الرئيسية / بحوث اسلامية / توحيد المفضل للمفضل بن عمر

توحيد المفضل للمفضل بن عمر

(النبات وما فيه من ضروب المآرب)

 فكر يا مفضل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب، فالثمار للغذاء، والأتبان (1) للعلف، والحطب للوقود، والخشب لكل شيء من أنواع التجارة وغيرها، واللحاء (2) والورق والأصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع. أرأيت لو كنا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض، ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها، كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا، وإن كان الغذاء موجودا فإن المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها، جليل موقعها، هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره، ونضارته التي يعدلها شيء من مناظر العالم وملاهيه. (الريع في النبات وسببه) فكر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع، فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر وأقل، وكان يجوز للحبة أن تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة (3) متسع، لما يرد في الأرض من البذر، وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل، ألا ترى أن الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم وما يقوتهم إلى إدراك زرعهم. (فانظر كيف تجد المثال قد تقدم في تدبير الحكيم، فصار الزرع يريع

(هامش)

(1) لم يرد في معاجم اللغة العربية، لفظ الأتبان على معنى التبن المعروف ولعل اللفظ قد غيره النساخ والصحيح تبن. (2) اللحاء: قشر العود أو الشجر. (3) الغلة – بالفتح -: الدخل من كراء دار وفائدة أرض ونحو ذلك والجمع غلات وغلال. (*)

ص 100

هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة، وكذلك الشجر والنبت والنخل يريع الريع الكثير، فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرا عظيما، فلم كان كذلك إلا ليكون فيه ما يقطعه الناس، ويستعملونه في مأربهم، وما برد فيغرس في الأرض، ولو كان الأصل منه يبقى منفردا لا يفرخ ولا يريع لما أمكن أن يقطع منه شيء لعمل ولا لغرس، ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله، فلم يكن منه خلف.

 (بعض النباتات وكيف تصان)

 تأمل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه فإنها تخرج في أوعية مثل الخرائط (1) لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشتد وتستحكم، كما قد تكون المشيمة (2) على الجنين لهذا المعنى بعينه وأما البر (3) وما أشبهه فإنه يخرج مدرجا في قشور صلاب على رؤوسها أمثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفر على الزراع فإن قال قائل: أو ليس قد ينال الطير من البر والحبوب؟ قيل له: بلى على هذا قدر الأمر فيها، لأن الطير خلق من خلق الله تعالى وقد جعل الله تبارك وتعالى له في ما تخرج الأرض حظا ولكن حصنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كل التمكن فيعبث بها ويفسد الفساد الفاحش. فإن الطير لو صادف الحب بارزا ليس عليه شيء يحول دونه لأكب عليه حتى ينسفه أصلا، فكان يعرض من ذلك أن يبشم (4) الطير فيموت، ويخرج الزراع من زرعه صفرا، فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه، فينال الطائر منه شيئا يسيرا يتقوت به، ويبقى أكثره للإنسان، فإنه

(هامش)

(1) لم نجد للفظ (الخرائط) هنا معنى يتسق ومراد الإمام (ع) ولعله يريد الشكل المخروطي، وهو ما يبتدئ من سطح مستدير ويرتفع مستدقا حتى ينتهي إلى نقطة. (2) المشيمة: غشاء ولد الإنسان يخرج معه عند الولادة، جمعه: مشيم ومشايم. (3) البر – بضم فتشديد – هو القمح، الواحدة برة. (4) يبشم الطعام: أي يتخم من الطعام. (*)

 

 

قال المفضل: فلما كان اليوم الرابع بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي، فأمرني بالجلوس فجلست، فقال عليه السلام: منا التحميد والتسبيح والتعظيم والتقديس، للاسم الأقدم، والنور الأعظم، العلي العلام، ذي الجلال والإكرام، ومنشئ الأنام، ومفني العوالم والدهور، وصاحب السر المستور، والغيب المحظور، والاسم المخزون، والعلم المكنون، وصلواته وبركاته على مبلغ وحيه، ومؤدي رسالته، الذي بعثه بشيرا (ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، فعليه وعلى آله من بارئه الصلوات الطيبات، والتحيات الزاكيات الناميات، وعليه وعليهم السلام والرحمة والبركات في الماضين والغابرين، أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وهم أهله ومستحقوه).

