تجب المعرفة بالتفكير ولا يصح فيها التقليد
ـ الاِقتصاد للشيخ الطوسي ص 9
الطريق إلى معرفة الاَشياء أربعة لا خامس لها :
أولها ، أن يعلم الشيء ضرورة لكونه مركوزاً في العقول ، كالعلم بأن الاِثنين أكثر من واحد ، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة ، وأن الجسمين لا يكونان مكان واحد في حالة واحدة ، والشيء لا يخلو من أن يكون ثابتاً أو منفياً ، وغير ذلك مما هو مركوز في العقول .
والثاني ، أن يعلم من جهة الاِدراك إذا أدرك وارتفع اللبس ، كالعلم بالمشاهدات والمدركات بسائر الحواس .
والثالث ، أن يعلم بالاَخبار كالعلم بالبلدان والوقائع وأخبار الملوك وغير ذلك .
والرابع ، أن يعلم بالنظر والاِستدلال .
والعلم بالله تعالى ليس بحاصل من الوجه الاَول ، لاَن ما يعلم ضرورة لا يختلف العقلاء فيه بل يتفقون عليه ، ولذلك لا يختلفون في أن الواحد لا يكون أكثر من اثنين، وأن الشبر لا يطابق الذراع . والعلم بالله فيه خلاف بين العقلاء فكيف يجوز أن
( 179 )
يكون ضرورياً .
وليس الاِدراك أيضاً طريق العلم بمعرفة الله تعالى ، لاَنه تعالى ليس بمدرك بشيء من الحواس على ما سنبينه فيما بعد ، ولو كان مدركاً محسوساً لاَدركناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة .
والخبر أيضاً لا يمكن أن يكون طريقاً إلى معرفته ، لاَن الخبر الذي يوجب العلم هو ما كان مستنداً إلى مشاهدة وإدراك ، كالبلدان والوقائع وغير ذلك ، وقد بينا أنه ليس بمدرك ، والخبر الذي لا يستند إلى الاِدراك لا يوجب العلم . ألا ترى أن جميع المسلمين يخبرون من خالفهم بصدق محمد صلى الله عليه وآله فلا يحصل لمخالفيهم العلم به لاَن ذلك طريقه الدليل ، وكذلك جميع الموحدين يخبرون الملحدة بحدوث العالم فلا يحصل لهم العلم به لاَن ذلك طريقه الدليل .
فإذا بطل أن يكون طريق معرفته الضرورة أو المشاهدة أو الخبر ، لم يبق إلا أن يكون طريقة النظر .
فإن قيل : أين أنتم عن تقليد المتقدمين ؟
قلنا : التقليد إن أريد به قبول قول الغير من غير حجة وهو حقيقة التقليد فذلك قبيح في العقول ، لاَن فيه إقداماً على ما لا يأمن كون ما يعتقده عند التقليد جهلاً لتعريه من الدليل ، والاِقدام على ذلك قبيح في العقول ، ولاَنه ليس في العقول أن تقليد الموحد أولى من تقليد الملحد إذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا ولا يجوز أن يتساوى الحق والباطل .
فإن قيل : نقلد المحق دون المبطل .
قلنا : العلم بكونه محقاً لا يمكن حصوله إلا بالنظر ، لاَنا إن علمناه بتقليد آخر أدى إلى التسلسل ، وإن علمناه بدليل فالدليل الدال على وجوب القبول منه يخرجه عن باب التقليد ، ولذلك لم يكن أحدنا مقلداً للنبي أو المعصوم فيما نقبله منه لقيام الدليل على صحة ما يقوله .
( 180 )
وليس يمكن أن يقال : نقلد الاَكثر ونرجع إليهم ، وذلك لاَن الاكثر قد يكونون على ضلال بل ذلك هو المعتاد المعروف ، ألا ترى أن الفرق المبطلة بالاِضافة إلى الفرق المحقة جزء من كل وقليل من كثير .
ولا يمكن أن يعتبر أيضاً بالزهد والورع ، لاَن مثل ذلك يتفق في المبطلين ، فلذلك ترى رهبان النصارى على غاية العبادة ورفض الدنيا مع أنهم على باطل فعلم بذلك أجمع فساد التقليد .
فإن قيل : هذا القول يؤدي إلى تضليل أكثر الخلق وتكفيرهم ، لاَن أكثر من تعنون من العقلاء لا يعرفون ما يقولونه ، من الفقهاء والاَدباء والرؤساء والتجار وجمهور العوام ، ولا يهتدون إلى ما يقولونه ، وإنما يختص بذلك طائفة يسيرة من المتكلمين ، وجميع من خالفهم يبدعهم في ذلك ، ويؤدي إلى تكفير الصحابة والتابعين وأهل الاَمصار ، لاَنه معلوم أن أحداً من الصحابة والتابعين لم يتكلم فيما تكلم فيه المتكلمون ولا سمع منه حرف واحد ولا نقل عنهم شيء منه ، فكيف يقال بمذهب يؤدي إلى تكفير أكثر الاَمة وتضليلها ، وهذا باب ينبغي أن يزهد فيه ويرغب عنه .
