( 65 )
الرابع عشر: الاَمثال النبوية
إذا كان المثل إبراز المعنى المقصود في معرض الاَمر المشهود،وتحلية المعقول بحلية المحسوس، واستنزال الحقائق المستعصية، فهو من أدوات التبليغ والتعليم، ولذلك ذاع التمثيل في القرآن الكريم والكلمات النبوية، وكلمات أئمّة أهل البيت (عليهما السلام) ، إلى عبارات البلغاء وإشارات الحكماء.
وقد قام غير واحد من المحدثين بجمع الاَمثال النبوية.
وقد ذكر المحقّق المعاصر الشيخ محمد الغروي ـ حفظه الله ـ في مقدمة كتابه “الاَمثال النبوية” حوالي عشرة كتب حول الاَمثال النبويّة، وهو بكتابه هذا أوصل العدد إلى أحد عشر كتاباً، وقد نقل عن عبد المجيد محمود موَلف كتاب “أمثال الحديث” العبارة التالية:أمّا أمثال الحديث فلم تحظ بالعناية التي نالتها أمثال القرآن أو الاَمثال العربية العامة، ولم أر أحداً من أصحاب الكتب الستة أفردها بالتأليف أو أفرد لها باباً في كتابه، سوى الاِمام الترمذي الذي خصص لاَمثال الحديث مكاناً في جامعه تحت عنوان: “أبواب الاَمثال عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّه لم يذكر تحت هذا العنوان غير أربعة عشر حديثاً، ولهذا يقول ابن العربي: ولم أر أحداً من أهل الحديث صنف فأفرد لها باباً غير أبي عيسى ـ يعني الترمذي ـ ولله درّه لقد فتح باباً أو بنى قصراً أو داراً، ولكن اختط خطاً صغيراً، فنحن نقتنع به ونشكره عليه. (1)
ثمّ إنّ شيخنا الغروي قام بجمع شوارد الاَمثال النبوية في جزءين كبيرين مع تفسيرها، مرتباً إياها وفق حروف التهجّي، وأسمى كتابه “الاَمثال النبويّة”،
____________
1 ـ أمثال الحديث:88، ولكلامه صلة.
( 66 )
وطبع في بيروت.
وها نحن نذكر نماذج من الاَمثال النبوية التي جمعها السيوطي في “الجامع الصغير” لتكون زينة للكتاب.
1. “مثل الاِيمان مثل القميص تقمَّصه مرّة، وتنزعه أُخرى”.
2. “مثل البخيل والمتصدّق كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأمّا المنفق فلا ينفق إلاّ سبغت على جلده، حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأمّا البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلاّ لزقت كل حلقة مكانها، فهو يوسّعها فلا تتسع”.
3. “مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحيّ والميّت”.
4. “مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحدّاد، لا يعدمك من صاحب المسك، إمّا أن تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك، أو تجد منه ريحاً خبيثة”.
5.”مثل الجليس الصالح مثل العطّار، إن لم يعطك من عطره أصابك من ريحه”.
6. “مثل الرّافلة في الزينة في غير أهلها، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها”.
7. “مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جارٍ عذب على باب أحدكم، يغتسل فيه كلّ يوم خمس مرّات، فما يبقي ذلك من الدَّنس”.
8. “مثل العالم الذي يعلّم الناس الخير وينسى نفسه، كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه”.

( 67 )
9. “مثل القلب مثل الريشة تقلّبها الرياح بفلاة”.
10. “مثل الذي يعتق عند الموت، كمثل الذي يهدي إذا شبع”.
11. “مثل الذي يتعلّم العلم، ثمّ لا يحدّث به، كمثل الذي يكنز الكنز فلا ينفق منه”.
12. “مثل الذي يتعلّم العلم في صغره كالنقش على الحجر، ومثل الذي يتعلّم العلم في كبره، كالذي يكتب على الماء”.