 (الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

 قد شرحت لك يا مفضل من الأدلة على الخلق، والشواهد على صواب التدبير والعمد في الإنسان والحيوان والنبات والشجر وغير ذلك. ما فيه عبرة لمن اعتبر، وأنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتخذها أناس من الجهال ذريعة إلى جحود الخلق والخالق والعمد والتدبير، وما أنكرت المعطلة والمنانية من المكاره والمصائب، وما أنكروه من الموت والفناء، وما قاله أصحاب الطبائع، ومن زعم أن كون الأشياء بالعرض والاتفاق، ليتسع ذلك القول في الرد عليهم قاتلهم الله أنى يؤفكون.

ص 110

(الآفات ونظر الجهال إليها والجواب على ذلك)

 اتخذ أناس من الجهال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان – كمثل الوباء واليرقان والبرد (1) والجراد – ذريعة إلى جحود الخالق والتدبير والخلق، فيقال في جواب ذلك: أنه إن لم يكن خالق ومدبر فلم لا يكون ما هو أكثر من هذا وأفظع؟ فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض، وتهوي الأرض فتذهب سفلا، وتتخلف الشمس عن الطلوع أصلا، وتجف الأنهار والعيون حتى لا يوجد ماء للشفة، وتركد الريح، حتى تخم الأشياء وتفسد، ويفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها، ثم هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء والجراد وما أشبه ذلك ما بالها لا تدوم وتمتد، حتى تجتاح كل ما في العالم، بل تحدث في الأحايين، ثم لا تلبث أن ترفع. أفلا ترى أن العالم يصان ويحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث شيء منها كان فيه بواره ويلذع (2) أحيانا بهذه الآفات اليسيرة، لتأديب الناس وتقويمهم، ثم لا تدوم هذه الآفات، بل تكشف عنهم عند القنوط منهم، فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة. وقد أنكرت المنانية من المكاره والمصائب التي تصيب الناس فكلاهما يقول: إن كان للعالم خالق رؤوف رحيم، فلم تحدث فيه هذه الأمور المكروهة.. والقائل بهذا القول يذهب إلى أنه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر، ولو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشر (3) والعتو (4) إلى ما لا يصلح في دين ولا دنيا، كالذي ترى كثيرا من

(هامش)

(1) ذهب ذكر اليرقان والبرد سابقا. (2) يقال لذعته النار أي أحرقته ولذعه بلسانه أي أوجعه بكلام وفي بعض النسخ بإهمال الأول وإعجام الثاني من لدغ العقرب. (3) الأشر: البطر. (4) العتو – بالضم – الاستكبار وتجاوز الحد. (*)

ص 111

المترفين ومن نشأ في الجدة والأمن، يخرجون إليه أن أحدهم ينسى أنه بشر، وأنه مربوب أو أن ضررا يمسه، أو أن مكروها ينزل به، أو أنه يجب عليه أن يرحم ضعيفا، أو يواسي فقيرا، أو يرثي المبتلي، أو يتحنن على ضعيف، أو يتعطف على مكروب، فإذا عضته المكاره ووجد مضضها، اتعظ وابصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه، ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه. والمنكرون لهذه الأمور المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمون الأدوية المرة البشعة، ويتسخطون من المنع من الأطعمة الضارة، ويتكرهون الأدب والعمل، ويحبون أن يتفرغوا للهو والبطالة، وينالوا مطعم ومشرب، ولا يعرفون ما تؤديهم إليه البطالة من سوء النشو والعادة، وما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارة من الأدواء والأسقام، وما لهم في الأدب من الصلاح، وفي الأدوية من المنفعة، وإن شاب ذلك بعض الكراهة، فإن قالوا: فلم لم يكن الإنسان معصوما من المساوي، حتى لا يحتاج إلى أن تلذعه هذه المكاره، قيل: إذا كان يكون غير محمود على حسنه يأتيها، ولا مستحقا للثواب عليها. فإن قالوا: وما كان يضره أن لا يكون محمودا على الحسنات مستحقا للثواب، بعد أن يصير إلى غاية النعيم واللذات؟ قيل لهم: اعرضوا على امرئ صحيح الجسم والعقل، أن يجلس منعما، ويكفي كلما يحتاج إليه بلا سعي ولا استحقاق، فانظروا هل تقبل نفسه ذلك، بل ستجدونه بالقليل مما يناله بالسعي والحركة أشد اغتباطا وسرورا بالكثير مما يناله بغير الاستحقاق، وكذلك نعيم الآخرة أيضا يكمل لأهله بأن ينالوه بالسعي فيه والاستحقاق له فالنعمة على الإنسان في هذا الباب مضاعفة، فإن أعد الثواب الجزيل على سعيه في هذه الدنيا وجعل له السبيل إلى أن ينال ذلك بسعي واستحقاق، فيكمل السرور والاغتباط بما يناله منه… فإن قالوا: أو ليس قد يكون من الناس من يركن إلى ما نال من خير، وإن كان لا يستحقه، فما الحجة في منع من رضي ينال نعيم الآخرة على هذه الجملة؟ قيل لهم: إن هذا باب لو

