شعراء الغدير في القرن الثاني4
1 فبراير,2018
الشعر والادب, صوتي ومرئي متنوع
1,091 زيارة
أبو المستهل الكميت
المولود 60
المتوفى 126
الاسلاميين قال: الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي. قال فقيل له: يا أبا محمد؟ ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت؟ قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين (1).
وقد مر ص 168 قول الفرزدق له. أنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقي.
وكان مبلغ شعره حين مات خمسة آلاف ومأتين وتسعة وثمانين بيتا على ما في الأغاني، و المعاهد 2 ص 31. أو أكثر من خمسة آلاف قصيدة كما في كشف الظنون نقلا عن عيون الأخبار لابن شاكر 1 ص 397. وقد جمع شعره الأصمعي وزاد فيه ابن السكيت، ورواه جماعة عن أبي محمد عبد الله بن يحيى المعروف بابن كناسة الأسدي المتوفى 207، ورواه ابن كناسة عن الجزي، وأبي الموصل، وأبي صدقة الأسديين، وألف كتابا أسماه (سرقات الكميت من القرآن وغيره) (2).
ورواه ابن السكيت عن أستاذه نصران وقال نصران: قرأت شعر الكميت على أبي حفص عمر ابن بكير. وعمل شعره السكري أبو سعيد الحسن بن الحسين المتوفى 275، كما في فهرست ابن النديم ص 107 و 225. وصاحب شعره محمد بن أنس كما في تاريخ ابن عساكر 4 ص 429.
وحكى ياقوت في معجم الأدباء 1 ص 410 عن ابن نجار عن أبي عبد الله أحمد بن الحسن الكوفي النسابة أنه قال: قال ابن عبدة النساب: ما عرف النساب أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت (النزاريات) فأظهر بها علما كثيرا، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحدا أعلم منه بالعرب وأيامها، فلما سمعت هذا أجمعت شعره فكان عوني على التصنيف لأيام العرب.
وقال بعضهم: كان في الكميت عشر خصال لم تكن في شاعر: كان خطيب أسد، فقيه الشيعة، حافظ القرآن العظيم، ثبت الجنان، كاتبا حسن الخط، نسابة جدلا، وهو أول من ناظر (3) في التشيع، راميا لم يكن في أسد أرمى منه، فارسا
____________
(1) الأغاني 15 ص 115 و 127.
(2) التعبير بالسرقة لا يخلو من مسامحة فإنها ليست إلا أخذا بالمعنى أو تضمينا لكلم من القرآن، وحسب الكميت (وأي شاعر) أن يقتص أثر الكتاب الكريم.
(3) مر فساد هذه النسبة إلى المترجم له ص 191.
شجاعا، سخيا دينا. خزانة الأدب 2 ص 69، شرح الشواهد ص 13.
ولم تزل عصبيته للعدنانية ومهاجاته شعراء اليمن متصلة، والمناقضة بينه و بينهم شايعة في حياته، وفي إثرها ناقض دعبل وابن عيينة قصيدته المذهبة بعد وفاته وأجابهما أبو الزلفاء البصري مولى بني هاشم، وكان بينه وبين حكيم الأعور الكلبي مفاخرة ومناظرة تامة.
* (فائدة) *
حكيم الأعور المذكور أحد الشعراء المنقطعين إلى بني أمية بدمشق، ثم انتقل إلى الكوفة، جاء رجل إلى عبد الله بن جعفر فقال له: يا بن رسول الله؟ هذا حكيم الأعور ينشد الناس هجاكم بالكوفة. فقال: هل حفظت شيئا؟ قال:
نعم وأنشد.
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة * ولم نر مهديا على الجزع يصلب
وقستم بعثمان عليا سفاهة * وعثمان خير من علي وأطيب
فرفع عبد الله يديه إلى السماء وهما تنتفضان رعدة فقال: أللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا. فخرج حكيم من الكوفة فأدلج (1) فافترسه الأسد.
معجم الأدباء 4 ص 132.
* (الكميت وحياته المذهبية) *
يجد الباحث في خلال السير وزبر الحديث شواهد واضحة على أن الرجل لم يتخذ شاعريته وما كان يتظاهر به من التهالك في ولاء أهل البيت عليهم السلام، وسيلة لما يقتضيه النهمة، وموجبات الشره من التلمظ بما يستفيده من الصلات و الجوائز، أو تحري مسانحات وجرايات، أو الحصول على رتبة أو راتب، أنى؟ و آل رسول الله كما يقول عنهم دعبل الخزاعي:
أرى فيئهم في غيرهم متقسما * وأيديهم من فيئهم صفرات
وهم سلام الله عليهم فضلا عن شيعتهم.
مشردون نفوا عن عقر دارهم * كأنهم قد جنوا ما ليس يغتفر
____________
(1) أدلج القوم: ساروا الليل كله أو في آخره.
