الرئيسية / شخصيات أسلامية / أنصار الحسين – دراسة عن شهداء ثورة الحسين

أنصار الحسين – دراسة عن شهداء ثورة الحسين

بسم الله الرحمن الرحيم

الشهادة . .  ونهوض الأمة

تمثل الشهادة في تاريخ نمو الشخصية الانسانية إحدى المعالم
الكبرى في مسيرة هذا النمو نحو الاكتمال ، كالحب والوفاء والايثار ، وما
إليها من أخلاق تتجاوز بالانسان ذاته نحو محيط الانسانية الأوسع .
بل إن الشهادة تمثل في رأينا ذروة هذه المعالم ، وأقصى ما يمكن
أن يصل إليه إنسان في نموه الروحي وتكامله الانساني ، لأنها تعني هبة كل
شئ شخصي ، وكل متعة ذاتية للآخرين ومن أجلهم ، مع ما يصاحبها
في الغالب من عذاب جسدي بينما أخلاق الحب والوفاء والايثار ،
يمكن للانسان أن يحتفظ معها بجانب كبير من ذاتياته ومصالحه الشخصية
ومن هنا كانت الشهادة ذروة العطاء الانساني .

ومن هنا فهي لا تتاح لكل إنسان ، لان تحقيقها يتوقف على توفر
شروط موضوعية لا يكون الموت شهادة بدونها
الشهادة في مدلولها القضائي ، هي إظهار الحقيقة لأجل إثباتها في
صراع وخصومة بين شخصين أو جماعتين يختلفان ويتنازعان على حق من
الحقوق يدعيه كل واحد منهما لنفسه ، فيأتي الشاهد ليظهر حقيقة
الموقف .

ومن هنا فلابد أن يكون هذا الشاهد منفصلا عن الطرف المبطل
الظالم ، أو المبطل المخطئ ، انفصالا تاما ، ومتحدا مع الطرف المحق
اتحادا تاما ، لامن موقع ذاتي أو مصلحي ، وإنما من موقع موضوعي
خالص ، لا مجال فيه لاية نزعة ذاتية ، إلا نزعة الانتصار للحق .
أما الشهادة في مدلولها الايماني الحضاري الاجتماعي في الصراع
بين الحق والباطل ، وبين العدل والطغيان ، فإنها تحتوي المفهوم السابق
للشهادة وتزيد عليه وتتجاوزه .

فمفهوم الشهادة هذا لا يمكن أن يحمله أي إنسان كما قلنا ، وإنما
يمكن أن يبلغه فريق خاص من الناس .
ذلك لان الناس صنفان : فمن الناس من تكون حياته ( فكره
ذكاؤه شبكة علاقاته الاجتماعية – ثروته – قدرته الجسدية – حواسه ) .
مسخرة لخدمة مصالحه الذاتية ، الشخصية والعائلية ، ويكون كل فعل من
أفعاله مسخرا لخدمة ذاتية ، دون أن تكون ثمة أية رؤية للحياة وللمجتمع
تتجاوز هذا الهدف ، وهذا الانسان هو ما اصطلحنا على تسميته في بعض
أحاديثنا بالانسان ” المسطح ” .

الانسان الذي تشغل حياته مساحة واسعة أو ضيقة من حياة الناس
حوله ، دون أن يكون لها أي عمق ، ودون أن يكون لها أية أبعاد أخرى في
حياة الآخرين ، إنه يبادلهم المنافع ويبادلهم الخدمات ، ولكن من منطلق
ذاتي محض ، لا ينظر إلى مصالحهم وإلى سعادتهم أو شقائهم ، وإنما
ينظر فقط إلى مصلحته الخاصة .

قد يكون هذا الانسان صالحا بمقدار ما يكون عادلا ، وبمقدار ما
يكون ملتزما بالقوانين ، ولكنه بالتأكيد ليس إنسانا رساليا ، ويستحيل عليه
أن يكون شهيدا .

