الرئيسية / شخصيات اسلامية / مراحل حياة الامام علي بن الحسين عليهما السلام السجاد

مراحل حياة الامام علي بن الحسين عليهما السلام السجاد

القسم الثاني :مواقف الإمام في مراحل القمع

يظن البعض أنه فيما لو أراد الإمام أن يقاوم نظام بني أمية لكان ينبغي أن يرفع راية المقاومة، أو أن يلتحق بالمختار أو عبدالله بن حنظلة أو أن يقودهما معلناً بذلك المقاومة المسلحة بكل وضوح. لكننا نفهم من خلال النظر إلى ظروف زمان الإمام السجاد (ع) أن هذا ظنّ خاطئ وذلك بالالتفات إلى هدف الأئمة (ع) الذي سأبينه لاحقاً.

لو قام الأئمة (ع)، ومن جملتهم الإمام السجاد (ع) في تلك الظروف بمثل هذه التحركات العلنية والسلبية، فباليقين لما بقي للشيعة من باقية، ولما بقيت الأرضية أو فسح المجال لاستمرار ونمو مدرسة أهل البيت ونظام الولاية والإمامة فيما بعد. لهذا نجد أن الإمام السجاد (ع) في قضية المختار لم يعلن التعاون معه، وبرغم ما جاء في بعض الروايات عن ارتباط سري بينهما إلاّ أنه وبدون أدنى شك لم يكن ارتباطاً علنياً، حتى قيل في بعض الروايات أن الإمام السجاد (ع) كان يذم المختار، ويبدو هذا الأمر طبيعياً جداً من ناحية التقية، وذلك حتى لا يُشعر بوجود أي ارتباط بينهما، مع العلم بأنه فيما لو انتصر المختار فإنه بالتأكيد سيعطي الحكومة لأهل البيت (ع)، ولكن في حال هزيمته، ومع وجود أدنى ارتباط واضح وعلني، لكانت النقمة شملت وبشكل قطعي الإمام السجاد (ع) وشيعة المدينة واجتثت جذور التشيع أيضاً. لأجل ذلك لم يُظهر الإمام أي نوع من الارتباط العلني معه.

جاء في إحدى الروايات أنه عندما دخل مسلم بن عقبة إلى المدينة في واقعة الحرة، لم يشك أحد على الاطلاق في أن أول شخص سيقع ضحية نقمته هو علي بن الحسين (ع)، لكن الإمام السجاد بتدبيره الحكيم تصرف بحيث دفع هذا البلاء عنه، وبذلك حافظ على استمرار المحور الأصلي للشيعة.

وهناك روايات في بعض الكتب ــ منها “بحار الانوار” ــ تحكي عن إظهار التذلل من قبل حضرة السجاد (ع) عند مسلم بن عقبة، ولكنني بالقطع أكذب هذه الروايات وذلك للأسباب التالية:

أولاً: لا تستند هذه الروايات إلى أي سند صحيح.

ثانياً: يوجد روايات أخرى تكذبها وتدفعها من حيث المضمون.

ففي لقاء الإمام (ع) مع مسلم بن عقبة توجد روايات عديدة لا تنسجم أية واحدة منها مع الأخرى، لأن بعض تلك الروايات تنطبق وتنسجم أكثر مع نهج الأئمة وسيرتهم، فنحن بصورة طبيعية نقبلها.

على كل حال، مع أننا لا نقبل بتلك الروايات التي تتحدث عن صدور مثل هذه الأفعال عن الإمام، ولكننا لا نشك أيضاً في أن الإمام لم يقابل مسلم بن عقبة بتصرف معادٍ، لأن أي تصرف من هذا القبيل سوف يؤدي إلى قتل الإمام، وهذا سيؤدي بدوره إلى خسارة عظيمة لا تجبر بلحاظ الدور الذي ينبغي أن يقوم به الإمام السجاد بالنسبة لثورة الإمام الحسين (ع) وتبليغ حقيقتها. لهذا يبقى الإمام ــ وكما قرأنا في رواية الإمام الصادق (ع) ــ ويلحق الناس شيئاً فشيئاً ويزداد عددهم. وفي ظل تلك الظروف الصعبة وغير المساعدة يبدأ عمل الإمام السجاد (ع).