وقد انهالت الدنيا قضها بقضيضها على أضدادهم يوم ذلك من طغمة الأمويين ولو كان المتطلب يطلب شيئا من حطام الدنيا، أو حصولا على مرتبة، أو زلفة تربى به لطلبها من أولئك المتغلبين على عرش الخلافة الإسلامية، فرجل يلوي بوجهه عنهم إلى أناس مضطهدين مقهورين، ويقاسي من جراء ذلك الخوف والاختفاء تتقاذف به المفاوز والحزون، مفترعا ربوة طورا، ومسفا إلى الأحضة تارة، وورائه الطلب الحثيث، وبمطلع الأكمة النطح والسيف، ليس من الممكن أن يكون ما يتحراه إلا خاصة فيمن يتولاهم، لا توجد عند غيرهم، وهذا هو شأن الكميث مع أئمة الدين عليهم السلام فقد كان يعتقد فيهم أنهم وسائله إلى المولى سبحانه، وواسطة نجاحه في عقباه، وإن مؤدتهم أجر الرسالة الكبرى.
روى الشيخ الأكبر الصفار في ” بصاير الدرجات ” بإسناده عن جابر قال: دخلت على الباقر عليه السلام فشكوت إليه الحاجة فقال: ما عندنا درهم. فدخل الكميت فقال: جعلت فداك أنشدك؟ فقال: انشد فأنشده قصيدة فقال: يا غلام؟ اخرج من ذلك البيت بدرة فادفعها إلى الكميت. فقال: جعلت فداك أنشدك أخرى؟ فأنشده فقال: يا غلام؟ اخرج بدرة فادفعها إليه. فقال: جعلت فداك أنشدك أخرى؟ فأنشده فقال: يا غلام؟ اخرج بدرة فادفعها إليه. فقال: جعلت فداك والله ما أحبكم لعرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله وما أوجب الله علي من الحق. فدعا له الباقر عليه السلام فقال: يا غلام ردها إلى مكانها. فقلت: جعلت فداك قلت لي: ليس عندي درهم وأمرت الكميت بثلاثين ألفا (1) فقال: ادخل ذلك البيت. فدخلت فلم أجد شيئا، فقال: ما سترنا عنكم أكثر مما أظهرنا. الحديث.
قال صاعد: دخلنا مع الكميت على فاطمة بنت الحسين عليه السلام فقالت: هذا شاعرنا أهل البيت وجاءت بقدح فيه سويق فحركته بيدها وسقت الكميت فشربه ثم أمرت له بثلاثين دينارا ومركب، فهملت عيناه وقال: لا والله لا أقبلها إني لم أحبكم للدنيا. ” الأغاني ” 15 ص 123.
وللكميت في رده الصلات الطايلة على سروات المجد من بني هاشم مكرمة
____________
(1) في مناقب ابن شهر آشوب 5 ص 7: خمسين ألف درهم.
ومحمدة عظيمة أبقت له ذكرى خالدة وكل من تلكم المواقف شاهد صدق على خالص ولائه و قوة إيمانه، وصفاء نيته، وحسن عقيدته، ورسوخ دينه، وإباء نفسه، وعلو همته، وثباته في مبدئه (العلوي) المقدس، وصدق مقاله للإمام السجاد زين العابدين عليه السلام: إني قد مدحتك أن يكون لي وسيلة عند رسول الله ويعرب عن ذلك كله صريح قوله: للإمام الباقر محمد بن علي عليهما السلام: والله ما أحبكم لعرض الدنيا وما أردت بذلك إلا صلة رسول الله وما أوجب الله علي من الحق. وقوله الآخر عليه السلام: ألا والله لا يعلم أحد أني آخذ منها حتى يكون الله عز وجل الذي يكافيني. وقوله للإمامين الصادقين عليهما السلام: والله ما أحببتكم للدنيا ولو أردتها لأتيت من هو في يديه ولكني أحببتكم للآخرة. وقوله لعبد الله بن الحسن بن علي عليه السلام: والله ما قلت فيكم إلا لله وما كنت لآخذ على شيئ جعلته لله مالا ولا ثمنا. وقوله لعبد الله الجعفري: ما أردت بمدحي إياكم إلا الله ورسوله، ولو أك لآخذ لكم ثمنا من الدنيا. وقوله لفاطمة بنت الإمام السبط: والله إني لم أحبكم للدنيا. وهذا شأن الشيعة سلفا وخلفا، وشيمة كل شيعي صميم، وأدب كل متضلع بالنزعات العلوية، وروح كان علوي جعفري، وهذا شعار التشيع ليس إلا. وبمثل هذا فيعمل العاملون.
وكان أئمة الدين ورجالات بني هاشم يلحون في أخذ الكميت صلاتهم، و قبوله عطاياهم، مع إكبارهم محله من ولائه، واعتنائهم البالغ بشأنه، والاحتفاء و التبجيل له، والاعتذار عنه بمثل قوم الإمام السجاد صلوات الله عليه له: ثوابك نعجز عنه ولكن ما عجزنا عنه فإن الله لا يعجز عن مكافأتك. وهو مع ذلك كله كان على قدم وساق من إباءه واستعفاءه إظهارا لولاءه المحض لآل الله، وقد مر أنه رد على الإمام السجاد عليه السلام أربعمائة ألف درهم وطلب من ثيابه التي تلي جسده ليتبرك بها. ورد على الإمام الباقر مائة ألف مرة، وخمسين ألف أخرى وطلب قميصا من قمصه. ورد على الإمام الصادق ألف دينار وكسوة واستدعى منه أن يكرمه بالثوب الذي مس جلده. ورد على عبد الله بن الحسين ضيعته التي أعطى له كتابها وكانت تسوى بأربعة آلاف دينار. ورد على عبد الله الجعفري ما جمع له من بني هاشم ما كان يقدر بمائة ألف درهم.
