الرئيسية / القرآن الكريم / الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 106 – 107

الميزان في تفسير القرآن سورة البقرة 106 – 107

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107)

بيان

الآيتان في النسخ و من المعلوم أن النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء و هو الإبانة عن انتهاء أمد الحكم و انقضاء أجله اصطلاح متفرع على الآية مأخوذ منها و من مصاديق ما يتحصل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية.

قوله تعالى: ما ننسخ، النسخ هو الإزالة، يقال: نسخت الشمس الظل إذا أزالته و ذهبت به، قال تعالى: «و ما أرسلنا من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان»: الحج – 51، و منه أيضا قولهم: نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى أخرى فكأن الكتاب أذهب به و أبدل مكانه و لذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى: «و إذا بدلنا آية مكان آية و الله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون»: النحل – 101، و كيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود و بطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف و هو الآية و العلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى: أ لم تعلم، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث إنها آية، أعني إذهاب كون الشيء آية و علامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله و هذا هو المستفاد من اقتران قوله: ننسها بقوله: ما ننسخ، و الإنساء إفعال من النسيان و هو الإذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الإذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها.

ثم إن كون الشيء آية يختلف باختلاف الأشياء و الحيثيات و الجهات، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله، و الأحكام و التكاليف الإلهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى و القرب بها منه تعالى، و الموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها و بخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته و أسمائه سبحانه، و أنبياء الله و أولياؤه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل و هكذا، و لذلك كانت الآية تقبل الشدة و الضعف قال الله تعالى: «لقد رأى من آيات ربه الكبرى»: النجم – 18.

و من جهة أخرى الآية ربما كانت في أنها آية ذات جهة واحدة و ربما كانت ذات جهات كثيرة، و نسخها و إزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كإهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي و تبقى من حيث بلاغتها و إعجازها و نحو ذلك.

و هذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير، أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض، و ذلك أن الإنكار المتوهم في المقام أو الإنكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلق به من وجهين: أحدهما: من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية لا تحفظها شيء دونها، فلو زالت الآية فاتت المصلحة و لن تقوم مقامها شيء تحفظ به تلك المصلحة، و يستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة و مصلحة العباد، و ليس شأنه تعالى كشأن عباده و لا علمه كعلمهم بحيث يتغير بتغير العوامل الخارجية فيتعلق يوما علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثم يتغير علمه غدا و يتعلق بمصلحة أخرى فاتت عنه بالأمس، فيتغير الحكم، و يقضي ببطلان ما حكم سابقا، و إتيان آخر لاحقا، فيطلع كل يوم حكم، و يظهر لون بعد لون، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الأشياء، فكانت أحكامهم و أوضاعهم تتغير بتغير العلوم بالمصالح و المفاسد زيادة و نقيصة و حدوثا و بقاء، و مرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة و إطلاقها.

و ثانيهما: أن القدرة و إن كانت مطلقة إلا أن تحقق الإيجاد و فعلية الوجود يستحيل معه التغير، فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة و هذا مثل الإنسان في فعله الاختياري فإن الفعل اختياري للإنسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له، و مرجع هذا الوجه إلى نفي إطلاق الملكية و عدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود: يد الله مغلولة: فأشار سبحانه إلى الجواب عن الأول بقوله: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامة ما هو مثل الفائت مقامه و أشار إلى الجواب عن الثاني بقوله: أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير، أي أن ملك السموات و الأرض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء و ليس لغيره شيء من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من أبواب تصرفه سبحانه، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته، فلا يملك شيء شيئا، لا ابتداء و لا بتمليكه تعالى، فإن التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الأول و يحصل ملك الثاني، بل هو مالك في عين ما يملك غيره ما يملك، فإذا نظرنا إلى حقيقة الأمر كان الملك المطلق و التصرف المطلق له وحدة، و إذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا و إذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال – و هو في الحقيقة فقر في صورة الغنى، و تبعية في صورة الاستقلال – لم يمكن لنا أيضا أن ندبر أمورنا من دون إعانته و نصره كان هو النصير لنا.

و هذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى: «إن الله له ملك السموات و الأرض فقوله تعالى: أ لم تعلم أن الله على كل شيء قدير أ لم تعلم أن الله له ملك السموات و الأرض»، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين، و من الشاهد على كونهما اعتراضين اثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل، و قوله تعالى: و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي و إن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال و استقلال فهو وحده وليكم، فله أن يتصرف فيكم و في ما عندكم ما شاء من التصرف، و إن لم تنظروا إلى عدم استقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك و الاستقلال و انجمدتم على ذلك فحسب، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة و الملك و الاستقلال لا تتم وحدها، و لا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم و إرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله و نصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا، و قوله: و ما لكم من دون الله، جيء فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه.

فقد ظهر مما مر: أولا، أن النسخ لا يختص بالأحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا.

و ثانيا: أن النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ و منسوخ.

و ثالثا: أن الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة.

و رابعا: أن الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته و إنما يرتفع التناقض بينهما من جهة اشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفي نبي و بعث نبي آخر و هما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة و الموت و الرزق و الأجل و ما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب اختلاف الأعصار و تكامل الأفراد من الإنسان، و إذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين و كل من الحكمين أطبق على مصلحة الوقت، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة و ليس للمسلمين بعد عدة و لا عدة.

و حكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الإسلام و أعد فيهم ما استطاعوا من قوة و ركز الرعب في قلوب الكفار و المشركين.

و الآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء و تلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى «فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره»: البقرة – 109، المنسوخ بآية القتال و قوله تعالى: «فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا»: النساء – 14 المنسوخ بآية الجلد فقوله: حتى يأتي الله بأمره و قوله: «أو يجعل الله لهن سبيلا» لا يخلو عن إشعار بأن الحكم موقت مؤجل سيلحقه نسخ.

و خامسا: أن النسبة التي بين الناسخ و المنسوخ غير النسبة التي بين العام و الخاص و بين المطلق و المقيد و بين المجمل و المبين، فإن الرافع للتنافي بين الناسخ و المنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي هو الحكمة و المصلحة الموجودة بينهما، بخلاف الرافع للتنافي بين العام و الخاص و المطلق و المقيد و المجمل و المبين فإنه قوة الظهور اللفظي الموجود في الخاص و المقيد و المبين، المفسر للعام بالتخصيص، و للمطلق بالتقييد، و للمجمل بالتبيين على ما بين في فن أصول الفقه، و كذلك في المحكم و المتشابه على ما سيجيء في قوله: «منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات»: آل عمران – 7.

قوله تعالى: أو ننسها، قرىء بضم النون و كسر السين من الإنساء بمعنى الإذهاب عن العلم و الذكر و قد مر توضيحه، و هو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل غير شامل له أصلا لقوله تعالى: «سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله»: الأعلى – 7، و هي آية مكية و آية النسخ مدنية فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى: فلا تنسى و أما اشتماله على الاستثناء بقوله: إلا ما شاء الله فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى: «خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ»: هود – 109، جيء بها لإثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الأمر، و لو كان الاستثناء مسوقا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله: فلا تنسى معنى، إذ كل ذي ذكر و حفظ من الإنسان و سائر الحيوان كذلك يذكر و ينسى و ذكره و نسيانه كلاهما منه تعالى و بمشيته، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك قبل هذا الإقراء الامتناني الموعود بقوله: سنقرئك يذكر بمشية الله و ينسى بمشية الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى أبدا و الله مع ذلك قادر على إنسائك هذا.

و قرىء قوله: ننساها بفتح النون و الهمزة من نسيء نسيئا إذا أخر تأخيرا فيكون المعنى على هذا: ما ننسخ من آية بإزالتها أو نؤخرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها و لا يوجب التصرف الإلهي بالتقديم و التأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة، و الدليل على أن المراد بيان أن التصرف الإلهي يكون دائما على الكمال و المصلحة هو قوله: بخير منها أو مثلها فإن الخيرية إنما يكون في كمال شيء موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلا لآخر في الخيرية أو أزيد منه في ذلك فافهم.

بحث روائي

قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصحابة و عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن في القرآن ناسخا و منسوخا.

و في تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): بعد ذكر عدة آيات من الناسخ و المنسوخ: قال (عليه السلام) و نسخ قوله تعالى: و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون قوله عز و جل: و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم أي للرحمة خلقهم.

أقول: و فيها دلالة على أخذه (عليه السلام) النسخ في الآية أعم من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الأولى، و بعبارة واضحة: الآية الأولى تثبت للخلقة غاية و هي العبادة، و الله سبحانه غير مغلوب في الغاية التي يريدها في فعل من أفعاله غير أنه سبحانه خلقهم على إمكان الاختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء و الضلال فلا يزالون مختلفين إلا من أخذته العناية الإلهية، و شملته رحمة الهداية، و لذلك خلقهم أي و لهذه الرحمة خلقهم، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية، و هو الرحمة المقارنة للعبادة و الاهتداء و لا يكون إلا في البعض دون الكل و الآية الأولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقا لأجل البعض الآخر و هذا البعض أيضا لآخر حتى ينتهي إلى أهل العبادة و هم العابدون المخلوقون للعبادة فصح أن العبادة غاية للكل نظير بناء الحديقة و غرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها المالية فالآية الثانية تنسخ إطلاق الآية الأولى، و في تفسير النعماني، أيضا عنه (عليه السلام): قال: و نسخ قوله تعالى: «و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا» قوله: «الذين سبقت لهم منا الحسنى – أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها – و هم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر».

أقول: و ليست الآيتان من قبيل العام و الخاص لقوله تعالى: كان على ربك حتما مقضيا، و القضاء الحتم غير قابل الرفع و لا ممكن الإبطال و يظهر معنى هذا النسخ مما سيجيء إن شاء الله في قوله: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون»: الأنبياء – 101.

و في تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): أن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب، و نجاة قوم يونس.

أقول: و الوجه فيه واضح.

و في بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت عد (عليه السلام) موت إمام و قيام إمام آخر مقامه من النسخ.

أقول: و قد مر بيانه، و الأخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة.

و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و أبو داود في ناسخه و ابن جرير عن قتادة قال: كانت الآية تنسخ الآية و كان نبي الله يقرأ الآية و السورة و ما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله: يقص على نبيه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها، يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي.

أقول: و روى فيه أيضا في معنى الإنساء روايات عديدة و جميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مر في بيان قوله أو ننسها.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...