ص 112

صح للناس لخرجوا إلى غاية الكلب (1) والضراوة على الفواحش، وانتهاك المحارم، فمن كان يكف نفسه فاحشة أو يتحمل المشقة في باب من أبواب البر لوثق بأنه صائر إلى النعيم لا محالة، أو من كان يأمن على نفسه وأهله وماله من الناس لو لم يخاف الحساب والعقاب، فكان ضرر هذا الباب سينال الناس في هذه الدنيا قبل الآخرة. فيكون في ذلك تعطيل العدل والحكمة معا، وموضع للطعن على التدبير بخلاف الصواب ووضع الأمور في غير مواضعها.

 (لماذا تصيب الآفات جميع وما الحجة في ذلك)

 وقد يتعلق هؤلاء بالآفات تصيب الناس، فتعم البر والفاجر أو يبتلي بها البر ويسلم الفاجر منها، فقالوا: كيف يجوز هذا في تدبير الحكيم وما الحجة فيه؟ فيقال لهم: إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح والطالح جميعا. فإن الله عز وجل جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما، أما الصالحون فأن الذي يصيبهم من هذا يزدهم نعم ربهم عندهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر، وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش، وكذلك يجعل لمن سلم منهم من الصنفين صلاحا ذلك، أما الأبرار فإنهم يغتبطون بما هم عليه البر والصلاح ويزدادون فيه رغبة وبصيرة وأما الفجار فإنهم يعرفون رأفة ربهم، وتطوله عليهم بالسلامة من غير استحقاق. فيحضهم ذلك على الرأفة بالناس، والصفح عمن أساء إليهم.. ولعل قائلا يقول: إن هذه الآفات التي تصيب الناس في أموالهم، فما قولك فيما يبتلون به في أبدانهم، فيكون فيه تلفهم كمثل الحرق والغرق والسيل والخسف؟ فيقال له إن الله جعل في هذا أيضا صلاحا للصنفين جميعا، أما الأبرار فلما لهم في مفارقة هذه الدنيا من الراحة من

(هامش)

(1) في الأصل المطبوع الكلبة. ولا معنى اللفظ هنا، والصحيح ما ذكرناه إذ الكلب – بفتحتين – هو داء يشبه الجنون يأخذ الكلاب فتعض الناس فتكلب الناس أيضا إذا تمنعوا عن استعمال لقاح الطبيب الفرنسي المعروف باستور. (*)

ص 113

تكاليفها، والنجاة من مكارهها، وأما الفجار فلما لهم في ذلك من تمحيص أوزارهم، وحبسهم عن الازدياد منها، وجملة القول إن الخالق تعالى ذكره بحكمته وقدرته قد يصرف هذه الأمور كلها إلى الخير والمنفعة، فكما أنه إذا قطعت الريح شجرة أو قطعت نخلة، أخذها الصانع الرفيق، واستعملها في ضروب من المنافع فكذلك يفعل المدبر الحكيم في الآفات التي تنزل بالناس في أبدانهم وأموالهم، فيصيرها جميعا إلى الخير والمنفعة.. فإن قال ولم تحدث على الناس؟ قيل له: لكيلا يركنوا إلى المعاصي من طول السلامة، فيبالغ الفاجر في ركوب المعاصي، ويفتر الصالح عن الاجتهاد في البر فإن هذين الأمرين جميعا يغلبان على الناس في حال الخفض والدعة والحوادث التي تحدث عليهم تردعهم وتنبههم على ما فيه رشدهم، فلو خلوا منها لغلوا في الطغيان والمعصية، كما غلا الناس في أول الزمان. حتى وجب عليهم البوار بالطوفان وتطهير الأرض منهم.

