الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / العبادة الواعية

العبادة الواعية

3 ـ تقوية القابلية على التركيز

تقدم أن الاضطرابات الفكرية، والصراعات النفسية هي من الأمراض المهلكة التي تهدد البشرية في القرن العشرين. ولذا يحاول العلماء والمتخصصون في علم النفس بكل حزم وجد ابتكار طرق تقلل وطأة العبء الفكري الذي يعاني منه الإنسان المعاصر، وتوفير الراحة لفكره ونفسه فترة من الزمن، وإنقاذه من التقلبات الروحية. فإن السيطرة على الشوارد الذهنية شرط أساسي لبلوغ النبوغ، وفهم المسائل، وإدراك الأمور. ولذا انصب السعي دوماً وأبداً على أن تكون الأماكن المعدة للمطالعة اعظمها هدوءاً، وأروعها رونقاً، وأجملها منظراً، كي يتمكن من تركيز الذهن، ورفع الاضطرابات.

يصرح أحد علماء النفس المعروفين يدعى “ويليام مولوتون مارستون” في المجلة المختصرة من “ريدرز دايجست” بقوله: “إن أكثر الناس يعجزون عن تركيز حواسهم على خصوص ما أوكل إليهم. وشرود الذهن هذا هو الذي يصيبهم بالحيرة والارتباك، ويوقعهم في الخطأ والاشتباه. والحال أن العقل البشري إذا تمكن من تركيز انتباهه على أمر تركيزاً قوياً فإنه سيؤدي دور أداة حيوية مؤثرة”.

ثم يضيف مستشهداً بقول عالم من علماء النفس آخر يطلق عليه لقب “أبو علم النفس” فيقول:

“الفرق بين النابغين وعامة الناس يكمن في القدرة على تركيز الذهن والسيطرة على القوى العقلية، لا ي الاستطاعة والصفات الفكرية الأخرى”[1].

إن الصلاة خمس مرات في اليوم تضع الفكر في مدار التركيز، وتيسر عملية تنامي القدرة على تركيز الذهن. وما جاء في الصلاة كالوقوف عند الباب المفتوح، وقبالة المرآة، وأمام الصور، ولوحات الرسم، والصلاة متضائقاً وغيرها يصب جميعاً في مدار الوصول إلى الدرجة القصوى من التركيز.

إننا إذا استطعنا سوق فكرنا بقوة وحزم للسير في مسار المعنويات فما من شك أن ستظهر جميع أدوار تركيز الذهن وآثاره، وتلقيات الإنسان المعنوية، ونموه الروحي، وتحصل لأذهاننا خارج الصلاة ملكة إحكام الاستقرار في المدار المعين والمحدد، ويتحقق لنا سكون واطمئنان خاصان.

4 ـ تحكيم العدالة الاجتماعية

على المصلي إذا أراد الصلاة رعاية عدد من الشروط اللازم توفرها في لباسه، ومكسبه، ومكان صلاته، وكذا رعاية حقوق الغير مثل دفع الزكاة، واجتناب الغيبة، والاهتمام بحقوق الناس كي تقع صلاته موقع القبول عند الله سبحانه وتعالى. وهذه القيود والالزامات ذات التأثير الكبير على كل حياة الإنسان تخرج الصلاة عن هيئتها كعمل فردي وشخصي لتبدو على شكل نهج تربوي، وظاهرة اجتماعية مستمدة من صلب الحياة، مما يحيلها عاملاً في مسير تحقق العدالة الاجتماعية وتحكيمها.

إذ كما تعتبر الصلاة في الثوب المعدّ من مال الحرام مردودة، ومرفوضة، كذلك وصفت الروايات صلاة من أسخط أبويه[2]، أو اغتاب مسلماً[3]، أو المرأة التي أسخطت زوجها، أو من يمنع الفقراء حقهم، أو إمام الجماعة الذي لم يكن الناس راضين عنه[4]، أو من لامست شفتاه المسكر[5]، بأنها غير مقبولة.

5 ـ اكتساب الوقار الشخصي والاتزان الأخلاقي!

لاريب أن بعض الظواهر والحوادث تختلف تأثيراً عميقاً في سلوك الإنسان وشخصه، وتحدث تحولاً كلياً في مستقبل حياته. فكل إنسان منا يحتفظ في ذاكرته ببعض الخواطر عن حوادث كانت سبباً في تحول طبعه وترك عادته وسلوكه إلى عادة وسلوك آخرين.

والصلاة والمداومة عليها يمثلان ـ بتصريح القرآن ـ واحداً من هذه الأسباب والعوامل حيث تترك الصلاة تأثيراً كبيراً على خلق الإنسان وشخصه فهو يقول واصفاً عامة الناس:

(إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون)[6].

فالمصلي يكتسب من خلال المفاهيم والمعاني السامية التي يلقن بها نفسه باستمرار، والسكون والطمأنينة الحاصلين بذكر الله وقاراً في الشخصية، واتزاناً في الخلق، واعتدالاً في السلوك ما يستطيع معها السيطرة على انفعالاته النفسية التي تحدث بسبب تقلبات الحياة.

وقد تعرضت الزهراء (ع) في خطبتها العصماء التي ألقتها في جمع من نساء المدينة المنورة إلى فلسفة العبادات ووصفت الصلاة بقولها:

“فرض الله الصلاة تنزيهاً من الكبر”[7].