13. “مثل الذي يجلس يسمع الحكمة ولا يحدّث عن صاحبه إلاّ بشرّ ما يسمع، كمثل رجل أتى راعياً، فقال: يا راعي اجزرني شاة من غنمك، قال: اذهب فخذ بأُذنِ خيرها شاةً، فذهب فأخذ بأُذنِ كلب الغنم”.
14. “مثل الذي يتكلّم يوم الجمعة والاِمام يخطب، مثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: “انصت” لا جمعة له”.
15. “مثل الذي يعلّم الناس الخير وينسى نفسه، مثل الفتيلة ، تضيء للناس وتحرق نفسها”.
16. “مثل الذي يعين قومه على غير الحقّ، مثل بعير تردّى وهو يجرّ بذنبه”.
17. “مثل الذين يغزون من أُمّتى ويأخذون الجعل يتقوّون به على عدوهم، مثل أُمّ موسى، ترضع ولدها وتأخذ أجرها”.
18. “مثل الموَمن كمثل العطار، إن جالسته نفعك، وإن ماشيته نفعك، وإن شاركته نفعك”.
19. “مثل الموَمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك”.
20. “مثل الموَمن إذا لقي الموَمن فسلّم عليه، كمثل البنيان يشدّ بعضه
( 68 )
بعضاً”.
21. “مثل الموَمن مثل النحلة، لا تأكل إلاّ طيباً، ولا تضع إلاّ طيباً”.
22. “مثل الموَمن مثل السنبلة، تميل أحياناً، وتقوم أحياناً”.
23. “مثل الموَمن مثل السنبلة، تستقيم مرّة، وتخرّ مرّة، ومثل الكافر مثل الاَرزّة، لا تزال مستقيمة حتى تخرّ ولا تشعر”.
24. “مثل الموَمن مثل الخامة، تحمرُّ مرّة، وتصفرُّ أُخرى، و الكافر كالاَرزّة”.
25. “مثل الموَمن كمثل خامة الزرع من حيث أتتها الريح كفتها، فإذا سكنت اعتدلت،وكذلك الموَمن، يكفّأ بالبلاء، ومثل الفاجر كالاَرزّة صمّاء معتدلة، حتى يقصمها الله تعالى إذا شاء”.
26. “مثل الموَمن الذي يقرأ القرآن كمثل الاَُترجُّة ريحها طيّب وطعمها طيّب.ومثل الموَمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلوٌ. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر”.
27. “مثل الموَمن مثل النحلة إن أكلت أكلت طيّباً، وإن وضعت وضعت طيّباً، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره، ومثل الموَمن مثل سبيكة الذهب إن نفخت عليها احمرّت،وإن وزنت لم تنقص”.
28. “مثل الموَمن كالبيت الخرب في الظاهر، فإذا دخلته وجدته مونفاً، ومثل الفاجر كمثل القبر المشرف المجصّص، يعجب من رآه وجوفه ممتلىَُ نتناً.
29.مثل الموَمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمّى”.

( 69 )
30.مثل المجاهد في سبيل الله ، كمثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام ولا صدقة، حتى يرجع، وتوكّل الله تعالى للمجاهد في سبيله إن توفّاه أن يدخله الجنّة أو يرجعه سالماً مع أجرٍ أو غنيمة”.
31. “مثل المرأة الصالحة في النساء، كمثل الغراب الاَعصم الذي إحدى رجليه بيضاء”.
32. “مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرّة، وإلى هذه مرّة، لا تدري أيّهما تتبع”.
33. “مثل ابن آدم وإلى جنبه تسعة وتسعون منيّة، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم حتى يموت”.
34. “مثل أصحابي مثل الملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلاّ بالملح”.
35. “مثل أُمّتي مثل المطر، لا يُدرى أوّله خير، أم آخره”.
36. “مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق”.
37. “مثل بلال كمثل نحلة،غدت تأكل من الحلو والمرّ ثم يمسي حلواً كلّه”.
38. “مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل، كمثل أُمية بن أبي الصلت في هذه الاَُمّة”.
39. “مثل منىً كالرحم في ضيقه، فإذا حملت وسعها الله “.
