البدعة وآثارها الموبقة (لـ جعفر السبحاني)
19 أبريل,2018
بحوث اسلامية, صوتي ومرئي متنوع
1,089 زيارة
تقسيم البدعة إلى عادية وشرعية
قد عرفت أنّ للبدعة تقسيمات باعتبارات مختلفة، وعرفت مدى صحّة تقسيمها إلى حسنة وسيئة، ومنها أنّها تنقسم إلى عادية وشرعية، وهذا العنوان أوضح ممّا ذكره الشاطبي حيث قال:
تقسيمها إلى العادية والتعبديّة(1)، وذلك لأنّ الأُمور التعبديّة قسم من الأحكام الشرعية التي يعتبر في صحة امتثالها قصد القربة، والإتيان بها لأجل التقرّب وكسب الرضا وامتثال الأمر، وهي منحصِرَة بالطهارات الثلاث: الوضوء والتيمّم والغسل بأقسامه، والصلاة والزكاة
____________
1- الشاطبي، الاعتصام 2: 79.
والصوم والحجّ والنذر وما ضاهاها، ولكن الأُمور الشرعية هي التي للشارع فيها دور، أوسع من التعبديّات. ولذلك قسّم الفقهاء الأحكام الشرعية إلى أربعة:
1 ـ العبادات، ويدخل فيها ما ذكرناه من الأصناف.
2 ـ العقود، وتدخل فيها عامة المعاملات ممّا تحتاج إلى إيجاب وقبول، كالبيع والرهن والوديعة والصلح والشركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة إلى غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه.
3 ـ الإيقاعات وهي ما تقوم بجانب واحد، كالطلاق بأقسامه والإيلاء والظهار، وتدخل فيها المواريث إلحاقاً حكمياً.
4 ـ السياسات، ويدخل فيها القضاء والحدود والديات وما شابهها.
فلو كان هناك شيء خارج عن الأبواب الأربعة موضوعاً، فهو بوجه ما ملحق بواحد منها، فهذه كلّها أُمور شرعية وللشارع فيها دور، إمّا تأسيساً واختراعاً، كالعبادات والحدود والديات، أو إمضاءً واعترافاً لما في يد العقلاء، لكن مع تحديدها بشروط مذكورة في الفقه. فالتدخل في هذه الأبواب الأربعة بزيادة أو نقيصة كالنكاح بلا صداق، أو البيع بلا ثمن، والإجارة بلا أُجرة، والطلاق في أيام الحيض أو تجويز الربا وبيع الكلب والخنزير، أو تحوير الأحكام الشرعية في باب السياسات، كلّها بدعة في أُمور شرعية.
فهذا ما يُلْزِمنا من أن نعبّر بالشرعية مكان التعبدية إلاّ أن يراد منها ما يرادف مطلق الأحكام والأُمور الشرعية فإذاً لا مشاحة في الاصطلاح.
وأمّا العادية: فهي إمّا تدور مدار تقاليد وأعراف الناس، سواء أكانت لها جذور تاريخية أم كانت أمراً محدثاً. وإمّا تطوير لمظاهر الحياة العامة، الصناعية أو الثقافية أو الزراعية أو غير ذلك. وكل ذلك أُمور عادية تركها الشارع إلى الناس، وجعل الأصل فيها الإباحة، لكنّه حدّدها بأُطر عامة، ولم يتدخل في جزئياتها، فكلّما تخالف الضوابط العامة فالناس فيها أحرار يفعلون ما يشاءُون، ويعملون ما يريدون، بشرط أن لا تخرج عن تلك الأُطر الكلية.