ومن الناس من يشارك الآخرين في حياته ، لا من منطلق ذاته
ومصلحته ، وإنما من منطلق مصالح الآخرين وهمومهم ومصائرهم ، أي
أنه يتجاوز ذاته نحو الآخرين ، ويجعل من حياته مشروعا عاما يخدم من
خلاله الآخرين ، على خلاف الصنف الأول ، الذي لا تعدو حياته أن
تكون مؤسسة خاصة مغلقة ، وهذا الانسان هو ما اصطلحنا على تسميته
في بعض أحاديثنا بالانسان ” المكعب “
إنه الانسان الذي تشغل حياته مساحة كبيرة أو صغيرة من حياة
الآخرين ، ولكن لا من منطلق ذاتي ونفعي ، وإنما من منطلق غيري
وتضحوي يجعل حياته مشاعا ، يعود بالنفع والخير على الآخرين ، الذين
لا يرجو منهم نفعا ، ولا جزاء ولا شكورا .

إن حياته ذات أبعاد ، وأبعادها هي الآخرون . هذا الانسان ، هو
إنسان صاحب قضية ، فحياته ذات بعد معنوي تشكله القضية ، وحياته
غنية بمقدار ما في قضيته من غنى ، ونبيلة بمقدار ما في قضيته من صوابية
وصدق ، وهو قادر على أن يكون صالحا بمقدار ما يكون منسجما مع
قضيته العادلة ، ورسالي بمقدار ما يعطي من حياته لهذه القضية ، وهو
إنسان يمكن أن يكون شهيدا . هذا الصنف من الناس ، هم الذين قال الله
عز وجل فيهم : ( والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من
هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون ) الحشر / 9

الصنف الأول ، إنسان محدود يبدأ في الرحم وتنتهي حياته الدنيا في
القبر ، ولا يترك في حياة الناس وراءه أي خير ، هذا إذا لم يترك في حياتهم ألوانا من
الشر ، والصنف الثاني إنسان غير محدود ، يبدأ في الرحم ، وتنتهي
حياته الدنيا في القبر ولكنه يترك في حياة الناس ألوانا من الخير والسعادة ،
وتبقى حياته نابضة فيهم ، وتضحياته سعادة وتقدما في حياتهم ، وذكراه
قدوة لهم تزيد من أمثاله الذين ينسجون على منواله .

إن إمكانية الشهادة لهذا الصنف من الناس ، تزيد باطراد بمقدار
ما تكون قضيته شاملة وعادلة ومستقبلية وبمقدار ما يعطي من حياته لهذه
القضية ، وأولئك الذين تكون قضيتهم شاملة للبشرية جمعاء ، عادلة
ومستقبلية ، ويتحدون بها اتحادا كاملا ، فيعطونها كل حياتهم ووجودهم
ومستقبلهم ، هم المؤهلون للشهادة تأهيلا كاملا ، إنهم الذين تقل عندهم
فرص الموت وتكثر لديهم فرص الشهادة .

إن حياتهم تكون في هذه الحالة استشهادا مستمرا ، إنهم الشهداء
الاحياء الذين ينتظرون قضاء نحبهم في سبيل الله وهذه النوعية من الناس
ينطبق عليها قول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز : ( من المؤمنين
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر
وما بدلوا تبديلا ) . الأحزاب / 23 .

ومن هنا فلا شهادة بدون قضية تجعل من حياة الانسان مشروعا
لخدمة الآخرين ، وتجعل حياته عاملا إيجابيا ومباركا في حياتهم
هذا الانسان حين يتحد مع قضية إنسانية عادلة مستقبلية ، وينفصل
انفصالا تاما عن الظلم والطغيان ورموزهما وأنظمتهما ، يكون شاهدا
ويسير في درب الشهادة يكون شاهدا على ظلم الظالم ، وطغيان الطاغي ،
ويستمر في هذه الشهادة لا بالكلمات ، وإنما بالحياة بحيث تتحول حياته
[ فكره – ذكاؤه – شبكة علاقاته الاجتماعية – ثروته – قدرته الجسدية –
حواسه . ] إلى شهادة مستمرة من أجل القضية وجمهورها ، وضد الطغيان
ورموزه ، وتستمر شهادته في التصاعد وتستمر شهادته في الاتساع ،
وتستمر شهادته في الوضوح والنصاعة إلى أن تبلغ ذروتها بتقديم حياته
نفسها ، في سبيل القضية ومن أجل جمهورها ، تقديمها لا عن إكراه وإنما
بحب وشوق ، ومن خلال عذاباته الجسدية والنفسية ، في سبيل القضية
ومن أجل أهلها ، يبلغ سعادته الكبرى بالشهادة .