40. مثل هذه الدنيا مثل ثوب شُقَّ من أوّله إلى آخره، فبقي متعلّقاً بخيط في آخره، فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع”.

( 70 )
41. “مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان، مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قوم طليعة، فلمّـا خشي أن يسبق ألاح بثويبه: أُتيتم أُتيتُم، أنا ذاك، أنا ذاك”.
42. “مثلي و مثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها وهو يذُبّـهنّ عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي”. (1)
الخامس عشر: الاَمثال العلوية
كان أمير الموَمنين (عليه السلام) مشرّع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولّدها، ومنه 7ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، وعلى كلامه مسحة من العلم الاِلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي.
فقد قام غير واحد من روّاد الفصاحة والبلاغة بجمع شوارد كلامه، وكلمه القصار والطوال، فنافت على اثنتي عشرة ألف كلمة، وفيما جمعه عبد الواحد الآمدي (المتوفّى حدود 550هـ) في كتابه “غرر الحكم ودرر الكلم”غنىً وكفاية لطلاّب الحق ولذلك نطوي عنها كشحا .
وأمّا التمثيل في كلمات سائر الاَئمة الاثني عشر فحدّث عنه ولا حرج، وقد شمّر المحقّق الغرويّ عن ساعد الجدّ فألّف موسوعات في هذا المضمار، شكر الله مساعيه الجميلة.
____________
1 ـ الجامع الصغير: 2|527ـ534.
( 71 )
السادس عشر: أمثال لقمان الحكيم
اختلفت الاَقوال في شخصية لقمان الحكيم، روى ابن عمر، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: “لم يكن لقمان نبيّاً ، ولكن كان عبداً كثير التفكّر حسن اليقين، أحبّ الله فأحبّه و منّ عليه بالحكمة”. (1)
وقد بلغ سموُّ كلامه إلى حدّ نقل سبحانه وتعالى شيئاً من حكمه في القرآن الكريم، وأنزل سورة باسمه، كما قام غير واحد من العلماء بجمع حكمه المبثوثة في الكتب.
وقد قام أمين الاِسلام الطبرسي بنقل شيء من حكمه في تفسيره، وقد وصفه الاِمام الصادق (عليه السلام) بقوله: “والله ما أُوتي لقمان الحكمة لحسب ولا مال ولا بسط في جسم ولا جمال، ولكنّه كان رجلاً قويّاً في أمر الله ، متورّعاً في الله ساكتاً سكيناً، عميق النظر، طويل التفكّر، حديد البصر، لم ينم نهاراً قطّ، ولم يتكىَ في مجلس قوم قطّ، ولم يتفل في مجلس قوم قطّ، ولم يعبث بشىء قطّ، ولم يره أحد من الناس على بول ولا غائط قطّ، ولا على اغتسال لشدّة تستره وتحفّظه في أمره، ولم يضحك من شيء قطّ، ولم يغضب قطّ مخافة الاِثم في دينه، ولم يمازح إنساناً قطّ، ولم يفرح بما أوتيه من الدنيا، ولا حزن منها على شيء قطّ، … ولم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلاّ أصلح بينهما، ولم يمض عنهما حتى تحاجزا، ولم يسمع قولاً استحسنه من أحد قطّ، إلاّ سأله عن تفسيره وعمّن أخذه، وكان يكثر مجالسة الفقهاء والعلماء، وكان يغشى القضاة والملوك والسلاطين، فيرثي للقضاة بما ابتلوا به، ويرحم الملوك والسلاطين لعزتهم بالله وطمأنينتهم في ذلك، ويتعلّم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه،
____________
1 ـ مجمع البيان:4|315.
( 72 )
ويحترز من السلطان، وكان يداوي نفسه بالتفكّر والعبر، وكان لا يظعن إلا فيما ينفعه، ولا ينظر إلا فيما يعينه، فبذلك أُوتي الحكمة ومنح القضية”. (1)
____________
1 ـ مجمع البيان:4|317ـ 318.