فعلى ذلك هل يقع البحث في صدق البدعة في الأُمور العادية مقابل الأُمور الشرعية التي تعرّفت على معناها الواسع، أو لا يقع؟ وبما أنّك وقفت على حدود البدعة، وأنّها عبارة عن الزيادة أو النقيصة في الشريعة والتدخل في الأُمور الدينية، فلا تصدق في مورد الأُمور العادية بأي نحو كانت، إذ ليست هي أُموراً تمتّ إلى الشرع، فأمرها يدور بين الجائز والحرام لا بين البدعة والسنّة. وليس كلّ حرام بدعة، وإليك التوضيح:
إنّ لكلّ قوم آداباً خاصة في لقاءاتهم السنويّة، وأمورهم العمرانية، وفي كيفية استغلال الطبيعة، فمثلا ربّما تقتضي مصلحتهم تخصيص يوم واحد لتكريم زعيمهم، أو يوم واحد للبراءة من عدوّهم، أو توجب المصالح تطوير خدماتهم العمرانية وما ضاهاها، أو استخدام أجهزة حديثة لاستغلال الطبيعة، فقد ترك الشارع هذه الأُمور إلى الناس، ولم يتدخل فيها إلاّ بوضع الأُطر العامة لها، وهي أن لا يكون العمل مخالفاً للقواعد والضوابط العامة، ولولا هذه المرونة لما كان الإسلام
ديناً عالمياً سائداً، ولتوقّفت حركته منذ أقدم العصور، ونأتي بمثال لمزيد من التوضيح:
قد حدثت في العصور الأخيرة عدّة تقاليد في ميدان الألعاب الرياضية ككرة القدم، والسلّة، والطائرة، والمصارعة والملاكمة وغير ذلك، فبما أنّها أُمور عادية محدثة فلا تعدّ بدعة في الدين. ولو صحّ اطلاق البدعة فإنّما هو باعتبار المعنى اللغوي، أي الشيء الجديد في ميادين الحياة، لا في الأُمور الشرعية، غاية الأمر يجب أن تحدد شرعيتها بالضوابط الكلية، بأن لا يكون هناك اختلاط بين اللاعبين نساءً ورجالا وأن لا يكون هناك ضرر واضرار كما هو المحتمل في الملاكمة.
والحاصل: أنّ الأصل في الأُمور العادية هو البراءة حتى يدل دليل على خلافه. وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء منهم ابن تيمية، يقول:
إنّ أعمال الخلق تنقسم إلى قسمين:
“1 ـ عبادات(1): يتّخذونها ديناً ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة، والأصل أن لا يشرَّع منها إلاّ ما شرّع الله.
2 ـ عادات: ينتفعون بها في معايشهم، والأصل فيها أن لا يُحظر فيها إلاّ ما حظّر الله”(2).
ثمّ إنّه لو أتى في العادات بما حظّره الله لا تعدّ بدعة بل يكون محرّماً، لأنّ المفروض أنّه يأتي به ويُحدثه باسم التقاليد لا باسم الدين، وربما يعترف بكونه على خلاف الدين، كإشراك النساء السافرات في
____________
1- يريد من العبادات: الأُمور الشرعية من دون أن تختص بما يعتبر في امتثالها قصد القربة.
2- ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم: 129.
الضيافة مع الرجال. حتى وإن صار الأمر العادي المحرم رائجاً بينهم.
نعم شذّ قول الدكتور عزت علي في المقام حيث يقول: “في ما حظّره الله منها إذا كان من الأُمور المحدثة كان بدعة”(1).
لكن يلاحظ عليه، بما ذكرناه في تحديد البدعة بتضافر الكتاب والسنّة على كونه التدخل في أمر الشريعة بالزيادة أو النقيصة وتنسيبه إلى الشارع، وهذا لا يصدق على كلّ محدث في الأُمور العادية، وإن كان محرّماً، نعم هو بدعة بالمعنى اللغوي، حتى لو صار عمله الإجرامي سنّة سيئة يكون عليه وزر كل من عمله بها، لكن لا بما أنّه أبْدَع في الدين، وتدخل في الشريعة،وقد مرّ نص في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله): من سنّ سنّة حسنة… الخ ما يفيدك في المقام.
قال الشيخ شلتوت: “التكاليف الشرعية تنقسم إلى عقائد وعبادات ومحرّمات(2)، ثمّ قال: أمّا ما لم يتعبدنا(3)الله بشيء منه، وإنّما فوّض لنا الأمر فيه باختيار ما نراه موافقاً لمصلحتنا، ومحققاً لخيرنا بحسب العصور والبيئات، فانّ التصرّف فيه بالتنظيم أو التغير، لا يكون من الابتداع الذي يؤثّر على تدين الإنسان وعلاقته بربّه،بل أنّ الابتداع فيه من مقتضيات التطوّر الزمني الذي لا يسمح بالوقوف عند حدّ الموروث من وسائل الحياة عن الآباء والأجداد(4).