نتذكر هنا لايضاح هذا المفهوم قول أبي الشهداء الإمام الحسين
( ع ) في خطبته في المدينة حين أزمع التوجه نحو الاستشهاد
( . . . خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني
إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه ، كأني 

بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشا
جوفا وأجرية سغبا ، لا محيص عن يوم خط بالقلم ، رضا الله رضانا أهل
البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين ، لن تشذ عن رسول الله
لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقربهم عينه وينجز بهم
وعده ، من كان باذلا فينا مهجته وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا
فإنني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى ” .

إن الوله هو أسمى وأعلى مراتب الحب والعشق ، إنه الذروة التي
تستقطب كل وعي الانسان وإمكاناته نحو مركزها ، ونلمس هذه الظاهرة
الروحية في جميع النصوص التي تحدثنا عن الحالة الكيانية للشهداء في
ذروة اندفاعهم نحو الشهادة .

إننا نلمس من خلال النصوص التي تحاول أن تصور هذه الظاهرة
الروحية ، وهي بالتأكيد عاجزة عن تقديمها إلينا بشكل كامل ، نلمس أن
هؤلاء الشهداء كانوا يستشعرون ذروة السعادة في هذه الذروة من الاندفاع
نحو الشهادة نسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة .

ومن هنا فثمة بون شاسع ، وفرق نوعي أساسي بين الموت وبين
الشهادة .
الموت نهاية طبيعية لكل حي ، ولكن الشهادة ليست نهاية لكل
حياة .
الموت قدر إلهي ثابت ، والشهادة نعمة نادرة ليست مجانية كسائر
النعم الإلهية . وإنما هي نعمة تقتضي شروطا لابد من تحقيقها ، وهي
القضية العادلة المستقبلية ، والاتحاد بالقضية ، وبيع النفس لله من خلال
هذه القضية .

ولان الشهادة نعمة غير مجانية فإن الله تعالى هو الذي يختار الشهداء
وليست الصدفة هي التي تصنع الشهداء . يقول الله عز وجل في كتابه
العزيز : ( . . وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا
يحب الظالمين ) آل عمران / 140
فالشهادة اتخاذ واصطفاء واختيار من الله ومن هنا قلنا أنها نعمة غير
مجانية .

ويؤكد هذا المعنى ما حفلت به السنة الشريفة ، وخاصة ما يتعلق
منها بالحقل التربوي والتوجيهي من التعبير عن الشهادة بأنها رزق ومن
اشتمال كثير من نصوص الأدعية التربوية الشريفة على نصوص تتضمن
التوجه إلى الله بالدعاء طلبا لرزق الشهادة .

وتتناسب حيوية كل أمة وروح الانبعاث في كل جماعة طردا وعكسا
مع انتشار روح الشهادة ، وتصوراتها بين أفراد تلك الأمة والجماعة ومع
كثرة الشهداء الاحياء وندرتهم في تلك الأمة والجماعة . فكلما نما في
الأمة عدد هؤلاء الشهداء الاحياء كلما كانت الأمة أقدر على النهوض
وأقرب إلى تحقيق أهدافها من خلال تحقيق قضيتها ، وكلما ندر في الأمة
عدد هؤلاء الشهداء الاحياء كانت الأمة أعجز عن النهوض ، وأقرب إلى
أن تكون منالا سهلا لأعدائها والمتربصين بها ، وهذا قانون حياتي تاريخي
ينطبق على كل الأمم في كل العهود وفي جميع الحضارات . ويمكن أن
تقدم مثالا له من حياة الاسلام بين عهد الرسول صلى الله عليه وآله وبين عهد الإمام الحسين
( ع ) الذي يسجل هذا الكتاب دراسة عن شهداء ثورته .