فكل من هذه خبر يصدق الخبر بأن مدح الكميت عترة نبيه الطاهر وولائه لهم، وتهالكه بكله في حبهم، وبذله النفس والنفيس دونهم، ونيله من مناوئيهم، ونصبه العداء لمخالفيهم، لم يكن إلا لله ولرسوله فحسب، وما كان له غرض من حطام الدنيا وزخرفها، ولا مرمى من الثواب العاجل دون الآجل، وكل واقف على شعره يراه كالباحث بظلفه عن حتفه، ويجده مستقتلا بلسانه، قد عرض لبني أمية دمه، مستقبلا صوارمهم كما نص عليه الإمام زين العابدين عليه السلام وقال: أللهم إن الكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك نفسه حين ضن الناس، وأظهر ما كتمه غيره. وقال عبد الله الجعفري لبني هاشم؟ هذا الكميت قال فيكم الشعر حين صمت الناس من فضلكم وعرض دمه لبني أمية. وخالد القسري لما أراد قتله رأى في شعره غنى وكفاية عن أي حيلة وسعاية عليه، فاشترى جارية وعلمها الهاشميات وبعثها إلى هشام بن عبد الملك وهو لما سمعها منها قال: استقتل المرائي. وكتب إلى خالد بقتله وقطع لسانه ويده.
فكان الكميت منذ غضاضة من شبيبته التي نظم فيها ” الهاشميات ” خائفا يترقب طيلة عمره مختفيا في زوايا الخمول إلى أن أقام بقريضه الحجة، وأوضح به المحجة، و أظهر به الحق، وأتم به البرهنة، وبلغ ضالته المنشودة من بث الدعاية إلى العترة الطاهرة، فلما دوخ صيت شعره الأقطار، وقرطت به الآذان، ودارت على الألسن استجاز الإمام أبا جعفر الباقر عليه السلام أن يمدح بني أمية صونا لدمه فأجاز له، رواه أبو الفرج في ” الأغاني ” 15 ص 126 بإسناده عن ورد بن زيد أخي الكميت قال:
أرسلني الكميت إلى أبي جعفر عليه السلام فقلت له: إن الكميت أرسلني إليك وقد صنع بنفسه ما صنع فتأذن له أن يمدح بني أمية؟ قال: نعم هو في حل فليقل ما شاء.
فنظم قصيدته الرائية التي يقول فيها.
فالآن صرت إلى أمية * والأمور إلى المصاير
ودخل علي أبي جعفر عليه السلام فقال له: يا كميت؟ أنت القائل:
فالآن صرت إلى أمية * والأمور إلى المصاير
قال: نعم، قد قلت ولا والله ما أردت به (1) إلا الدنيا ولقد عرفت فضلكم قال:
أما إن قلت ذلك إن التقية لتحل.
وروى الكشي في رجاله ص 135 بإسناده عن درست بن أبي منصور قال: كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام وعنده الكميت بن زيد فقال للكميت: أنت الذي تقول:
فالآن صرت إلى أمية * والأمور إلى المصاير
قال: قد قلت ذلك فوالله ما رجعت عن إيماني، وإني لكم لموال، ولعدوكم لقال، ولكني قلته على التقية. قال: أما لأن قلت ذلك إن التقية تجوز في شرب الخمر.
* (لفت نظر) *
أحسب أن الإمام المذكور في حديث الكشي هو أبو عبد الله الصادق عليه السلام ولا يتم ما فيه من أبي الحسن موسى عليه السلام، إذ الكميت توفي بلا اختلاف أجده سنة 126 قبل ولادة أبي الحسن موسى بسنتين أو ثلاث. كما لا يتم القول باتحاده مع حديث أبي الفرج المروي عن الإمام أبي جعفر إذ درست بن أبي منصور لا يروي عنه عليه السلام وليس من تلك الطبقة.
الكميت ودعاء الأئمة له
من الواضح أن أدعية ذوي النفوس القدسية، والألسنة الناطقة بالمشيئة الإلهية المعبرة عن الله، من الذين يوحي إليهم ربهم، ولا يتكلمون إلا بإذنه، وما ينطقون عن الهوى، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى، ليست مجرد شفاعة لأي أحد، و مسألة خير من المولى لكل إنسان كائنا من كان، بل فيها إيعاز بأن المدعو له من رجال الدين، وحلفاء الخير والصلاح، ودعاة الأمة إليهما، وممن قيضه المولى للدعوة إليه، والأخذ بناصر الهدى، رغما على أباطيل الحياة وأهوائها الضالة، إلى فضايل لا تحصى على اختلاف المدعوين لهم فيها.
