كيف ظهَّرت كربلاء معاني الدين الإسلامي ؟
من ناحية كانت كربلاء قتالاً ودفاعاً عن الدين، من قبل جماعة يقودها فرد، هو اكثر معرفة وتقمصاً وانتماءً وايماناً وتمحضاً بهذا الدين وهذه العقيدة، ومن ناحية ثانية، ولأن هذه الجماعة كانت على اعلى قدر من الإيمان بهذا الدين، كانت على استعداد لبذل كل شيء لأجله، وكانت على أعلى قدر من الذوبان في الشريعة بحيث تستطيع أن تقدم النموذج التطبيقي الأكثر وضوحاً وجاذبية. فهي كحالة اختبار وتحدٍ غير عادي لانتماء هذه الجماعة إلى فكرتها، مثلت هذه الجماعة بسلوكها الكلي والتفصيلي التجلي الأمثل لهذه الفكرة. هذا التحدي الذي نصفه بالغير عادي كان تحدياً محسوم النتائج منذ البداية، فليس هناك احتمال لانتصار مادي ارضي، ليس هناك إلا غاية واحدة، وهي الدفاع عن هذه الفكرة، ومن هنا فإن كل ما حصل كان إثباتاً للفكر والعقيدة، غير مشوب بأي غاية أخرى، لأن أي السعي لأي غاية أرضية مادية كان غير منطقي وغير موضوعي وليس موجوداً في الحسبان في الأصل، لذلك انفردت هذه الواقعة بمدى تماهيها مع الفكرة المحركة لها، ومدى تمثيلها لها، وشدة وضوح هذا التمثيل ونقائه من اي احتمال آخر خلال تحليل المتلقي لما حصل.
الحسين : الإمام القائد
قبل الدخول في تفصيل المشهد الكربلائي الوجودي، لا بد من الإضاءة على طبيعة ما حصل في دائرة القطب منها، وهو الدور الفعلي الذي قام به سيد الشهداء صلوات الله عليه، كيف تحرك هذا القطب، وأنتج هذا المشهد الإلهي، وما هي البعد الواقعي المباشر لدوره، ما هو المشهد الظاهري لهذه الحادثة في دائرة قطبها؟
الخلافة الإلهية في موضع التطبيق، الخليفة هو الذي يسيل الأمر الإلهي والوحي الإلهي في الوجود الدنيوي، والعوالم المختلفة، وظهور الخليفة هنا، في تلك الواقعة، يبين لنا الدور المناط به، وطبيعة الإنسان الكامل الذي يحمل العبء الإلهي العظيم. فما هي مميزات هذا الظهور في كربلاء عن سائر الظهورات، وما هو مدى اتساع الأدوار وتنوعها ومدى ظهور سيطرته وهيمنته على سائر الأبعاد والجزئيات المختلفة في سلم التشكيك الوجودي.
* الأبعاد القيادية في شخصية الإمام والتي تجلت في مسيرة كربلاء
القرار
منذ لحظة طلب والي المدينة مجيء الإمام الحسين صلوات الله عليه إلى قصر الإمارة، كان الإمام مدركاً لما حصل، فقد مات معاوية، ويريد الوالي أن يأخذ البيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر، منذ تلك اللحظة اتخذ الإمام قرار الرفض، وصرح أمام الوالي بذلك، ثم ارتحل مع عياله إلى مكة، وهناك وصلته رسائل أهل الكوفة، فأرسل مسلم بن عقيل إليها، ووصلته من ثم رسالة من مسلم تفيده بضرورة التعجيل بالقدوم. هنا اتخذ الإمام قرار المواجهة والإنقلاب على السلطة الديكتاتورية الأموية، استناداً إلى دعم أهل الكوفة ومبادرتهم. في الطريق وقبل الوصول إلى الكوفة وصلت إلى الإمام أخبار استشهاد مسلم بن عقيل، هنا لم يتغير القرار، واستمر السير حتى وصل إلى كربلاء بعد جعجعة الحر الرياحي. الإمام وحيداً اتخذ هذا القرار، وهو المبادر إلى صناعة هذه الحركة التي انتهت بيوم الواقعة، وهو المحرك لكل من التحق به، فقراره هو مصدر شرعية التحرك، وهو الحافز للإستمرار في هذا الحراك الإستشهادي، فهو بقراره هذا منشأ كل الأحداث التي حصلت.
الوعي التاريخي
استند الإمام في قراره إلى معرفة بالظروف التي مرت بها الأمة منذ وفاة رسول الله صلوات الله عليه، وبالظروف التي وصلت إليها عند لحظة موت معاوية، فهو عايش كل هذه المراحل والأزمات والفتن والحروب، والتغيرات التي طرأت في الثقافة والنظام السياسي والقيم الدينية والإجتماعية والظروف الروحية والأخلاقية للمجتمع، وكذلك كان يمتلك رؤية واضحة وحاسمة عما سيؤول إليه وضع الأمة عند استقرار يزيد في السلطة، دون أي رقابة أو محاسبة سواءً إدارية أو شعبية أو دينية، فعلى الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد، فالقرار كان مستنداً إلى رؤية متكاملة لما سينتج عنه وجود يزيد في السلطة متربعاً على عرش شرعية خلافة المسلمين، بل خلافة رسول الله صلوات الله عليه. عندما ارسلت الكوفة برسائلها، كانت هي المدينة الوحيدة في العالم الإسلامي المترامي الأطراف التي أعلنت رفضها للواقع المفروض، وهو العارف بتاريخها السياسي مع والده وأخيه، كان الإمام أمام الفرصة الوحيدة المتاحة في الواقع، للقيام بعملية انقلاب على السلطة المغتصبة، وعندما وصلت رسائل تغير الميدان الكوفي واستشهاد مسلم بن عقيل وانقلاب السيوف والقلوب، فإن كان ذلك دليلاً على انطفاء أي ضوء أمل في المجتمع الإسلامي، فذلك هو أخطر ما يمكن لسلطة يزيد أن تصل إليه في تطرفها واستبدادها، ولذلك فإن انقلاب الكوفة كان خير دليل على كلمته بأن على الإسلام السلام إذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد، ولذلك كان ما حصل في الكوفة دافعاً وسبباً للاستمرار في الحركة الثورية الحسينية الإستشهادية.
* هادي قبيسي.