ففي عهد الرسول كانت روح الشهادة بين أصحابه شائعة كالهواء
والنور ، فحقق الاسلام والمسلمون انتصارات تجاوزت كل القوانين
العادية للتاريخ ، لان عاملا نوعيا هو عامل الشهادة ، غير المعطيات العادية
لحركة التاريخ ، واستمرت هذه الاندفاعة بفضل هذه الروح حتى حققت
للاسلام في عهد الخلفاء الأولين انتشاره الأعظم .

أما في عهد الإمام الحسين ( ع ) مع انتشار الاسلام وانتشار ثقافته
ونمو مجتمعه فقد كانت روح الشهادة ضئيلة تشبه النجوم في ظلمات الليل
بحيث لم يستطع كل الظلم الأموي ، وكل التحدي الحسيني العلوي
الاسلامي ، أن يولد إلا عددا محدودا من الشهداء تمثل نخبتهم شهداء
كربلاء ، مما اقتضى من الإمام الحسين ( ع ) وقد أدرك هذه الحقيقة
المرعية ، أن يقوم بثورته العظيمة والانتحارية من أجل أن يفجر في الأمة
الاسلامية روح الشهادة من جديد .

لتغدو كالنور والهواء كما كانت في عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله ولتستأنف الأمة بهذه الروح جهادها من أجل العدالة
والكرامة الانسانية للمستضعفين ، كل المستضعفين في الأرض ، ومن هذا
المنظور يمثل أنصار الحسين ( ع ) شهداء كربلاء ، أعلى ذروة نوعية في
سجل الشهادة والشهداء في تاريخ الاسلام كله ، لأنهم صمموا على نيل
الشهادة التي رزقهم الله إياها في حالة من الهزيمة للأمة ، أمام قوى
الطغيان ، وهذا ما يميزهم عن شهداء العهد النبوي الذي صمموا على نيل
الشهادة التي رزقهم الله إياها ، في حالة من اندفاع الأمة نحو مواجهة قوى
الطغيان وفي حالة كانت الشهادة في حياة الأمة كالنور والهواء .

إن التضحية العظمى التي جعلت شهداء كربلاء ، يتجاوزون
حياتهم من أجل الآخرين ونحو الآخرين ، الذين كان موقفهم في الغالب
موقف الخذلان وفي النادر موقف الأسى السلبي المتفرج ، يختلف بالتأكيد
عن التضحية العظمى التي جعلت شهداء العهد النبوي يتجاوزون حياتهم
نحو الآخرين ومن أجل الآخرين ، الذين كان موقفهم موقف المشارك
المتعاطف : ( ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند
ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم
يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون * يستبشرون
بنعمة من الله وفضل * وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) آل عمران /
169 – 171

إني لم أكتب هذه الدراسة عن شهداء كربلاء الأبرار إحياء لذكرهم
( فهم أحياء عند ربهم يرزقون ) . وإنما كتبتها لأصل حياتي
بحياتهم ، فأتعلم منها وأستشعر بها روح الشهادة ، ونشرت هذا
الكتاب في الناس ليستذكر قراؤه روح الشهادة هذه في زمن طغت فيه على
الأمة الاسلامية روح الترف ، وضمرت فيه روح الشهادة ، وطغت فيه مثل
الحياة المادية التي تجرد الانسان من أية قضية تجعل من حياته مشروعا
يتجاوز ذاته نحو الآخرين ومن أجل الآخرين . وانحسرت فيه روح الاسلام
التي هي قضية الأمة الاسلامية التي تستطيع أن تحرر بها نفسها ، وتحرر بها
الآخرين من أغلال الاستعمار الجديد في العالم الثالث والعالم الاسلامي ،
ومن أغلال إسرائيل ووجودها العدواني الرجعي في العالم العربي . فلم
تستطع الأمة الاسلامية أن تتجاوز أغلال عبوديتها وتخلفها ، ولن تستطيع أن
تستعيد دورها الحضاري والسياسي في العالم بدون أن تنمو في فكرها
وعلقها وجميع وجوه حياتها روح الشهادة التي تولد الشهداء الاحياء الذين
يستطيعون أن يقودوا خطى الأمة نحو النصر في طريقهم نحو ختم حياتهم
بالشهادة .

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...