وقل ما دعي لأحد مثل ما دعي للكميت وقد أكثر النبي الأعظم والأئمة من أولاده صلوات الله عليه وعليهم دعائهم له، فاسترحم له النبي صلى الله عليه وآله مرة كما مر
____________
(1) أي أراد بقوله: صرت. مصير الدنيا إليهم لا الخلافة.
في حديث البياضي، واستجزى له بالخير وأثنى عليه أخرى كما في منام نصر بن مزاحم، وقال له ثالثة: بوركت وبورك قومك. كما في حديث السيوطي، ودعا له الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام بقوله: أللهم أحيه سعيدا وأمته شهيدا، وأره الجزاء عاجلا، وأجزل له جزيل المثوبة آجلا، ودعا له أبو جعفر الباقر عليه السلام في مواقف شتى في مثل أيام التشريق بمنى وغيرها، متوجها إلى الكعبة بالاسترحام والاستغفار له غير مرة، وبقوله: لا تزال مؤيدا بروح القدس تارة أخرى، ومن دعائه عليه السلام له في أيام البيض ما رواه الشيخ الأقدم أبو القاسم الخزاز القمي في [كفاية الأثر في النصوص على الأئمة الاثنى عشر] بإسناده عن الكميت أنه قال: دخلت علي سيدي أبي جعفر محمد بن علي الباقر فقلت: يا بن رسول الله؟ إني قد قلت فيكم أبياتا أفتأذن لي في إنشادها؟ فقال: أيام البيض. قلت: فهو فيكم خاصة. قال: هات فأنشأت أقول:
أضحكني الدهر وأبكاني * والدهر ذو صرف وألوان
لتسعة بالطف قد غودروا * صاروا جميعا رهن أكفان
فبكى عليه السلام وبكى أبو عبد الله عليه السلام وسمعت جارية تبكي من وراء الخباء فلما بلغت إلى قولي:
وستة لا يتجارى * بنو عقيل خير فرسان
ثم علي الخير مولاهم * ذكرهم هيج أحزاني
فبكى ثم قال عليه السلام: ما من رجل ذكرنا أو ذكرنا عنده يخرج من عينيه ماء ولو مثل جناح البعوضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة، وجعل ذلك الدمع حجابا بينه وبين النار. فلما بلغت إلى قولي:
من كان مسرورا بما مسكم * أو شامتا يوما من الآن
فقد ذللتم بعد عز فما * أدفع ضيما حين يغشاني
أخذ بيدي ثم قال: أللهم؟ اغفر للكميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فلما بلغت إلى قولي:
متى يقوم الحق فيكم متى * يقوم مهديكم الثاني؟؟!!
قال: سريعا إنشاء الله سريعا. ثم قال: يا أبا المستهل؟ إن قائمنا هو التاسع من
ولد الحسين لأن الأئمة بعد رسول الله اثنى عشر، الثاني عشر هو القائم. قلت: يا سيدي؟ فمن هؤلاء الاثنى عشر؟ قال: أولهم علي بن أبي طالب وبعده الحسن والحسين و بعد الحسين علي بن الحسين وبعده أنا ثم بعدي هذا ووضع يده على كتف جعفر قلت: فمن بعد هذا؟ قال: ابنه موسى وبعد موسى ابنه علي وبعد علي ابنه محمد وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وهو أبو القاسم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطا وعدلا كما ملأت ظلما وجورا ويشفي صدور شيعتنا. قلت: فمتى يخرج؟ يا بن رسول الله قال: لقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك فقال: إنما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلا بغتة.
وناهيك به فضلا دعاء الإمام الصادق عليه السلام له في مواقفه المشهودة في أشرف الأيام رافعا يديه قائلا: أللهم؟ اغفر للكميت ما قدم وأخر، وما أسر و أعلن، واعطه حتى يرضى. وينم عن إجابة تلك الأدعية الصالحة الصادرة من النفوس الطاهرة بالألسنة الصادقة أمر النبي صلى الله عليه وآله أبا إبراهيم سعد الأسدي في منامه بقراءة سلامه عليه، وأنبأه بأن الله قد غفر له. وكذلك نهيه صلى الله عليه وآله دعبل الخزاعي في الطيف عن معارضة الكميت وقوله له: إن الله قد غفر له. وكان بنو أسد (قبيلة الكميت) يحسون بركة دعاء النبي له ولهم بقوله: بوركت و بورك قومك. ويشاهدون آثار الاجابة فيهم، يجدون في أنفسهم نفحاتها، وكانوا يقولون: إن فينا فضيلة ليست في العالم، ليس منا إلا وفيه بركة وراثة الكميت (1)
ومن تلك الأدعية المستجابة التي شوهدت آثارها، وأبقت للكميت فضيلة مع الأبد ما رواه شيخنا قطب الدين الراوندي في [الخرايج والجرايح] أن محمد بن علي الباقر عليه السلام دعا للكميت لما أراد أعداء آل محمد أخذه وهلاكه وكان متواريا فخرج في ظلمة الليل هاربا وقد أقعدوا على كل طريق جماعة ليأخذوه إذا ما خرج في خفية، فلما وصل الكميت إلى الفضاء وأراد أن يسلك طريقا فجاء أسد يمنعه من أن يسري منها فسلك جانبا آخر فمنعه منه أيضا، كأنه أشار إلى الكميت أن يسلك خلفه ومضى الأسد في جانب الكميت إلى أن أمن وتخلص من الأعداء.