____________
1- عزت علي، البدعة: 265.
2- لا يخفى ما من المسامحة في هذا الحصر، لأنّ التكاليف الشرعية أوسع من الثلاثة كالأحوال الشخصية.
3- يريد من التعبّد، ما للشارع فيه دور، فيعم جميع أبواب الفقه والأقسام الأربعة.
4- الشيخ شلتوت، الفتاوي: 163.
الإسلام بين التزمّت والتحلل من القيود الشرعية
إنّ بين المسلمين من يريد حصر الأُمور السائغة بما هو موجود في عصر الرسول الأكرم، لذا يعد نَخْل الدقيق بدعة، بحجة أنّه لم يكن في عصره (صلى الله عليه وآله) أيّ منخل(1). وبين من يريد التحلّل من كلّ قيد ديني في مجال العمل، فلا يلتزم في حياته بشيء مما جاء به الإسلام.
فالإسلام لا هذا ولا ذاك، فهو يرفض التزمّت إذا كان العمل غير خارج عن الأُطر العامة الواردة في الكتاب والسنّة، كما يرفض التحلّل من كلّ قيد. فآفة الدين ليست منحصرة بالثاني بل آفة الأوّل ليست بأقل منه.
فانّ حصر الجائز من الأُمور العادية بما كان رائجاً في عصر النبيّ أو عصر الصحابة كبت للعقول، وتقييد للحركة الحضارية عن التقدّم نحو الكمال. وإظهار الإسلام بأنّه غير قابل للتطبيق في جميع الأعصار المتقدّمة فضلا عن عصر الذرّة. علماً أنّ من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي، وأعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف وتعاقب الأجيال كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة والدعوة إلى الروح، وديناً وسطاً بين المادية البحتة والروحية المحضة فقد آلف بتعاليمه القيّمة بينهما، مؤالفة تفي بحقّ كلّ منهما، بحيث يتيح للإنسان أن يأخذ قسطه من كلّ منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.
____________
1- الشاطبي، الاعتصام 2: 73.
وذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية، حتى كادت أن تجعل كلّ مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى، فدعت إلى الرهبانية، وترك ملاذ الحياة، والانعزال عن المجتمع، والعيش في الأديرة وقلل الجبال، وتحملّ الظلم والرفق مع المعتدين. كما غالت اليهوديّة في الانكباب على المادة حتى نسيت كلّ قيمة روحية وجعلت الحصول على المادّة بأيّ وسيلة كانت، المقصد الأسنى، ودعت إلى القوميّة الغاشمة والطائفية المقيتة.
وهذه المبادئ سواء أصحّت عن الكليم والمسيح عليهما السلام أم لم تصحّ (ولن تصحّ إلاّ أن يكون لإنقاذ الشعب الإسرائيلي من ملاذ الحياة يوم ذاك وإنجائهم عن التوغّل في الماديات، وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف، وإن شئت قلت: “كانت تعاليمه إصلاحاً مؤقتاً لإسراف اليهود وغلوّهم في عبادة المال حتى أفسدوا أخلاقهم، وآثروا دنياهم على دينهم”) هذه المبادئ لا تتماشى مع الحضارات الإنسانية التقدميّة ولا تسعدها في معترك الحياة، ولا تتلاءم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة.
لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الإنسان، بما هو كائن، لا غنى له عن المادة، ولا عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، ودعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يضر بالحياة الروحية، كما دعا إلى حياة روحية لا تصطدم مع الفطرة وطبيعتها.
هذه هي حقيقة الإسلام ومرونته وسبب تماشيه مع الحضارات المختلفة حتى حضارة اليوم الصناعية، فلو حصرنا الجائز من العاديات
بما في عصر النبيّ تكون النتيجة حياد الإسلام عن الساحة، وبطلانه، مع أنّه خاتم الشرائع، وكتابه خاتم الكتب، ونبيّه خاتم النبيّين.
هلم معي ندرس آراء المتزمّتين في الأُمور العادية ثمّ نبكي على الإسلام وأهله:
1 ـ يقول الشاطبي: إنّ من السلف من يرشد كلامه إلى أنّ العاديات كالعبادات، فكما أنّنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العاديات، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم، حيث كره في سُنّة العقيقة مخالفة من قبله في أمر العاديين، وهو استعمال المناخل، مع العلم بأنّه معقول المعنى نظراً ـ والله أعلم ـ إلى أنّ الأمر باتباع الأوّلين على العموم غلب عليه جهة التعبّد، ويظهر أيضاً من كلام من قال: أوّل ما أحدث الناس بعد الرسول الله المناخل(1).