 (الموت والفناء وانتقاد الجهال وجواب ذلك)

 ومما ينتقده الجاحدون للعمد والتقدير الموت والفناء. فإنهم يذهبون إلى أنه ينبغي أن يكون الناس مخلدين في هذه الدنيا. مبرئين من هذه الآفات، فينبغي أن يساق هذا الأمر إلى غايته، فينظر ما محصوله. أفرأيت لو كل من دخل العالم ويدخله يبقون، ولا يموت أحد منهم، ألم تكن الأرض تضيق بهم، حتى تعوزهم المساكن والمزارع والمعائش، فإنهم – والموت يفنيهم أولا فأولا – يتنافسون في المساكن والمزارع، حتى تنشب بينهم في ذلك الحروب، وتسفك فيهم الدماء، فكيف كانت تكون حالهم لو كانوا يولدون ولا يموتون، وكان يغلب عليهم الحرص والشره وقساوة القلوب، فلو وثقوا بأنهم لا يموتون لما قنع الواحد منهم بشيء يناله، ولا أفرج لأحد عن شيء يسأله، ولا سلا عن شيء مما يحدث عليه، ثم كانوا يملون الحياة وكل شيء من أمور الدنيا كما قد يمل

ص 114

الحياة من طال عمره، حتى يتمنى الموت والراحة من الدنيا… فإن قالوا: إنه كان ينبغي أنه يرفع عنهم المكاره والأوصاب حتى لا يتمنوا الموت ولا يشتاقوا إليه. فقد وصفنا ما كان يخرجهم إليه من العتو والأشر الحامل لهم على ما فيه فساد الدنيا والدين. وإن قالوا: إنه كان ينبغي أن لا يتوالدوا كيلا تضيق عنهم المساكن والمعائش. قيل لهم: إذا كان يحرم أكثر هذا الخلق دخول العالم والاستمتاع بنعم الله تعالى ومواهبه في الدارين جميعا إذا لم يدخل العالم إلا قرن (1) واحد، لا يتوالدون ولا يتناسلون… فإن قالوا: إنه كان ينبغي أن يخلق في ذلك القرن الواحد من الناس مثل ما خلق ويخلق إلى انقضاء العالم يقال لهم: رجع الأمر إلى ما ذكرنا من ضيق المساكن والمعائش عنهم، ثم لو كانوا لا يتوالدون ولا يتناسلون لذهب موضع الأنس بالقرابات وذوي الأرحام والانتصار بهم عند الشدائد، وموضع تربية الأولاد والسرور بهم، ففي هذا دليل على أن كلما تذهب إليه الأوهام – سوى ما جرى به التدبير – خطأ وسفه من الرأي والقول.

 (الطعن على التدبير من جهة أخرى والجواب عليه)

 ولعل طاعنا يطعن على التدبير من جهة أخرى فيقول كيف يكون هاهنا تدبير، ونحن نرى الناس في هذه الدنيا من عزيز، فالقوي يظلم ويغصب، والضعيف يظلم ويسالم الخسف، والصالح فقير مبتلى، والفاسق معافى موسع عليه، ومن ركب فاحشة أو انتهك محرما لم يعاجل بالعقوبة. فلو كان في العالم تدبير لجرت الأمور على القياس القائم، فكان الصالح هو المرزوق، والطالح هو المحروم، وكان القوي يمنع من ظلم الضعيف. والمنتهك للمحارم يعاجل بالعقوبة.. فيقال جواب ذلك: إن هذا لو كان هكذا لذهب موضع الإحسان الذي فضل به

(هامش)

(1) المراد بالقرن هنا أهل زمان واحد والجمع قرون. (*)