____________
(1) مر الحديث ص 190.
وفي ” معاهد التنصيص ” 2 ص 28 قال المستهل: أقام الكميت مدة متواريا حتى إذا أيقن أن الطلب خف عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد على خوف ووجل وفيمن معه ” صاعد ” غلامه وأخذ الطريق على ” القطقطانة ” وكان عالما بالنجوم مهتديا بها فلما صار سحيرا صاح بنا هوموا (1) يا فتيان فهو منا وقام فصلى، قال المستهل: فرأينا شخصا فتضعضعت له فقال: مالك؟ قلت: أرى شخصا مقبلا فنظر إليه فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم فجاء الذئب فربض ناحية فأطعمناه يد جزور فتعرقها ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه فارتحلنا وجعل الذئب يعوي، فقال الكميت: ماله ويله ألم نطعمه ونسقه؟؟ وما أعرفني بما يريد هو يدلنا إنا لسنا على الطريق تيامنوا يا فتيان؟ فتيامنا فسكن عواءه فلم نزل نسير حتى جئنا الشام فتوارى في بني أسد وبني تميم.
وهذا جانب عظيم من نواحي مكرمات الكميت وفضايله لو أضيف إلى ما يظهر من كلماته المعربة عن نفسياته، ومواقفه الكاشفة عن خلايقه الكريمة، وما قيل فيه وفي مآثره الجمة يمثله بين يدي القارئ بمظاهر روحياته، ونصب عينيه مجالي نفسياته، وأمثلة مكارم أخلاقه وما كان يحمله بين جنبيه من العلم، والفقه، والأدب، والإباء، والشمم، والحماسة، والهمة، واللباقة، والفصاحة، والبلاغة، والخلق الكامل، وقوة القلب، والدين الخالص، والتشيع الصحيح، والصلاح المحض، والرشد والسداد، إلى فضايل تكسبه فوز النشأتين لا تحصى.
الكميت وهشام بن عبد الملك
كان خالد بن عبد الله القسري قد أنشد قصيدة الكميت التي يهجو فيها اليمن و هي التي أولها.
ألا حييت عنا يا مدينا * وهل ناس تقول مسلمينا
فقال: والله لأقتلنه ثم اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن وتخيرهن نهاية في الحسن والكمال والأدب فرواهن (الهاشميات) ودسهن مع ” نخاس ” إلى هشام بن
____________
(1) هموم تهويما: نام قليلا.
عبد الملك فاشتراهن جميعا فلما أنس به واستنطقهن رأى منهن فصاحة وأدبا فاستقرأهن القرآن فقرأن واستنشدهن الشعر فأنشدن قصائد الكميت (الهاشميات) فقال هشام: ويلكن من قائل هذا الشعر؟ قلن: الكميت بن زيد الأسدي. قال: في أي بلد هو؟ قلن بالعراق ثم بالكوفة فكتب إلى خالد عامله في العراق إبعث إلي برأس الكميت بن زيد. فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره فأخذ وحبس في الحبس وكان أبان بن الوليد عاملا على واسط وكان الكميت صديقه فبعث إليه بغلام على بغل وقال: له أنت حر إن لحقته والبغل لك. وكتب له: أما بعد. فقد بلغني ما صرت إليه وهو القتل إلا أن يدفع الله عز وجل، وأرى لك أن تبعث إلي حبي – يعني زوجة الكميت وكانت ممن تتشيع أيضا – فإذا دخلت عليك تنقبت نقابها ولبثت ثيابها وخرجت فإني أرجو الأوبة لك. قال: فركب الغلام البغل وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها فدخل الحبس متنكرا وأخبر الكميت بالقصة فبعث إلى امرأته وقص عليها القصة وقال لها: أي ابنة عم؟ إن الوالي لا يقدم عليك ولا يسلمك قومك ولو خفت عليك ما عرضتك له. فألبسته ثيابها وإزارها وخمرته وقالت له: أقبل وأدبر ففعل فقالت: ما أنكر منك شيئا إلا يبسا في كتفيك، فاخرج على اسم الله تعالى. و أخرجت معه جاريتين لها فخرج وعلى باب السجن أبو الوضاح حبيب بن بدير ومعه فتيان من أسد فلم يؤبه له، ومشى الفتيان بين يديه إلى سكة شبيب بناحية الكناس فمر بمجلس من مجالس بني تميم فقال بعضهم: رجل ورب الكعبة وأمر غلامه فأتبعه فصاح به أبو الوضاح يا كذا وكذا؟ أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم، وأومى إليه بنعله فولى العبد مدبرا وأدخله أبو الوضاح منزله، ولما طال على السجان الأمر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: وراءك لا أم لك. فشق ثوبه ومضى صارخا إلى باب خالد فأخبر الخبر فأحضر المرأة فقال لها: يا عدوة الله؟ احتلت على أمير المؤمنين وأخرجت عدو أمير المؤمنين لأنكلن بك ولأصنعن ولأفعلن.