( 73 )
سورة البقرة
1

التمثيل الاَوّل
قال سبحانه: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْا إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون * اللهُ يَسْتَهْزِىَُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون * أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدَى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدين * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوقَدَ نَاراً فَلَمّا أَضَاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمّ بُكمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون ). (1)
تفسير الآيات
الوقود ـ بفتح الواو ـ الحطب، استوقد ناراً، أو أوقد ناراً، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب.
افتتح كلامه سبحانه في سورة البقرة بشرح حال طوائف ثلاث:
الاَُولى: الموَمنون، واقتصر فيهم على آيتين.
الثانية: الكافرون، واقتصر فيهم على آية واحدة.
الثالثة: المنافقون، وذكر أحوالهم وسماتهم ضمن اثنتى عشرة آية.

____________
1 ـ البقرة: 14ـ 18.
( 74 )
وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ النفاق بوَرة الخطر، وانّهم يشكلون خطورة جسيمة على المجتمع الاِسلامى. وقد مثل بمثلين يوقفنا على طبيعة نواياهم الخبيثة وما يبطنون من الكفر.
بدأ كلامه سبحانه في حقهم بأنّ المنافقين هم الذين يبطنون الكفر ويتظاهرون بالاِيمان (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون ).
ثمّ إنّه سبحانه يردّ عليهم، بقوله: (اللهُ يَسْتَهْزِىَُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون) والمراد أنّه سبحانه يجازيهم على استهزائهم.
ثمّ وصفهم بقوله: (أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوا الضَّلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدين )، أي أخذوا الضلالة وتركوا الهدى، واستبدلوا الكفر بالاِيمان، فلم يكونوا رابحين في هذه التجارة والاستبدال، ثمّ وصفهم بالتمثيل الآتى:
نفترض أنّ أحداً، ضلّ في البيداء وسط ظلام دامس وأراد أن يقطع طريقه دون أن يتخبّط فيه، ولا يمكن أن يهتدي ـ والحال هذه ـ إلاّ بإيقاد النار ليمشي على ضوئها ونورها ويتجنب المزالق الخطيرة، وما أن أوقد النار حتى باغتته ريح عاصفة أطفأت ما أوقده، فعاد إلى حيرته الا َُولى .
فحال المنافقين كحال هذا الرجل حيث إنّهم آمنوا بادىَ الاَمر واستناروا بنور الاِيمان ومشوا في ضوئه، لكنّهم استبدلوا الاِيمان بالكفر فعمَّهم ظلام الكفر لا يهتدون سبيلاً.
هذا على القول بأنّ المنافقين كانوا موَمنين ثمّ عدلوا إلى الكفر، وأمّا على
( 75 )
القول بعدم إيمانهم منذ البداية، فالنار التي استوقدوها ترجع إلى نور الفطرة الذي كان يهديهم إلى طريق الحق، ولكنّهم أخمدوا نورها بكفرهم بآيات الله تبارك و تعالى.
والحاصل: أنّ حال هوَلاء المنافقين لمّا أظهروا الاِيمان وأبطنوا الكفر كحال من ضلَّ في طريقه وسط الظلام في مكان حافل بالاَخطار فأوقد ناراً لاِنارة طريقه فإذا بريح عاصفة أطفأت النار وتركته في ظلمات لا يهتدي إلى سبيل.
وهذا التمثيل الذي برع القرآن الكريم في تصويره يعكس حال المنافقين في عصر الرسالة، ومقتضى التمثيل أن يهتدي المنافقون بنور الهداية فترة من الزمن ثمّ ينطفىَ نورها بإذن الله سبحانه، وبالتالي يكونوا صمّاً بكماً عمياً لا يهتدون، فالنار التي اهتدى بها المنافقون عبارة عن نور القرآن، وسنّة الرسول، حيث كانوا يتشرّفون بحضرة الرسول ويستمعون إلى كلامه وحججه في بيانه ودلائله في إرشاده وتلاوته لكتاب الله ، فهم بذلك كمن استوقد ناراً للهداية، فلمّـا أضاءت لهم مناهج الرشد ومعالم الحقّ تمرّدوا على الله بنفاقهم، فخرجوا عن كونهم أهلاً للتوفيق والتسديد، فأوكلهم الله سبحانه إلى أنفسهم الاَمّارة وأهوائهم الخبيثة، وعمّتهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم.