ص 115

الإنسان على غيره من الخلق، وحمل النفس على البر والعمل الصالح احتسابا للثواب، وثقة بما وعد الله عنه، ولصار الناس بمنزلة الدواب التي تساس بالعصا والعلف، ويلمع لها بكل واحد منهما ساعة فساعة فتستقيم على ذلك، ولم يكن أحد يعمل على يقين بثواب أو عقاب، حتى كان هذا يخرجهم عن حد الإنسية إلى حد البهائم، ثم لا يعرف ما غاب، ولا يعمل إلا على الحاضر من نعيم الدنيا، وكان يحدث من هذا أيضا أن يكون الصالح إنما يعمل للرزق والسعة هذه الدنيا، ويكون الممتنع من الظلم والفواحش إنما يكف عن ذلك لترقب عقوبة تنزل به من ساعته، حتى تكون أفعال الناس كلها تجري على الحاضر لا يشوبه شيء من اليقين بما عند الله، ولا يستحقون ثواب الآخرة والنعيم الدائم فيها، مع أن هذه الأمور التي ذكرها الطاعن من الغنى والفقر والعافية والبلاء ليست بجارية على خلاف قياسه، بل قد تجري على ذلك أحيانا والأمر المفهوم. فقد ترى كثيرا من الصالحين، يرزقون المال لضروب من التدبير وكيلا يسبق إلى قلوب الناس أن الكفار هم المرزوقون، والأبرار هم المحرومون، فيؤثرون الفسق الصلاح، وترى كثيرا من الفساق يعاجلون بالعقوبة إذا تفاقم طغيانهم وعظم ضررهم على الناس وعلى أنفسهم كما عوجل فرعون (1) بالغرق وبخت نصر (2) بالتيه وبلبيس (3) بالقتل وان أمهل بعض الأشرار

(هامش)

(1) قصة غرق فرعون في البحر معروفة في الكتب المقدسة، والقرآن الكريم يشير إليها في أكثر من موضع واحد. (2) أو نبوخذ نصر كان أعظم ملوك الكدانيين، وملك في بابل من سنة 604 إلى سنة 561 ق م وقد وصف بالقوة والبأس وعد من أبطال التاريخ في الشرق، وجاء ذكره في التوراة كثيرا لأنه عاقب الأمم الغربية عقابا شديدا، وهاجم اليهود – سكان مملكة يهوذا الصغيرة – هجوما صاعقا بعد أن أجلى أكثرهم إلى بابل ودمر عاصمتهم أورشليم تدميرا شديدا. (3) بلبيس كذا في الأصل وهو غير معروف عند المؤرخين ولم نجده فيما بين أيدينا من الكتب. (*)

ص 116

بالعقوبة، وآخر بعض الأخيار بالثواب إلى الدار الآخرة، لأسباب تخفى على العباد لم يكن هذا مما يبطل التدبير، فإن مثل هذا قد يكون من ملوك الأرض ولا يبطل تدبيرهم، بل يكون تأخيرهم ما أخروه، وتعجيلهم ما عجلوه داخلا في صواب الرأي والتدبير وإذا كانت الشواهد تشهد، وقياسهم يوجب أن للأشياء خالقا حكيما قادرا فما يمنعه أن يدبر خلقه، فإنه لا يصلح في قياسهم أن يكون الصانع يهمل صنعته إلا بإحدى ثلاث خلال إما عجز وإما جهل وإما شرارة، وكل هذا محال في صنعته عز وجل، وتعالى ذكره، وذلك أن العاجز لا يستطيع أن يأتي بهذه الخلائق الجليلة العجيبة، والجاهل لا يهتدي لما فيها من الصواب والحكمة والشرير لا يتطاول لخلقها وإنشائها، وإذا كان هذا هكذا وجب أن يكون الخالق لهذه الخلائق يدبرها لا محالة، وإن كان لا يدرك كنه ذلك التدبير ومخارجه، فإن كثيرا من تدبير الملوك لا تفهمه العامة ولا تعرف أسبابه، لأنها لا تعرف دخيلة أمر الملوك وأسرارهم فإذا عرف سببه وجد قائما على الصواب والشاهد المحنة. ولو شككت بعض الأدوية والأطعمة فيتبين لك من جهتين أو ثلاث إنه حار أو بارد، ألم تكن ستقضي عليه بذلك وتنفي الشك فيه عن نفسك؟ فما بال هؤلاء الجهلة لا يقضون على العالم بالخلق والتدبير مع هذه الشواهد الكثيرة وأكثر منها ما لا يحصى كثرة ولو كان نصف العالم وما فيه مشكلا صوابه، لما كان من حزم الرأي وسمت (1) الأدب أن يقضي على العالم بالإهمال لأنه كان في النصف الآخر وما يظهر فيه من الصواب، وإتقان ما يردع الوهم عن التسرع إلى هذه القضية، فكيف وكلما فيه إذا فتش وجد على غاية الصواب حتى لا يخطر بالبال شيء إلا وجد ما عليه الخلقة أصح وأصوب منه.

شاهد أيضاً

آداب الأسرة في الإسلام

رابعاً : حقوق الأبناء : للأبناء حقوق علىٰ الوالدين ، وقد لخّصها الإمام علي بن ...