فاجتمعت بنو أسد عليه وقالوا له: ما سبيلك على امرأة منا خدعت. فخافهم فخلى سبيلها وسقط غراب على الحايط ونعب فقال الكميت لأبي الوضاح: إني لمأخوذ وإن حائطك لساقط. فقال: سبحان الله هذا ما لا يكون إنشاء الله تعالى، وكان الكميت خبيرا بالزجر
(الكهانة) فقال له: لا بد أن تحولني. فخرج به إلى بني علقمة وكانوا يتشيعون فأقام فيهم، ولم يصبح حتى سقط الحايط الذي سقط عليه الغراب.
قال المستهل: وأقام الكميت مدة متواريا حتى إذا أيقن أن الطلب خف عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد وبني تميم وأرسل إلى أشرف قريش وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض وأتوا عنبسة فقالوا: يا أبا خالد هذه مكرمة أتاك بها الله تعالى، هذا: الكميت بن زيد لسان مضر، وكان أمير المؤمنين قد كتب في قتله فنجا حتى تخلص إليك وإلينا. قال: فمروه أن يعوذ بقبر معاوية بن هشام بدير حنيناء. فمضى الكميت فضرب فسطاطه عند قبره، ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام فقال: يا أبا شاكر؟ مكرمة أتيتك بها تبلغ الثريا إن اعتقدتها فإن علمت أنك تفي بها وإلا كتمتها. قال: وما هي؟ فأخبره الخبر وقال: إنه قد مدحكم عامة وإياك خاصة بما لم يسمع بمثله. فقال: علي خلاصه فدخل على أبيه هشام وهو عند أمه في غير وقت دخول فقال له هشام: أجئت لحاجة؟ قال: نعم. قال:
هي مقضية إلا أن تكون الكميت. فقال: ما أحب أن تستثني علي في حاجتي وما أنا والكميت. فقالت أمه: والله لتقضين حاجته كائنة ما كانت قال: قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها. قال: يا أمير المؤمنين؟ وهو آمن بأمان الله عز وجل أماني وهو شاعر مضر وقد قال فينا قولا لم يقل مثله. قال: قد أمنته وأجزت أمانك له، فأجلس له مجلسا ينشدك فيه ما قال فينا. فعقد مجلسا وعنده الأبرش الكلبي فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قط، وامتدحه بقصيدته الرائية ويقال: إنه قالها ارتجالا وهي قوله:
قف بالديار وقوف زائر * . . . . .
فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله:
ماذا عليك من الوقوف * بها إنك غير صاغر؟
درجت عليك الغاديات * الرابحات من الأعاصر
ويقول فيها:
فالآن صرت إلى أمية * والأمور إلى المصائر
فجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده فيقول: اسمع اسمع. ثم استأذنه في مرثية ابنه معاوية فأذن له فيها فأنشده قوله:
سأبكيك للدنيا وللدين إنني * رأيت يد المعروف بعدك شلت
أدامت عليكم بالسلام تحية * ملائكة الله الكرام وصلت
فبكى هشام بكاء شديدا فوثب الحاجب فسكته، ثم جاء الكميت إلى منزله آمنا فحشدت له المضرية بالهدايا، وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم، وأمر له هشام بأربعين ألف درهم، وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته وإنه لا سلطان له عليهم. قال: وجمعت له بنو أمية فيما بينها مالا كثيرا، ولم يجمع من قصيدته تلك يومئذ إلا ما حفظه الناس منها فألف وسئل عنها فقال: ما أحفظ منها شيئا إنما هو كلام ارتجلته.
وفي رواية: إنه لما أجاره مسلمة بن هشام وبلغ بذلك هشاما دعا به وقال له: أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره؟ فقال: كلا ولكنني انتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة فإنه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: يا أبا المستهل؟ إن أمير المؤمنين قد أمرني بإحضارك. قال أتسلمني يا أبا شاكر؟ قال: كلا ولكني أحتال لك. ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريبا وقد جزع عليه جزعا شديدا فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدمت عليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك ويقولون: هذا استجار بقبر أبينا ونحن أحق بإجارته. فأصبح هشام على عادته متطلعا من قصره إلى القبر فقال: ما هذا؟ فقالوا: لعله مستجير بالقبر. فقال: يجار من كان إلا الكميت فإنه لا جوار له. فقيل: فإنه الكميت. فقال: يحضر أعنف إحضار. فلما دعى به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه، فلما نظر هشام إليهم إغرورقت عيناه واستعبر وهم يقولون: يا أمير المؤمنين استجار بقبر أبينا وقد مات وما حظه من الدنيا فاجعله هبة له ولنا ولا تفضحنا في من استجار به. فبكى هشام حتى انتحب ثم أقبل على الكميت فقال له: يا كميت؟ أنت القائل:
وإلا فقولوا غيرها تتعرفوا * نواصيها تروى بنا وهي شزب (1)
____________
(1) تروى: أي ترمى. تشازب القوم على الأمر. أي كان لكل واحد منهم حظ ينتظره يقال: هم متشازبون.