وعلى هذا ابتدأ سبحانه بذكر المثل بقوله: (مَثَلُهمْ كَمَثلِ الَّذى استوقَد ناراً فلَمّا أَضاءَت ما حوله )وتمّ المثل إلى هنا .
ثمّ ابتدأ بذكر الممثل بقوله: (ذَهَبَ الله بِنُورهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبصرون).
فإن قلت: فعلى هذا فما هو جواب “لمّا” في قوله (فلمّا أَضاءَت )؟

( 76 )
قلت: الجواب محذوف، لاَجل الوجازة، وهو قوله “خمدت”.
فإن قلت: فعلى هذا فبم يتعلّق قوله: (ذهب الله بنورهم )؟
قلت: هو كلام مستأنف راجع إلى بيان حال الممثل، وتقدير الكلام هكذا: فلَمّا أَضاءَت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسّرين على فوات الضوء، خائبين بعد الكدح من إيقاد النار.
فحال المنافقين كحال هوَلاء، أشعلوا ناراً ليستضيئوا بنورها لكن (ذَهَب الله بنورهم وتَرَكَهُمْ في ظُلمات لا يُبصرون ).
وبكلمة موجزة: ما ذكرنا من الجمل هو المفهوم من الآية، والاِيجاز بلا تعقيد من شوَون البلاغة. (1)
فقوله سبحانه: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بمعنى أنّ ذلك كان نتيجة نفاقهم وتمرّدهم وبالتالي تبدّد قابليتهم للاهتداء بنور الحقّ (فَتَرَكَهُمْ في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُون) أي في أهوائهم وسوء اختيارهم يتخبّطون في ظلمات الضلال، لا يبصرون طريق الحقّ والرشاد.
ترى أنّ التمثيل يحتوي على معانى عالية وكثيرة بعبارات موجزة، ولو حاول القرآن أن يبيّن تلك المعاني عن غير طريق التمثيل يلزم عليه بسط الكلام كما بسطناه، وهذا من فوائد المثل، حيث يوَدي معاني كثيرة بعبارات موجزة.
ثمّ إنّه سبحانه يصفهم بأنّهم لما عطّلوا آذانهم فهم صمّ، وعطّلوا ألسنتهم فهم بكم، وعطّلوا عيونهم فهم عمى، قال: (صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون ).
والمراد من التعطيل أنّهم لم يكونوا ينتفعون بهذه الاَدوات التي بها تعرف
____________
1 ـ لاحظ الكشاف:1|153.
( 77 )
الحقائق، فما كانوا يسمعون آيات الله بجدٍّ، ولا ينظرون إلى الدلائل الساطعة للنبوة إلاّ من خلال الشك. (1)
إلى هنا تمّ استعراض حال المنافقين بحال من أوقد ناراً للاستضاءة، ولكن باءت مساعيه بالفشل.
وممّا يدل على أنّ المنافقين آمنوا بالله ورسوله في بدء الاَمر ثمّ طغى عليهم وصف النفاق، قوله سبحانه: (ذلِكَ بأَنّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِـعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُون ). (2)
وممّا يدل على أنّ الاِسلام نور ينوّر القلوب والاَنفس قوله سبحانه: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلاِسْلام فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبِينٍ ). (3)
وأمّا الظلمة التي تحيط بهم بعد النفاق وتجعلهم صمـّاً بكماًعمياً، فالمراد ظلمات الضلال التي لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد، يقول سبحانه: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلياوَُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصحَابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُون ). (4)
وبذلك ظهر أنّ تفسير الظلمة التي يستعقبها إطفاء النور بظلمة القبر وحياة البرزخ ومابعدها من مواقف الحساب والجزاء غير سديد، وإن كان هناك ظلمة للمنافق لكنّها من نتائج الظلمة الدنيوية.