2 ـ يحكى عن الربيع بن أبي راشد; أنّه قال: لولا أنّي أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت إذ السكنى أمر عادي بلا إشكال، ثمّ يقول: وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلا في قسم العباديات، فدخول الابتداع فيه ظاهر والأكثرون على خلاف هذا(2).
3 ـ روى الغزالي: أنّ رجلا قال لأبي بكر بن عياش: “كيف أصبحت” فما أجابه، قال: دعونا عن هذه البدعة(3).
____________
1- الشاطبي، الاعتصام 2: 79.
2- الشاطبي، الاعتصام 2: 79.
3- أبو حامد الغزالي، احياء العلوم 2: 251 كتاب العزلة.
4 ـ روى عن أبي مصعب صاحب مالك أنه قال: “قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلّى ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكاً ـ وكان قد صلّى خلف الإمام ـ فلمّا سلّم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان، فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه.
فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي، فوجّه إليه وقال: أما خفت الله واتّقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلّين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنّا نعرفه، وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): “من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”؟ فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) ولا في غيره”(1).
5 ـ حكى ابن وضاح قال: ثوَب المؤذن بالمدينة في زمان مالك. فأرسل إليه مالك فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئاً لم يكن فيه، قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه، فكفّ المؤذن عن ذلك وأقام زماناً، ثمّ إنّه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك، فقال له: ما الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له: ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم
____________
1- الشاطبي، الاعتصام 2: 68.
يكن؟
فقال: إنّما نهيتني عن التثويب. فقال له: لا تفعل. فكفّ زماناً. ثمّ جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك.
فقال: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه(1).
ومراده من التثويب هو ما يقوله المؤذن بين الأذان والإقامة “قد قامت الصلاة” أو “حيّ على الصلاة” أو “حيّ على الفلاح” أو قوله “الصلاة يرحمكم الله”.
والعجب أنّ الشاطبي مع إمامته في الفقه ربّما يتأثّر أحياناً بهذه الكلمات فيقول: فتأمّل كيف منع مالك من إحداث أمر يُخف شأنه عند الناظر فيه ببادي الرأي، وجعلَه أمراً محدثاً، وقد قال في التثويب أنّه ضلال وأنّه بيّن لأنّ كلّ محدثة بدعة،وكلّ بدعة ضلالة، ولم يسامح المؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب لأنّ ذلك جدير بأنّ يتّخذ سنّة، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوفاً من أن يكون حدثاً أحدثه.
6 ـ يقول الشاطبي: وقد أحدث في المغرب المسمّى بالمهدي تثويباً عند طلوع الفجر وهو قولهم “أصبح ولله الحمد” إشعاراً بأنّ الفجر قد طلع، لإلزام الطاعة، وحضور الجماعة، وللغد ولكلّ ما يؤمرون به فيخصّه هؤلاء المتأخّرون تثويباً بالصلاة كالأذان، ونقل أيضاً إلى أهل
____________
1- الشاطبي، الاعتصام 2: 69.
المغرب فصار ذلك كلّه سنّة في المساجد إلى الآن. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون(1).
هذه نماذج ممّا ذكره الشاطبي وغيره فتخيّلوها بدعة في الدين، وأين هذه من البدعة في الدين؟ أفترى هل يقوم أحد بهذه الأعمال الماضية باسم الدين.
أو يقوم باسم الأُمور العادية لتسهيل الأُمور ولو كان الجاهل يتلقّاها أمراً دينياً فوباله على جهله لا على الفاعل. وقد اتّفقنا مع الشاطبي في تحديد البدعة، وقد جعلها هو خاصة بالأُمور الشرعية ـ ومع ذلك نسي هنا ما ذكره في مقام التحديد ـ. نحن نفترض أنّ هذه الأعمال تتّخذ سنّة حسب مرور الأيّام،ولكنّها تكون سنّة عادية، لا دينية، ولا يمنع عنها إذا كانت مصلحة ولم ينطبق عليها عنوان محرّم. ولو تخليه الجاهل سنناً دينيّة، فعلى العالم، إرشاده، لا إعمال الضغط على المجتمع حتى يتنفّر عن الإسلام وأهله ويوادعهما.