فقال: لا والله أتان من أتن الحجاز وحشية. فقال الكميت: الحمد لله. قال هشام: نعم الحمد لله. ما هذا؟ قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، الذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته، أحمد حمد من علم يقينا، وأبصر مستبينا، وأشهد له بما شهد به لنفسه، قائما بالقسط وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده العربي، ورسوله الأمي، أرسله و الناس في هفوات حيرة، ومدلهمات ظلمة، عند استمرار أبهة الضلال، فبلغ عن الله ما أمر به، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، وعبد ربه حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم. ثم تكلم واعتذر عن هجاؤه بني أمية وأنشد أبياتا من رائيته في مدحهم فقال له هشام: ويلك يا كميت من زين لك الغواية ودلاك في العماية؟ قال: الذي أخرج أبانا من الجنة وأنساه العهد فلم يجد له عزما. فقال له: إيه يا كميت؟ ألست القائل؟:
فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها * ويا حاطبا في غير حبلك تحطب
فقال: بل أنا القائل:
إلى آل بيت أبي مالك * مناخ هو الأرحب الأسهل
نمت بأرحامنا الداخلات * من حيث لا ينكر المدخل
بمرة والنضر والمالكين * رهط هم الأنبل الأنبل
وجدنا قريشا قريش البطاح * على ما بنى الأول الأول
بهم صلح الله بعد الفساد * وحيص من الفتق ما رعبلوا (1)
قال له: وأنت القائل:
لا كعبد المليك أو كوليد * أو سليمان بعد أو كهشام
من يمت لا يمت فقيدا ومن يحيى * فلا ذو إل ولا ذو ذمام
ويلك يا كميت جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة. فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين؟:
فالآن صرت إلى أمية والأمور إلى المصائر
والآن صرت بها إلى المصيب كمهتد بالأمس حائر
____________
(1) حاص حيصا: عدل وحاد. رعبلوا: مزقوا.
فقل لبني أمية حيث حلوا * وإن خفت المهند والقطيعا
أجاع الله من أشبعتموه * وأشبع من بجوركم أجيعا
بمرضي السياسة هاشمي * يكون حيا لأمته ربيعا
فقال: لا تثريب يا أمير المؤمنين؟ إن رأيت أن تمحو عني قولي الكاذب. قال: بما ذا قال بقولي الصادق:
أورثته الحصان أم هشام * حسبا ثاقبا ووجها نضيرا
وتعاطى به ابن عايشة البدر * فأمسى له رقيبا نظيرا
وكساه أبو الخلايف مروان * سناء المكارم المأثورا
لم تجهم (1) له البطاح ولكن * وجدتها له معانا (2) ودورا
وكان هشام متكئا فاستوى جالسا وقال: هكذا فليكن الشعر. يقولها لسالم ابن عبد الله بن عمر وكان إلى جانبه ثم قال: قد رضيت عنك يا كميت؟. فقبل يده و قال: يا أمير المؤمنين؟ إن رأيت أن تزيد في تشريفي فلا تجعل لخالد علي إمارة. قال: قد فعلت. وكتب بذلك وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوبا هشامية وكتب إلى خالد: أن يخلي سبيل امرأته ويعطيها عشرين ألف درهم وثلاثين ثوبا. ففعل ذلك.
الأغاني 15 ص 115 – 119، العقد الفريد 1 ص 189.
كان هشام بن عبد الملك مشغوفا بجارية له يقال: لها (صدوف) مدنية اشتريت له بمال جزيل عتب عليها ذات يوم في شيئ وهجرها وحلف أن لا يبدأها بكلام، فدخل عليه الكميت وهو مغموم بذلك فقال: مالي أراك مغموما يا أمير المؤمنين؟ لا غمك الله. فأخبره هشام بالقصة فأطرق الكميت ساعة ثم أنشأ يقول:
أعتبت أم عتبت عليك (صدوف) * وعتاب مثلك مثلها تشريف
لا تعقدن تلوم نفسك دائبا * فيها وأنت بحبها مشغوف
إن الصريمة لا يقوم بثقلها * إلا القوي بها وأنت ضعيف
فقال هشام: صدقت والله ونهض من مجلسه فدخل إليها ونهضت إليه فاعتنقته،
____________
(1) تجهم له: استقبله بوجه عبوس كريه.
(2) المعان بفتح الميم: المنزل. يقال: هم منك بمعان. أي: بحيث تراهم بعينك.
وانصرف الكميت فبعث إليه هشام بألف دينار وبعثت إليه بمثلها.