والسبب الذي يجعل للصلاة هذا التأثير في شخص المصلي وسلوكه هو أن المصلي يكون بفضل الصلاة ذا قلب مطمئن بأن الله أكبر من كل العلائق والنوازع والمغريات، وكل الأشراف والوجهاء والأعيان، وجميع القوى والوسائل والأدوات، ويرى نفسه على ارتباط بمصدر قوة العالم في قبضته، والعالمون مربوبون له، وهو مع ما عليه من القدرة والجبروت رحمان رحيم، وحكومته غير محدودة بالدنيا، ولا مقصورة عليها بل هو مالك يوم الدين والحساب أيضاً.

إن الطمأنينة القلبية المنبعثة من كيان المصلي في إطار أذكار الصلاة تمنحه وقار الشخصية، وهدوء النفس.

كما أنه يكتسب ـ من خلال تذكره مصير البشرية، ومستقبل حياة الناس واليوم الآخر منها ـ شخصية ذات نظر مستقبلي، وفكر عال غير ضيق ولا محدود[8]، ويحصل ـ من خلال ربط آماله وتعلقاته الروحية برب الكون، واستعانته به[9] ـ على نفس أبية، وقلب مطمئن، منعتق من كل خوف واضطراب، وخال من كل أمل وتوقع من الغير… المصلي يلقِّن نفسه في كل يوم وجوب اتباع الصالحين، ونهج سبيل الهداية[10]، واتخاذ موقف في مواجهة الضالين[11].

6 ـ التحلّي بالنظم والانضباط

إن أجمل صورة معبرة عن سيماء الفرد والمجتمع وخصائصهما وميزاتهما صورة النظم والتقيد والانضباط. فإنما يقابل المرء في أي من النشاطات ومراحل الحياة بالقبول والاستحسان إذا حلى تعامله وسلوكه، وزين كتاب حياته بالانضباط. وهذه الصفة لا يكسبها حد إلا بالدقة الفائقة، والتمرين المتواصل. لذا فمن المحتم على الإنسان أن يقيد نفسه في الحياة برعاية النظم في البرامج، ويلزمها ببعض الأمور لتتحول هذه الالزامات والتقيدات بالتدريج إلى ملكة تتجسد في جميع شؤون حياته.

والصلوات اليومية إذ تدخل في أوقات محددة برنامج الحياة اليومية بوصفها أمراً إلزامياً دينياً تضفي على صفحة الحياة والنشاطات اليومية: الوظيفية والرتابة، وتبعث في الإنسان روح التقيد والالتزام بالوقت، ورعاية المنهج والنظام. فلو تحرينا بدقة شواهد النظم والمنهجة في الصلاة لوجدناها تدخل كل أجزائها، إذ تنطوي الصلاة من ألفها إلى يائها على نظام جميل رائع. فهي في المقدمات وترتيب أدائها المنطقي وفقاً للظروف المختلفة (الغسل فالوضوء فالتيمم)، وكذا في الاستقبال وحركة اليد، وأعضاء البدن، وعدد الركعات لكل وقت، ولباس المصلي ونوعه، ومكان المصلي ومسجده كلها تتضمن منهجاً وهدفاً ونظاماً معيناً. كما أن في اللحن والقراءة… منه، وفضل وضوئه، والتراب الذي يسجد عليه، وما يؤدي من تعقيبات بعد الصلاة ترتيباً ومنهجاً. وللصلاة في صف الصفوف، وزينة المصلي ومظهره منحى وتوجيه خاص. إن في الزام المصلي بهذه الشرائط والقيود كل يوم احياء لروح الانصياع للتقيد والالتزام الأمر الذي يرسخ في نفس الإنسان الانضباط ورعاية النهج والنظام في سائر شؤون الحياة.

7 ـ استحكام الإيمان:

ما من جيش ولا منظمة إلا وتعلم أفرادها وأتباعها نشيداً يبعث فيهم روح المقاومة والصمود كل صباح ومساء، ويصنع من إرادتهم وعزمهم إرادة حديدية وعزماً لا يلين.

وجيش الوجود، وذراته التي تتراءى للعيان جامدة، هامدة تنشد كل صباح ومساء نشيد الثبات والصمود في طاعة الخالق.

(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)[12].

 

تنبئ الناس صباحاً ومساء

غير أنا نتحاشى الغرباء

قد قصدتم بعض أسرار السماء

كل ذرات الوجود في الخفاء

نحن سمعى، مبصرون، اذكياء

اعلموا إذا تقصدون الجامدات

ففي الصلوات اليومية يشترك الناس ـ وهم قطب رحى نظام الخالقة ـ مع سائر ذرات الكون في الانشاد ـ صباحاً ومساءً ـ لينشدوا نشيداً ملؤه الحمد والشكر والثناء، وإعلان آيات العهد والوفاء في إطاعة رب الكون… نشيداً تتجلى فيه روح الطاعة والالتزام بالمبادئ العقيدية والأخلاقية والعاطفية والسياسية البارزة… نشيداً يبعث روح رفض الكفر والضلال، ويقوي في الإنسان جانب التمسك بالنظام، ورعاية نهج أخلاقي محدد وواضح.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...