والسبب الوحيد لهذه الزلاّت والاشتباهات التي تشوّش سمعة الإسلام، وتعرّفه ديناً متزمّتاً لا يقبل المرونة إنما هو جعل سيرة السلف وجوداً وعدماً معياراً للحقّ والباطل مكان الكتاب والسنّة في ذلك، فأين هذه الغلظة من المرونة الملموسة من الكتاب والسنّة، يقول سبحانه:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ اِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}(الحج/78).
____________
1- الشاطبي، الاعتصام 2: 70.
{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج}(المائدة/6).
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة/185).
{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا اِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}(البقرة/286).
فهذه الآيات تصرّح بأنّ الله تعالى رفع عن أُمّة محمد الإصر، ولم يفرض عليهم حكماً حرجاً صعباً كما كان في الأُمم الماضية.
وقد ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: “ممّا أعطى الله أُمّتي وفضّلهم على سائر الأُمم، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلاّ لنبيّ، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبياً قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك، وإنّ الله تبارك وتعالى أعطى ذلك لأُمّتي حيث يقول:{مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج}(1).
وظاهر هذا الحديث أنّ رفع الحرج الذي منّ الله به على هذه الأُمّة المرحومة كان في الأُمم الماضية خاصاً بالأنبياء، وأنّ الله أعطى هذه الأُمّة ما لم يعط إلاّ الأنبياء الماضين صلوات الله عليهم أجمعين.
وسئل عليّ (عليه السلام): أيُتوضّأ من فضل وضوء جماعة المسلمين (أحبّ إليك) أو يُتوضّأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال: “لا، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين، فانّ أحبّ دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة”(2).
واشتهر عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قوله: “بُعثتُ بالحنيفيّة السمحة
____________
1- البحراني، البرهان 3: 105.
2- الحر العاملي، الوسائل 1: باب 8 من أبواب الماء المضاف والمستعمل، ح 3.
السهلة”(1).
إنّ الإسلام دين عالمي لا إقليميّ، ودين خاتم ليس بعده دين. وقد انتشر الدين في المجتمعات البشرية بصورة سريعة وكانت لذلك أسباب وعلل; منها: يسر التكاليف وسهولة الشريعة، فلو كان الإسلام خاضعاً لهذا النوع من التزمّت وما يتغناه ابن الحاج(2)من سمادير الأهازيج، في كتاب المدخل لقرئ عليه، السلام في أوّل يومه، فهذا الرجل أخذ يحدث ألواناً من شتى الأباطيل ويفتريها ويسمّيها بدعة مع أنّها لا تمّت لها بصلة،بل تدور بين كونها إمّا أُموراً عادية خارجة عن موضوع البدعة بتاتاً، وإمّا أُموراً شرعية لها دليلها العام وإن لم يكن لها دليل خاص، وسيوافيك توضيح القسم الأخير في الفصل القادم.
يقول ابن الحاج:
1 ـ المراوح في المساجد من البدع وقد منعها علماؤنا رحمة الله عليهم إذ أنّ اتّخاذها في المساجد بدعة(3).
2 ـ إنّ فرش البسط والسجادات قبل مجيء أصحابها من البدع المحدثة وينبغي لإمام المسجد أن ينهى الناس عمّا أحدثوه من إرسال البسط والسجادات وغيرها قبل أن يأتي أصحابها(4).
3 ـ إلى أن جاء ابن الحاج يحدّد ثمن اللباس الذي يجوز لبسه
____________
1- الكليني، الكافي 1: 164.
2- أبو عبد الله العبدريّ المالكي المتوفى سنة 737 ومع ذلك له كلمة قيّمة في زيارة القبور، لاحظ 1: 254.
3 و 4- ابن الحاج، المدخل 2: 212، 224.
ويقول: أثمان أثوابهم القمص من الخمس إلى العشر وما بينهما من الأثمان، وكان جمهور العلماء وخيار التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين والثلاثين، وكان بعض العلماء يكره أن يكون على الرجل من الثياب ما يجاوز قيمته أربعين درهماً وبعضهم إلى المائة ويعدّه إسرافاً فيما جاوزها وعلى ذلك فهو من البدع الحادثة بعدهم(1).
