رسالة الحافظ الذهبي إلى ابن تيمية :
من أحسن ما قيل في ابن تيمية ذلك الخطاب الذي وجهه
إليه الذهبي في رسالة شخصية ينصحه فيها ويعظه ويؤنبه
ويوبخه ، ويكشف فيها عن كثير من سجاياه وأخلاقه . .
وهذا هو النص الكامل لتلك الرسالة :
الحمد لله على ذلتي ، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي ،
واحفظ علي إيماني ، وا حزناه على قلة حزني ، ووا أسفاه
على السنة وأهلها ، وا شوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني
على البكاء ، وا حزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم
وأهل التقوى كنوز الخيرات ، آه على وجود درهم حلال
وأخ مؤنس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وتبا
لمن شغله عيوب الناس عن عيبه ، إلى كم ترى القذاة في
عين أخيك وتنسى الجذع في عينيك ؟ إلى كم تمدح
نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات
الناس ؟ مع علمك بنهي الرسول ( ص ) : ” لا تذكروا موتاكم
إلا بخير فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ” بل أعرف أنك تقول
لي لتنصر نفسك : إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شموا
رائحة الإسلام ، ولا عرفوا ما جاء به محمد ( ص ) وهو
جهاد ، بل والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به فقد فاز ،
وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم ومن حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه ، يا رجل ! بالله عليك كف عنا ، فإنك
محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام ، إياكم والغلوطات في
الدين ، كره نبيك ( ص ) المسائل وعابها ونهى عن كثرة
السؤال وقال : ” إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق
عليم اللسان ” وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلب إذا كان
في الحلال والحرام ، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية
والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب ، والله قد
صرنا ضحكة في الوجود ، فإلى كم تنبش دقائق الكفريات
الفلسفية ؟ لنرد عليها بعقولنا ، يا رجل ! قد بلعت ” سموم “
الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات ، وكثرة استعمال السموم يدمن
عليه الجسم وتكمن والله في البدن ، وا شوقاه إلى مجلس
يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ، بل عند
ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة ، كان سيف
الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما ، بالله خلونا من
ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب ، وجدوا في ذكر بدع كنا
نعدها من أساس الضلال ، قد صارت هي محض السنة
وأساس التوحيد ، ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار ، ومن لم
يكفره فهو أكفر من فرعون وتعد النصارى مثلنا ، والله في
القلوب شكوك ، إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت
سعيد ، يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال ،
لا سيما
إذا كان قليل العلم والدين باطوليا شهوانيا ، لكنه
ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك
بحاله وقلبه ، فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف
العقل ، أو عامي كذاب بليد الذهن ، أو غريب واجم قوي
المكر ، أو ناشف صالح عديم الفهم ؟ فإن لم تصدقني
ففتشهم وزنهم بالعدل ، يا مسلم ! أقدم حمار شهوتك لمدح
نفسك ، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار ؟ ! إلى كم تصدقها
وتزدري الأبرار ؟ ! إلى كم تعظمها وتصعر العباد ؟ ! إلى متى
تخاللها وتمقت الزهاد ؟ ! إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا
تمدح – والله – بها أحاديث الصحيحين ؟ يا ليت أحاديث
الصحيحين تسلم منك ، بل في كل وقت تغير عليها
بالتضعيف والإهدار ، أو بالتأويل والإنكار ، أما آن لك أن
ترعوي ؟ ! أما حان لك أن تتوب وتنيب ؟ ! أما أنت في عشر
السبعين وقد قرب الرحيل ؟ ! بلى – والله – ما أدكر أنك تذكر
الموت ، بل تزدري بمن يذكر الموت ، فما أضنك تقبل على
قولي ولا تصغي إلى وعظي ، بل لك همة كبيرة في نقض
هذه الورقة بمجلدات ، وتقطع لي أذناب الكلام ، ولا تزال
تنتصر حتى أقول : البتة سكت . فإذا كان هذا حالك عندي
وأنا الشفوق المحب الواد فكيف حالك عند أعدائك ؟ !
وأعداؤك – والله – فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء ، كما أن
أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر ، قد
رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرا ( فرحم
الله امرءا أهدى إلي عيوبي ) فإني كثير العيوب غزير
الذنوب ، الويل لي إن أنا لا أتوب ، ووافضيحتي من علام
الغيوب ، ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته ،
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد
خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين .
( تكملة السيف الصقيل للكوثري : 190 )
هذه هي خلاصة القول في هذا الرجل الذي وجدت فيه
البدعة الوهابية خير قدوة لها ، فتمسكت بكل ما شذ
وانحرف من أفكاره ، ثم زادت فوق ذلك شذوذا وانحرافا . .
الرجل الذي أخذ يروج له بعض دعاة السلفية ، فاحتالوا
لذلك بأن ستروا قبائح أفكاره وعقائده الضالة وانحرافاته
فهم لا يعرجون على شئ منها بذكر رغم أنها تشغل أكثر من
ثلاثة أرباع ما كتبه من كتب ورسائل ، * ( يخادعون الله والذين
آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) * .