في تلك الفترة ساد حكم عبد الملك ــ الذي شمل أكثر مراحل الإمام لمدة تجازوت الثلاثين سنة ــ وكان نظامه يقوم بالإشراف التام والمراقبة الدائمة لحياة الإمام السجاد (ع)، ويستخدم الجواسيس والعيون الكثيرة التي كانت تنقل إليه أدق التفاصيل حتى المسائل الداخلية والخاصة للإمام.

فمثلاً كان للإمام السجاد (ع) جارية تزوجها بعد أن أعتقها. وصل هذا الخبر إلى عبدالملك، فكتب رسالة إلى الإمام السجاد أراد أن يفهمه فيها أنه مطلع على أعماله ومجريات حياته، وكان يريد ضمن ذلك أيضاً أن يقوم بنوع من البحث والتفاخر والاستعلاء، فيكتب للإمام أن هذا العمل ليس من سيرة قريش، وأنت من قريش، فما كان ينبغي أن تفعل هذا! فيجيبه الإمام جواباً شديداً مظهراً عدم تقبله لتصرف عبدالملك الممتزج بالتودد والمكر.

بعد أن اتضحت أرضية عمل الإمام، أشير بشكل مختصر إلى الهدف والمنهج الذي اعتمده الأئمة، وبعدها نقوم بدراسة جزئيات حياة ذلك الإمام فيما يتعلق بهذا النهج.

بدون شك كان الهدف النهائي للإمام السجاد (ع) إيجاد الحكومة الإسلامية، وكما جاء في كلام الصادق (ع) بأن الله تعالى قد وقت عام 70 لقيام الحكومة الإسلامية، ثم بسبب قتل الإمام الحسين (ع) سنة 60 فإن الله أخرها إلى سنة 147 ــ 148، وهذا يحكي بشكل تام عن أن الهدف النهائي للإمام السجاد وسائر الأئمة هو إيجاد الحكومة الإسلامية. ولكن كيف يمكن أن تقام الحكومة الإسلامية في مثل تلك الظروف؟ إن هذا يحتاج إلى عدة أمور:

1ــ ينبغي أن تدّون وتدرس وتنتشر المدرسة الإسلامية الحقيقية التي يحمل علمها الأئمة (ع)، هذه المدرسة التي هي أيضاً المبنى الأساس للحكومة الإسلامية.

إذ كيف يمكن أن تقام حكومة مبنية على أساس الفكر الإسلامي الأصيل، والمجتمع الإسلامي قد أبعد لسنوات طويلة عن الفكر الإسلامي الصحيح، إضافة إلى أنه لم تكن هناك أية ظروف مساعدة لنشره وتثبيت أركانه بين الناس؟

إن أعظم الأدوار التي مارسها الإمام السجاد (ع) هي أنه دوّن الفكر الأصيل للإسلام: كالتوحيد، والنبوة، وحقيقة المقام المعنوي للإنسان، وارتباطه بالله، وأهم دور كان للصحيفة السجادية هو في هذا المجال. فانظروا إلى هذه الصحيفة، ثم جولوا ببصركم في أوضاع الناس على صعيد الفكر الإسلامي في ذلك الزمان ستجدون مدى المسافة التي تفصل بين الاثنين.

ففي ذلك الزمان الذي كان المسلمون في كل أنحاء العالم الإسلامي يسيرون نحو الحياة المادية والملذات بدءاً من شخص الخليفة عبدالملك بن مروان إلى العلماء المحيطين به (ومن جملتهم محمد بن شهاب الزهري، وسوف أذكر أسماء علماء البلاط فيما بعد)، نزولاً إلى الجميع الذين كانوا يغوصون في بحر الدنيا والماديات، يقف الإمام السجاد (ع) ويقول مخاطباً الناس:

 

4

“أولا حرّ يدع هذه اللمامة لأهلها”.