[الأغاني 15 ص 122]
الكميت ويزيد بن عبد الملك
حدث حبيش بن الكميت قال: وفد الكميت على يزيد بن عبد الملك فدخل عليه يوما وقد اشتريت له سلامة القس فأدخلت إليه والكميت حاضر فقال له: يا أبا المستهل؟ هذه جارية تباع أفترى أن نبتاعها؟ أي والله يا أمير المؤمنين؟ وما أرى أن لها مثيلا فلا تفوتنك. قال فصفها لي في شعر حتى أقبل رأيك. فقال الكميت:
هي شمس النهار في الحسن إلا * أنها فضلت بفتك الطراف
غضة بضة رخيم لعوب * وعثة المتن ثخنة الأطراف (1)
زانها دلها وثغر نقي * وحديث مرتل غير جاف
خلقت فوق منية المتمني * فاقبل النصح يا بن عبد مناف
قال: فضحك يزيد وقال: قد قبلنا نصحك يا أبا المستهل. فأمر له بجائزة سنية.
[الأغاني 15 ص 122]
* (وللكميت مع خالد) *
بن عبد الله القسري أخبار عند قدومه الكوفة منها: إنه مر يوما وقد تحدث الناس بعزله عن العراق فلما جاز تمثل الكميت وقال:
أراها وإن كانت تحب كأنها * سحابة صيف عن قليل يقشع
فسمعه خالد فرجع وقال: أما والله لا تنقشع حتى يغشاك منها شؤبوب برد، ثم أمر به فجرد وضرب مائة سوط، ثم خلى عنه ومضى (رواه ابن حبيب)
[الأغاني 15 ص 119]
* (ومن ملح الكميت) *:
إن الفرزدق مر به وهو ينشد والكميت يومئذ صبي فقال له الفرزدق أيسرك أني أبوك فقال: لا، ولكن يسرني أن تكون أمي فحصر الفرزدق فأقبل على جلسائه وقال. ما مر بي مثل هذا قط.
[الأغاني 15 ص 123]
____________
م (1) الغض: الطري الناعم. يقال: شباب غض. أي: ناضر. البضة: رقيق الجلد ناعمة في اليمن.
الرخيم من رخمت الجارية: صارت سهلة المنطق فهي رخيمة ورخيم. الوعث: الهزال. ثخن: غلظ.
ولادته وشهادته
ولد الكميت في سنة الستين عام شهادة الإمام السبط الشهيد صلوات الله عليه وعاش عيشة مرضية سعيدا في دنياه، باذلا كله في سبيل ما اختاره له ربه، داعيا إلى سنن الهدى حتى أتيحت له الشهادة ببركة دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام له بها، وبعين الله ما هريق من دمه الطاهر وذلك بالكوفة في خلافة مروان بن محمد سنة 126.
وكان سبب موته ما حكاه حجر بن عبد الجبار قال: خرجت الجعفرية (1) على خالد القسري وهو يخطب على المنبر ولا يعلم بهم فخرجوا في التبابين ينادون: لبيك جعفر، لبيك جعفر، وعرف خالد خبرهم وهو يخطب فدهش بهم فلم يعلم ما يقول فزعا فقال: أطعموني ماء ثم خرج الناس إليهم فأخذوا فجعل يجيئ بهم إلى المسجد و يؤخذ طن قصب فيطلى بالنفط ويقال للرجل منهم: احتضنه. ويضرب حتى يفعل ثم يحرق فحرقهم جميعا، فلما عزل خالد عن العراق ووليه يوسف بن عمر دخل عليه الكميت وقد مدحه بعد قتله زيد بن علي فأنشده قوله فيه:
خرجت لهم تمشي البراح ولم تكن * كمن حصنه فيه الرتاج المضبب
وما خالد يستطعم الماء فاغرا * بعدلك والداعي إلى الموت ينعب
قال والجند قيام على رأس يوسف بن عمر وهم ثمانية فتعصبوا لخالد فوضعوا نعال سيوفهم في بطن الكميت فوجؤوه بها وقالوا: أتنشد الأمير ولم تستأمره؟ فلم يزل ينزف الدم حتى مات.
[الأغاني 15 ص 121.]
وحدث المستهل (2) بن الكميت قال حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه وأغمي عليه ثم أفاق ففتح عينيه ثم قال: أللهم آل محمد، أللهم آل محمد، أللهم آل محمد. ثلاثا ثم قال: يا بني وددت أني لم أكن هجوت نساء بني كلب بهذا البيت وهو:
____________
(1) هم المغيرة بن سعيد وبيان وأصحابهما الست وكانوا يسمون: الوصفاء.
(2) كان المستهل من الشعراء المعروفين وله ديوان كما في فهرست ابن النديم ص 233.
مع العضروط والعسفاء ألقوا * برادعهن غير محصنينا
فعممتهن قذفا بالفجور، والله ما خرجت ليلا قط إلا خشيت أن أرمى بنجوم السماء بذلك. ثم قال: يا بني إنه بلغني في الروايات: إنه يحفر بظهر الكوفة خندق، ويخرج فيه الموتى من قبورهم، وينبشون منها فيحولون إلى قبور غير قبورهم. فلا تدفني في الظهر ولكن إذا مت فامض بي إلى موضع يقال له: ” مكران ” فادفني فيه.
فدفن في ذلك الموضع وكان أول من دفن فيه وهو مقبرة بني أسد إلى الساعة.
((الأغاني)) 15 ص 130، ((المعاهد)) 2 ص 131.
2018-02-01