قيل : هذا غلط فاحش وظن بعيد ، وسوء ظن بمن أوجب النظر المؤدي إلى معرفة الله ، ولسنا نريد بالنظر المناظرة والمحاجة والمخاصمة والمحاورة التي يتداولها المتكلمون ويجرى بينهم ، فإن جميع ذلك صناعة فيها فضيلة وإن لم تكن واجبة ، وإنما أوجبنا النظر الذي هو الفكر في الاَدلة الموصلة إلى توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه وصحة ما جاء به ، وكيف يكون ذلك منهياً عنه أو غير واجب والنبي عليه السلام لم يوجب القبول منه على أحد إلا بعد إظهار الاَعلام والمعجزة من القرآن وغيره ، ولم يقل لاَحد إنه يجب عليك القبول من غير آية ولا دلالة . وكذلك تضمن القرآن من أوله إلى آخره التنبيه على الاَدلة ووجوب النظر ، قال الله تعالى : أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والاَرض وما خلق الله من شيء . وقال : أفلا ينظرون إلى الاِبل كيف خلقت . وإلى السماء كيف رفعت . وإلى الجبال كيف نصبت . وإلى
( 181 )
الاَرض كيف سطحت . وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وقال : قتل الاِنسان ما أكفره . من أي شيء خلقه . من نطفة خلقه . الآية . وقال : إن في خلق السماوات والاَرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاَولي الاَلباب . إلى قوله : إنك لا تخلف الميعاد . وقال : فلينظر الاِنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الاَرض شقاً، إلى قوله : متاعاً لكم ولاَنعامكم . وقال : ولقد خلقنا الاِنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . إلى قوله فتبارك الله أحسن الخالقين . وقال : إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ، ولقوم يعقلون ، ولاَولي الاَلباب ، ولمن كان له قلب ، يعني عقل . وغير ذلك من الآيات التي تعدادها يطول .
وكيف يحث تعالى على النظر وينبه على الاَدلة وينصبها ويدعو إلى النظر فيها ، ومع ذلك يحرمها . إن هذا لا يتصوره إلا غبيٌّ جاهل . فأما من أومي إليه من الصحابة والتابعين وأهل الاَعصار من الفقهاء والفضلاء والتجار والعوام ، فأول ما فيه أنه غير مسلم ، بل كلام الصحابة والتابعين مملو من ذلك .
. . . وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه . وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة : أول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه ، لشهادة العقول إن من حلته الصفات فهو مخلوق ، وشهادتها أنه خالق ليس بمخلوق ثم قال : بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول يعتقد معرفته ، وبالنظر يثبت حجته ، معلوم بالدلالات ، مشهور بالبينات ، إلى آخر الخطبة . وخطبه في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .
وقال الحسن عليه السلام : والله ما يعبد الله إلا من عرفه ، فأما من لم يعرفه فإنما يعبده هكذا ضلالاً ، وأشار بيده .
وقال الصادق عليه السلام : وجدت علم الناس في أربع : أولها أن تعرف ربك ، والثاني أن تعرف ما صنع بك ، والثالث أن تعرف ما أراد منك ، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك . . . .
( 182 )
فإن قالوا : أكثر من أومأتم إليه إذا سألته عن ذلك لا يحسن الجواب عنه .
قلنا : وذلك أيضاً لا يلزم ، لاَنه لا يمتنع أن يكون عارفاً على الجملة وإن تعذرت عليه العبارة عما يعتقده ، فتعذر العبارة عما في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا ارتفاعه .
ـ الرسالة السعدية للعلامة الحلي ص 3 ـ 9
وقد حرم الله تعالى على جميع العبيد سلوك طريق التقليد ، بل أوجب البحث في أصول العقايد اليقينية وتحصيلها باستعمال البراهين القطعية . . . . المقدمة الثانية في تحريم التقليد . طلب الله تعالى من المكلف اعتقاداً جازماً يقينياً مأخوذاً من الحجج والاَدلة ، وذلك في المسائل الاَصولية ، واعتقاداً مستفاداً إما من الحجة ، أو من التقليد في المسائل الفروعية .
ـ رسائل المحقق الكركي ج 1 ص 59
يجب على كل مكلف حرّ وعبد ذكر وأنثى أن يعرف الاَصول الخمسة التي هي أركان الاِيمان ، وهي : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والاِمامة ، والمعاد ، بالدليل لا بالتقليد . ومن جهل شيئاً من ذلك لم ينتظم في سلك المؤمنين ، واستحق العقاب الدائم مع الكافرين .
ـ رسائل المحقق الكركي ج 1 ص 80 وج 3 ص 173
ويجب أمام فعلها معرفة الله تعالى ، وصفاته الثبوتية والسلبية ، وعدله وحكمته ، ونبوة نبينا محمد صلوات الله عليه وآله ، وإمامة الاَئمة عليهم السلام والاِقرار بكل ما جاء به النبي صلوات الله عليه وآله من أحوال المعاد ، بالدليل لا بالتقليد .
قوله : بالدليل لا بالتقليد ، الدليل هو ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر إثباتاً أو نفياً . والتقليد هو الاَخذ بقول الغير من غير حجة ملزمة ، مأخوذ من تقليده بالقلادة
( 183 )
وجعلها عنقه كأن المقلد يجعل ما يعتقده من قول الغير من حق أو باطل قلادة في عنق من قلده .