ففي هذه الجملة يوضح الإمام أن الفكر الإسلامي الاصيل كان عبارة عن: جعل الهدف للمعنويات والتحرك نحو الوصول إلى الاهداف المعنوية والإسلامية، وجعل الإنسان يرتبط بالله عبر التكليف. وهذا هو الموقف المقابل تماماً لحركة الناس في ذلك الزمن.

كان على الإمام السجاد (ع) أن يقوم بعمل كبير لأجل أن يحفظ الفكر الأصيل للإسلام في فضاء المجتمع الإسلامي. وكانت هذه الحادثة بداية أعمال الإمام السجاد (ع).

2ــ تعريف الناس على حقانية أولئك الذين ينبغي أن يتسلموا زمام الحكم، إذ كيف يمكن لأهل البيت تشكيل حكومة في الوقت الذي كان الإعلام والتبليغ ضد آل الرسول قد ملأ العالم طوال عشرات السنين حتى عصر الإمام السجاد (ع)، وفيه ظهرت الأحاديث الموضوعة على رسول الله والتي تخالف حركة أهل البيت، بل إنها في بعض الموارد تشتمل على سبهم ولعنهم، وقد نشرت بين اناس لم يكن لديهم أي اطلاع على المقام المعنوي والواقعي لأهل البيت.

لهذا، فإن أحد الأهداف والتحركات المهمة للإمام كانت ترتبط بتعريف الناس على حقانية أهل البيت وأن مقام الولاية والإمامة والحكومة حق ثابت لهم وهم الخلفاء الواقعيون للنبي (ص). وهذا الأمر إضافة لما له من أهمية عقائدية وفكرية فإنه يرتبط بالحركة السياسية المناهضة للنظام الحاكم.

3ــ كان على الإمام أن يؤسس بعض الاجهزة والتشكيلات التي يمكن أن تكون منطلقاً أصلياً للتحركات السياسية المستقبلية؛ ففي مجتمع متمزق يعيش تحت أنواع القمع والفقر والتضييق المالي والمعنوي، وبالأخص الشيعة الذين كانوا يعانون من تضييق متزايد، لم يكن باستطاعة الإمام السجاد (ع) أن يقوم وحده أو مع جماعة قليلة وغير منظمة بالثورة والمواجهة. لهذا كان همّ الإمام السجاد (ع) أن يبدأ بتشكيل هذه التنظيمات التي كانت ــ برأينا ــ موجودة منذ أيام أمير المؤمنين، غير أنها ضعفت وتلاشت إثر واقعة عاشوراء والحرة وواقعة المختار.

بالنتيجة نجد أن عمل الإمام يدور ضمن ثلاثة محاور:

الأول: تدوين الفكر الإسلامي بصورة صحيحة وطبق ما أنزل الله، بعد مرور أزمنة من التحريف والنسيان عليه.

الثاني: إثبات حقانية أهل البيت في الخلافة والإمامة.

الثالث: إيجاد التشكيلات المنظّمة لأتباع أهل البيت (ع) وأتباع التشيع.

هذه الأعمال الثلاثة هي التي ينبغي أن ندرسها ونبحث لنرى أي واحد منها قد تحقق في حياة الإمام السجاد (ع).

 

4

إلى جانب هذه الأعمال كانت هناك أيضاً أعمال أخرى وتحركات قام بها الإمام وأتباعه لأجل اختراق ذلك الجو المرعب والقمعي؛ ففي ظل الإجراءات الأمنيّة المشدّدة التي كان يفرضها الحكم نلاحظ مواقف عديدة للإمام أو أتباعه، كان الهدف منها كسر حواجز القمع وصناعة بعض الأجواء الملائمة ، خاصة مع الأجهزة الحاكمة أو التابعة لها، مثل المواقف التي حدثت بين الإمام وعبدالملك عدة مرات، أو الأمور التي جرت مع العلماء المنحرفين والتابعين لعبدالملك (من قبل محمد بن شهاب الزهري)، كل ذلك لأجل خرق ذلك الجو المتشدد.

