فاغسلوا وجوهكم، وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم “.
منها: جواز الطعن على الشرائع، وعدم الوثوق بها، فإن المبلغ إذا جوزوا عليه الكذب، وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدا، أو نسيانا، أو يترك شيئا مما أوحي إليه، أو يأمر من عنده، فكيف يبقى اعتماد على أقواله؟.
ومنها: أنه إذا فعل المعصية، فإما أن يجب علينا اتباعه فيها، فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه، واجتمع الضدان، وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة.
ومنها: أنه لو جاز أن يعصى لوجب إيذاؤه، والتبري منه، لأنه من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لكن الله تعالى قد نص على تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وآله، فقال: ” إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ” (٢).
ومنها: سقوط محله ورتبته عند العوام، فلا ينقادون إلى طاعته، فتنتفي فائدة البعثة.
ومنها: أنه يلزم أن يكونوا أدون حالا من آحاد الأمة، لأن درجات الأنبياء في غاية الشرف. وكل من كان كذلك، كان صدور الذنب عنه أفحش، كما قال تعالى: ” يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ” (٣)، والمحصن يرجم، وغيره يحد، وحد العبد نصف حد الحر.
(٣) الأحزاب: ٣٠ و ٥٧.
ومنها: أنه يلزم أن يكون مردود الشهادة، لقوله تعالى: ” إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ” (١)، فكيف تقبل شهادته في الوحي ويلزم أن يكون أدنى حالا من عدول الأمة، وهو باطل بالإجماع.
ومنها: أنه لو صدر عنه الذنب، لوجب الاقتداء به، لقوله تعالى:
” أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ” (٢)، ” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ” (٣)، ” فاتبعوني ” (٤)، والتالي باطل بالإجماع، وإلا اجتمع الوجوب والحرمة.
نزاهة للنبي صلى الله عليه وآله عن دناءة الآباء وعهر الأمهات
المبحث الثالث: في أنه يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء، وعهر الأمهات (٥).
(٣) الأحزاب: ٢١
(٤) آل عمران: ٣١ وطه: ٩٠
(٥) مسألة طهارة آباء النبي وأمهاته هي من المعارف الأصيلة عند الإمامية، تأسيا بأئمتهم المعصومين عليهم السلام، وقد قال الله عز وجل: ” وتقلبك في الساجدين ” الشعراء: ٢١٩، فروى ابن بابويه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: كنت في صلبه، وهبط إلى الأرض وأنا في صلبه، وركبت السفينة في صلب نوح ” ع “، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم، لم يلتق أبوان على سفاح قط، لم يزل الله ينقلني في الأصلاب الطيبة، إلى الأرحام الطاهرة، هاديا مهديا، حتى أخذ الله بالنبوة عهدي، وبالاسلام ميثاقي. (الحديث..).
وعن أبي ذر رحمه الله، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد، نسبح الله تعالى عند العرش، قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه، ولقد سكن الجنة ونحن في صلبه، ولقد ركب نوح السفينة ونحن في صلبه، ولقد قذف إبراهيم في النار ونحن في صلبه، فلم يزل ينقلنا الله عز وجل من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة حتى انتهى إلى عبد المطلب، فقسمنا نصفين، فجعلني في صلب عبد الله وجعل عليا في صلب أبي طالب. (الحديث) راجع تفسير البرهان ج ٢ ص ١٩٢
وقال علي بن إبراهيم: حدثني محمد بن الوليد، عن محمد بن الفرات، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: ” الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين “، قال: في أصلاب النبيين صلوات الله عليهم أجمعين (تفسير القمي ص ٤٧٤، ونور الثقلين ج ٤ ص ٦٩، والبحار ج ١٥ ص ٣).
وعن أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام، عن قوله عز وجل: ” وتقلبك في الساجدين “؟ قال: يرى تقلبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي، حتى أخرجه من صلب أبيه، من نكاح غير سفاح، من لدن آدم (بحار الأنوار ج ١٥ ص ٣).
وقال الطبرسي: وقيل: معناه: وتقلبك في أصلاب الموحدين، من نبي إلى نبي، حتى أخرجك نبيا، عن ابن عباس، في رواية عطا وعكرمة، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله صلوات الله عليهما، (تفسير مجمع البيان ج ٧ ص ٢٠٧).
وقد سبق وذكرنا ما في النهج عن علي عليه السلام، في شأن الأنبياء عليهم السلام.
وعقد السيوطي بابا لذلك في كتابه: ” الخصائص الكبري ج ١ ص ٣٧ ط حيدر آباد دكن ” وقال ما لفظه: أخرج ابن سعيد، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح.
وأخرج الطبراني، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ولدني من سفاح الجاهلية شئ، وما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام.
وأخرج ابن سعد، وابن عساكر، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خرجت من نكاح غير سفاح.
وأخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، في المصنف، عن محمد بن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إنما خرجت من نكاح: ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم، لم يصبني من سفاح الجاهلية شئ ولم أخرج إلا من طهرة.
وأخرج أبو نعيم، من طريق عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لم يلتق أبواي قط على سفاح. لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، مصفى، مهذبا، لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما.
وأخرجه البزار، والطبراني، وأبو نعيم، من طريق عكرمة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ” وتقلبك في الساجدين ” قال: ما زال النبي صلى الله عليه وآله يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه.
وراجع أيضا كنز العمال ج ٦ للمتقي الهندي طبع حيدر آباد دكن، والطبقات الكبرى ج ١ القسم الأول ص ٣١ لمحمد بن سعد، كاتب الواقدي، طبع ليدن.
وقال بعض العارفين: ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فالمسجود له حقيقة هو الله تعالى، وآدم عليه السلام كالقبلة، وتلك القبلة المقصد الأعظم منها إنما هو النور المحمدي، الذي في جبهته ولما حملت حواء ” ع ” بشيث انتقل ذلك النور إليها.. ثم لما وضعته ” ع ” ظهر ذلك النور في جبهته وكان هو وصي آدم ” ع ” على ذريته، وأوصاه آدم: أن لا يضع ذلك النور إلا في المطهرات من النساء، ولم تزل هذه الوصية جارية بينهم، تنتقل من قرن إلى قرن، إلى أن وصل ذلك النور إلى جده عبد المطلب، ثم إلى ابنه عبد الله، ثم إلى أمه آمنة، وطهر الله تعالى هذا النسب من سفاح الجاهلية.. (سيرة زيني دحلان مفتي ديار مكة في هامش السيرة الحلبية ج ١ ص ٨).
وقال في صفحة (٣٣) في كتابه هذا: ” وقد صح في أحاديث كثيرة: أنه صلى الله عليه
(وآله) وسلم، قال: لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطيبات، وفي رواية: لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة. (إلى أن قال) قوله صلى الله عليه وآله: من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، ودليل على أن آباء النبي صلى الله عليه وآله وأمهاته إلى آدم وحواء ليس فيهم كافر، لأن الكافر لا يوصف بأنه طاهر.
وقال في صفحة (٥٩)، بعد نقل الرواية: فالكافر لا يوصف بأنه طاهر، فقيه دليل على طهارة آبائه وأمهاته من الكفر.
وقال في صفحة (٦٢): وقال الفخر الرازي في تفسيره: إن أبوي النبي صلى الله عليه وآله كانا على الحنيفية دين إبراهيم ” ع “، كما كان زيد بن عمرو بن نفيل، وأضرابه. بل إن آباء الأنبياء كلهم ما كانوا كفارا، تشريفا لمقام النبوة، وكذلك أمهاتهم، وإن آزر لم يكن أبا لإبراهيم، بل كان عمه، ويدل لذلك قوله تعالى: ” وتقلبك في الساجدين ” مع قوله صلى الله عليه (وآله) وسلم: ” لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات. وقال تعالى: ” إنما المشركون نجس ” (التوبة: ٢٨)، فوجب أن لا يكون أحد أجداده مشركا: (وأن لفظ الأب قد يطلق على العم، كما قال أبناء يعقوب له:
” نعبد إلهك، وإله آبائك: إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق (البقرة: ١٣٣) فسموا إسماعيل: أبا له مع أنه كان عما له) وراجع أيضا التفسير الكبير للفخر الرازي ج ٢٤ ص ١٧٥، وزاد زيني دحلان قوله: ” وقد ارتضى كلامه هذا أئمة محققون، منهم العلامة السنوسي، والتلمساني محشي الشفاء، فقالا: لم يتقدم لوالديه صلى الله عليه وآله شرك، وكانا مسلمين، لأنه عليه الصلاة والسلام انتقل من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، ولا يكون ذلك إلا مع الإيمان بالله تعالى.
(ما نقله المؤرخون قلة حياء وأدب)، وقد أيد جلال الدين السيوطي كلام الفخر الرازي بأدلة كثيرة، وألف في ذلك رسائل، فجزاه الله خيرا، وشكر سعيه.. قال حافظ بن ناصر رحمه الله:
تنقل أحمد نورا عظيما | تلألأ في جباه الساجدينا |
تنقل فيهم قرنا فقرنا | إلى أن جاء خير المرسلينا |
(إنتهى كلام زيني دحلان)
وقال الماوردي، في كتاب أعلام النبوة: وإذا اختبرت حال نسبه صلى الله عليه وآله، وعرفت طهارة مولده، علمت أنه سلالة آباء كرام. ليس فيهم مستر ذل بل كلهم سادة، قادة.
وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوة. (السيرة الحلبية ج ١ ص ٢٨ وفي هامشها، والسيرة النبوية لزيني دحلان ج ١ ص ١٢).