4 ـ لابدّ من ترك فرش السجاد على المنبر لأنّها ليست موضعاً للصلاة(2).
هذه نماذج من أفكار الرجل حول البدعة، أفترى أنّ الإسلام الذي يعرفه هذا الرجل المتزمّت ممّا يصلح نشره في العالم، ويصلح لدعوة المثقّفين والمفكّرين إليه، وهل هذا هو الإسلام الذي يصفه النبيّ (صلى الله عليه وآله)بالحنيفية السمحة السهلة؟!
الأصل في العادات الإباحة
كان على هؤلاء الذين يتحدّثون باسم الإسلام أن يدرسوا الكتاب والسنّة ويقفوا على أنّ الأصل في العادات الإباحة ما لم يدلّ دليل على خلافها، فإنّ كلّ ما ذكره من الأُمور عادية حتى سكب ماء الورد على قبر الميت احتراماً له، من هذه الأُمور التي يتصوّرها ابن الحاج من البدعة(3)والأصل فيها الإباحة لا الحظر، فانّ الحكم بالحظر بدعة، صدر من القائل.
____________
1 و 2- ابن الحاج، المدخل 2: 238، 264.
3- الشاطبي، الاعتصام 2: 79.
يقول سبحانه:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا}(الإسراء/15) ويقول:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا}(القصص/59) ومعنى الآيتين أنّه ليس من شأن الله أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث رسولا، وليست لبعث الرسول خصوصية وموضوعية. ولو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان والإبلاغ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ، فتكون النتيجة أنّه لا يحكم على حرمة شيء قبل بيان حكم ووصوله إلى يد المكلّف. وهذه الأُمور التي أضفى ابن الحاج عليها اسم البدعة، كلّها أُمور عادية ما ورد النهي عنها، مثلا:
إذا شككنا أنّ لعبة كرة القدم أو الاستماع إلى الإذاعة هل هما جائزان أو لا؟ فالأصل بعد التتبع وعدم العثور على الدليل المحرّم، هو الحلّية.
فبذلك علم أنّ جميع العادات من قول أو فعل فهو محكوم بالإباحة ما لم نجد نصّاً على تحريمه في الكتاب والسنّة، سواء أكان حادثاً أم غير حادث، سواء أصارت سنّة أم لا، ما لم ينطبق عليه عنوان خاص أو أحد العناوين الكلية المحرّمة كـ “الإسراف” و “الإعانة على الإثم” و “تقوية شوكة الكفّار” و “الإضرار بالمسلمين” و “الإضرار بالنفس والنفيس”، تعدّ أمراً مباحاً.
وعلى أساس ذلك فانّ جميع المصنوعات الحديثة التي هي من نتائج التقدّم الحضاري التكنلوجي، مثل الهاتف والتلغراف والتلفزيون والسيّارة والطائرة وما شابهها، واستخداماتها المتعارفة; محكومة
بالحلّية والإباحة لعدم وجود نصّ خاصّ على تحريمها في الكتاب والسنّة، ولعدم انطباق أحد العناوين العامة المحرّمة عليها.
وقد كان معظم المشايخ المتزمّتين يحرّمون كلّ ذلك في بدء حركتهم ودعوتهم أيام “عبد العزيز” ولكنّهم عندما أُزيحوا عن منصّة الحكم، وحلّ الآخرون محلّهم أباحوه وصاروا يتحدّثون في الإذاعة والتلفزيون، ويستخدمون كلّ معطيات الحضارة الحديثة، ويحلّلون كلّ أشيائها واستخداماتها.
فإذا كان قول الرجل “كيف أصبحت” وإدخال المراوح إلى المساجد، وفرش البسط في المساجد وعلى المنابر ولبس ما زادت قيمته على ما حدّده، وسكب ماء الورد على القبر من البدع، فعلى الإسلام السلام.
ثمّ إنّ بعض ما عدّه ابن الحاج من الأُمور الدينية من البدع يتصوّر أنّه لم يكن بين السلف; مردود بوجود دليل عليه في الشرع وهذا ما سندرسه في الفصل القادم.
2018-04-19