إن الباحث عندما يستعرض الروايات سواء الأخلاقية أو المواعظ أو الرسائل التي نقلت عن الإمام أو التصرفات التي صدرت عنه، وذلك على اساس ما بيّناه، فإنه سوف يجد لها المعاني المناسبة، وبتعبير آخر سوف يرى أن جميع تلك التحركات والأقوال كانت ضمن الخطوات الثلاث التي اشرنا إليها، والتي كانت تصب جميعاً في دائرة إيجاد الحكومة الإسلامية. وبالتأكيد لم يكن الإمام يفكر في إيجاد حكومة إسلامية في زمانه، لأنه كان يعلم أن وقتها في المستقبل، أي في الحقيقة في عصر الإمام الصادق (ع).

انتهينا في الأبحاث الماضية إلى ان هدف جميع الأئمة (عليهم السلام) بما فيهم الإمام السجاد (ع) كان إقامة الحكومة الإسلامية، وأن تحقيق هذا الهدف استلزم من الإمام السجاد (ع) القيام بثلاثة أدوار، بدونها لن يكون هناك إمكانية لإقامة هذه الحكومة.

الأول: تعريف الناس على الفكر الإسلامي الأصيل. هذا الفكر الذي دفن تحت تراب النسيان نتيجة حكم الظالمين طوال ذلك الزمان، أو تعرّض للتحريف في عقول المسلمين. فكان على الإمام السجاد (ع) أن يقوم بتعريف الناس على الحقائق الإسلامية والاصول الدينية بكل ما أمكنه من قوة وبأكبر درجة تصل إليها أمواج كلماته وتعاليمه.

الثاني: تعريف الناس على حقيقة قضية الإمامة، وبتعبير آخر بيان مسألة الحكومة الإسلامية والحكم الإسلامي الحقيقي، وتوعية المجتمع الإسلامي على حقيقة مجريات ذلك الزمان الذي شهد حكم الظالمين والكفار والفاسقين، وإفهامه بأن حكومة عبدالملك وأمثالها ليست الحكومة التي يريدها الإسلام. فمادام الناس غير مدركين لهذه القضية ولم يخرجوا من حالة التخدير التي تفاقمت على مرور الزمان، فإن إقامة الحكومة التي يريدها الإمام السجاد (ع) سوف تبقى غير ممكنة.

الثالث: تشكيل مجموعة لتأسيس حزب يكون أعضاؤه كوادر أساسيين لجهاز الإمامة.

وبهذه الأمور الثلاثة سوف تتهيأ أرضية إقامة الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي.

لقد قلت سابقاً وأؤكد ما قلته الآن بأن الإمام السجاد (ع) لم يكن يرى أنه سيتم تحقيق الحكومة الإسلامية في زمانه (وهذا بخلاف ما عمل لأجله الإمام الصادق (ع) في زمانه)، لأنه كان معروفاً بأن الأرضية في زمان الإمام السجاد (ع) لم تكن معدة لذلك، فقد كان الظلم والقمع والجهل أكبر من أن يزول خلال هذه السنوات الثلاثين. لقد كان الإمام السجاد (ع) يعمل للمستقبل. ومن خلال القرائن العديدة نفهم أيضاً أنه حتى الإمام الباقر (ع) لم يكن يهدف إلى إقامة حكومة إسلامية في زمانه، أي أنه منذ سنة 61 حتى 95 هــ (شهادة الإمام السجاد (ع)) ومنذ سنة 95 حتى 411 هــ (شهادة الإمام الباقر (ع)) لم يسعَ كل منهما إلى إقامة حكومة إسلامية في زمانه، ولهذا كانا يعملان على المدى البعيد.