____________
1 ـ انظر مجمع البيان:1|54؛ آلاء الرحمن:1|73.
2 ـ المنافقون:3.
3 ـ الزمر:22.
4 ـ البقرة:257.
( 78 )
فاستشهاد صاحب المنار على كون المراد هو ظلمة القبر و البرزخ بقوله سبحانه: (يَوْمَ يَقُولُ المُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ لِلَّذينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً… ) (1)ليس بأمر صحيح، والآية ناظرة إلى حياتهم الدنيوية التي يكتنفها الاِيمان والنور ، ثمّ تحيط بهم الظلمة والضلالة، ولا نظر للآية لما بعد الموت.
سوَال وإجابة
إنّ مقتضى البلاغة هو الاِتيان بصيغة الجمع حفظاً للتطابق بين المشبّه والمشبّه به، مع أنّه سبحانه أفرد المشبّه به (كالذي استوقد ناراً) وجمع المشبّه أعني قوله: (مثلهم) (ذهب الله بنورهم )، فما هو الوجه؟
أجاب عنه صاحب المنار بقوله: إنّ العرب تستعمل لفظ “الذي” في الجمع كلفظي “ما” و “مَن” ومنه قوله تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالّذِى خَاضُوا ) (2)وإن شاع في “الذي” الافراد، لاَنّ له جمعاً، وقد روعي في قوله (استوقد) لفظه، وفي قوله (ذهب الله بنورهم)معناه. والفصيح فيه مراعاة التلفظ أوّلاً، ومراعاة المعنى آخراً، والتفنّن في إرجاع الضمائر ضرب من استعمال البلغاء. (3)
ولنا مع هذا الكلام وقفة، وهي أنّ ما ذكره مبني على أنّ قوله سبحانه: (ذَهَبَ الله بنورهِمْ وَتَرَكهم في ظُلماتٍ لا يُبصرون) في تتمة المثل، وأجزاء المشبه به، ولكنّك قد عرفت خلافه، وانّ المثل تمّ في قوله: (فلمّا أضاءت ما
____________
1 ـ الحديد:13.
2 ـ التوبة:69.
3 ـ تفسير المنار:1|169.
( 79 )
حوله )، وذلك بحذف جواب “لمّـا”، لكونه معلوماً في الجملة التالية، وهو عبارة عن إخماد ناره فبقى في الظلام خائفاً متحيّراً.
وإلاّ فلو كان قوله (ذهب الله بنورهم) من أجزاء المشبّه به، وراجعاً إلى مَن استوقد ناراً، يلزم أن تكون الجملة التالية أعني قوله: (صمّ بكمٌ عُمىٌ) كذلك، أي من أوصاف المستوقد، مع أنّها من أوصاف المنافق دون أدنى ريب، ولو أردنا أن نصيغ المشبه والمشبه به بعبارة مفصّلة، فنقول:
المشبه به: الذي استوقد ناراً فلمّا أضاءت ما حوله أُطفأت ناره.
والمشبه: المنافقون الذين استضاءوا بنور الاِسلام فترة ثمّ ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون.
وأمّا وجه الافراد، فهو أنّه إذا كان التشبيه بين الاَعيان فيلزم المطابقة، لاَنّ عين كلّ واحد منهم غير أعيان الآخر. ولذلك إنّما يكون التشبيه بين الاَعيان إذا روعي التطابق في الجمع والاِفراد، يقول سبحانه: (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) (1)، وقوله: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ). (2)
وأمّا إذا كان التشبيه بين الاَفعال فلا يشترطون التطابق لوحدة الفعل من حيث الماهية والخصوصيات، يقال في المثل: ما أفعالكم كفعل الكلب. أي ما أفعالكم إلاّ كفعل الكلب.
وربما يقال: إنّ الموصول ” الذي” بمعنى الجمع ، قال سبحانه: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (3) (4)
____________
1 ـ المنافقون:4.
2 ـ الحاقة:7.
3 ـ الزمر:33.
4 ـ انظر التبيان في تفسير القرآن:1|86.



