المسألة الثانية: في تفضيل بين عائشة وبين خديجة وفاطمة عليهما السلام
فقد ذهب فيها إلى القول بتفضيل عائشة على خديجة رضي الله عنها.
الصفحة 17
واستدلّ لذلك بما روي عن أنس بن مالك، أنّه قيل: يا رسول الله، من أحبّ الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها.
قال النعساني: وروي هذا من طريق عمرو بن العاص، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى، فلولا أنّ الله أوحى بذلك إليه لم يقع ذلك منه، وهذا يدلّ على أنّ عائشة أفضل النساء. انتهى(1) .
قلـت:
قد سلف الكلام في التفضيل بين أُمّ المؤمنين خديجـة رضي الله عنها وعائشة بنت أبي بكر، وعرفت الحقّ فيه، فإذن لا يُعبأ بقوله.
نعم، حكى شيخ الاِسلام ابن حجر عن ابن القيِّم أنّه قال: إنْ أُريد بالتفضيل كثرة الثواب عند الله فذاك أمر لا يُطَّلع عليه، فإنّ عمل القلوب أفضل من عمل الجوارح، وإنْ أُريد كثرة العلم فعائشة لا محالة.
وتعقّبه بأنّ ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإنّ لخديجـة ما يقابله، وهي أنّها أوّل من أجاب إلى الاِسلام ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجّه التامّ، فلها مثل أجر من جاء بعدها، ولا يقدّر قدر ذلك إلاّ الله. انتهى(2) .
فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه ليس لعائشة ما تفضل به على خديجة رضي الله عنها إلاّ ما يدّعى من حديث الثريد، وسيأتي إن شاء الله البحث فيه بما ليس عليه من مزيد.
____________
(1) الدرّ النضيد من مجموعة الحفيد: 55.
(2) فتح الباري 7|136.
الصفحة 18
وأمّا ما احتجّ به من الحديث على تفضيل عائشة على سائر النساء، فغير صالحٍ للاحتجاج، وذلك من وجوه ثلاثة:
الاَوّل: أنّ حديث أنس لم يروه عنه إلاّ حُميد بن أبي حُميد الطويل(1) ، وكان يدلِّس عن أنس.
قال أبو بكر البرديجي: حديث حُميد لا يُحتجّ منه إلاّ بما قال: «حدّثنا أنس»(2) .
قلـت:
وقد عنعن في حديثه هذا(3) ولم يصرّح بالتحديث.
وأمّا حديث عمرو بن العاص، فقد أخرجه الشيخان والترمذي(4) ، عن خالد بن مهران الحذّاء، عن أبي عثمان النهدي، عنه؛ لكنّه منقطع.
قال عبـدالله بن أحمد بن حنبل في كتاب «العلل» عن أبيه: لم يَسمع خالد الحذّاء من أبي عثمان النهدي شيئاً.
وقال أبو حاتم: يُـكتب حديثه ولا يُحتجّ به(5) .
الثاني: أنّه معارِض لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أحبّ أهلي إليّ فاطمة» أخرجه
____________
(1) سنن ابن ماجة 1|38 ح 101، سنن الترمذي 5|707 ح 3890.
(2) تهذيب التهذيب 2|26.
(3) سنن ابن ماجة 1|38 ح 101، سنن الترمذي 5|707 ح 3890.
(4) صحيح البخاري 5|209 ـ 210 ـ كتاب فضائل الصحابة ـ باب قول النبيّ 6: لو كنت متّخذاً خليلاً، كتاب المغازي ـ باب غزوة ذات السلاسل، صحيح مسلم 4|1856 ح 2384 ـ كتاب الفضائل ـ باب (من فضائل أبي بكر)، سنن الترمذي 5|706 ح 3885.
(5) تهذيب التهذيب 2|74.
الصفحة 19
الترمذي والحاكم وصحّحه، وكذا الطبراني والديلمي وغيرهم عن أُسامة بن زيد، ورمز السيوطي في «الجامع الصغير» لصحّته.
قال المناوي في «فيض القدير»(1) : حبّه إيّاها ـ يعني فاطمة عليها السلام ـ كانت أحبّـيّة مطلقة، وأمّا غيرها فعلى معنى (مِنْ)(2) ، وحبّه لها كان جبّلّـيّـاً ودينيّاً، لِما لها من جموم المناقب والفضائل. انتهى.
وأخـرج الترمذي والحاكم، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال: كان أحبّ النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمـة عليها السلام، ومن الرجال عليّ عليه السلام(3) .
وروى جُميع بن عمير التيمي أنّ عائشة سُئلت: أيّ الناس كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قالت: فاطمة، فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجهـا(4) 4.
والاَحاديث في ذلك كثيرة، والسنن شهيرة وفيرة، فلا غرو لو ادُّعي الوضع والاختلاق في حديث أنس وعمرو بن العاص، إذ لا تكاد تجد منقبة من مناقب الآل إلاّ وافتعل النواصب في حقّ أوليائهم ما ينقاضها ويعارضها، فكيف تسنّى له أن يسند ذلك إلى إيحاء الله تعالى به لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، والله المستعان على ما يصفون.
____________
(1) فيض القدير 1|168، إتحاف السائل: 27.
(2) أي: مِن أحبّ النساء إليَّ عائشة، وهذا لا يمنع أن تكون فاطمـة عليها السلام على رأسهنّ محبّةً.
(3) سنن الترمذي 5|698 ح 3868، المستدرك على الصحيحين 3|155، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الاِسناد، ورواه النسائي أيضاً في الخصائص: 29، وابن عبـد البرّ في الاستيعاب 4|378.
(4) أخرجه الترمذي في سننه 5|701 ح 3874، والحاكم في المستدرك 3|154 و 155 و 157، والنسائي في الخصائص: 29، وغيرهم.
وانظر: فضائل الخمسة 2|206 ـ 209.