وسوف نستشهد على ما قلناه بكلمات وبيانات الإمام السجاد (ع) لأنها أفضل المصادر وأكثرها أصالة للتعريف على سيرة وحياة الإمام السجاد (ع) بل على حياة كل الأئمة (ع). غاية الأمر ــ وكما أشرنا سابقاً ــ أننا نفهم هذه البيانات بصورة صحيحة عندما نطلع على حركة الأئمة ومقصدهم من الجهاد والمواجهة والسعي والسير، وبغير هذه الصورة قد نفهم معاني هذه الكلمات، التي سوف أبيّنها، بشكل سيّئ.

والآن بعد أن اطّلعنا على بعض تلك الحوادث والتي استفدناها ببركة بيانات الأئمة (ع) وكلماتهم، سوف نعتمد الآن على نفس المصادر وسنرى أية استفادات صحيحة نحصّلها.

قبل أن ندخل في صلب البحث ينبغي أن نذكّر بنقطة قصيرة وهي أنه بسبب مرحلة القمع الشديد التي كان يعيشها الإمام السجاد (ع)، لم يستطع أن يبيّن لنا تلك المفاهيم بصورة واضحة، ولذلك كان يستفيد من أسلوب الموعظة والدعاء (خاصة أدعية الصحيفة السجادية التي سوف نتعرض لها فيما بعد والبيانات والروايات التي نقلت عن الإمام (ع) والتي كان يطغى عليها لحن الموعظة) حيث كان الإمام من ضمن بيان الموعظة والنصيحة يبيّن ما أشرنا إليه سابقاً، وبهذا اتّبع الإمام السجاد (ع) منهجاً حكيماً وشديد الحذاقة. وبذلك الاسلوب الذي ظاهره موعظة الناس ونصحهم أدخل الإمام (ع) إلى أذهانهم ما يريده، وهذا من أفضل أشكال التعاطي الأيديولوجي والفكري الصحيح.

ما سنقوم بدراسته هنا هو كلمات الإمام السجاد (ع) الواردة في كتاب “تحف العقول” حيث سنشاهد عدة أنواع من الاسلوب المذكور والتي تشير إلى طبيعة الجهات المخاطبة.

أحد تلك الأنواع، البيانات الموجّهة لعامة الناس والتي يظهر فيها أن المستمع ليس من الجماعة المقربة والخاصة للإمام أو من الكوادر التابعين له. وفي هذه الخطابات يستند الإمام (ع) دائماً إلى الآيات القرآنية، لماذا؟ لأن عامة الناس لا ينظرون إلى الإمام السجاد (ع) كإمام، بل يطلبون الدليل في كلماته، ولهذا كان الإمام يستدل إمّا بالآيات أو بالاستعارة من الآيات، حيث استخدم هذا الأسلوب في أكثر من 50 مورداً ذكر في تلك الروايات.

ولكن في الخطاب الموجّه إلى المؤمنين نجد الأمر مختلفاً، لأن هؤلاء المؤمنين يعرفون الإمام السجاد (ع) وقوله مقبول عندهم، ولهذا لم يكن يستند في كلامه إلى الآيات القرآنية. ولو أحصينا كل كلامه الموجه إليهم لوجدنا أن استخدام الآيات القرآنية فيه قليل جداً.

في رواية مفصّلة في كتاب “تحف العقول” تحت عنوان: “موعظة لسائر أصحابه وشيعته وتذكيره إياهم كل يوم جمعة”، حيث نجد هنا أن دائرة المستمعين واسعة، وهذا ما نستنتجه من القرائن المفصلة الواردة فيها.

ففي هذه الرواية لم يستخدم الإمام كلمة “أيها المؤمنون” أو “أيها الإخوة” حتى نعلم أن خطابه موجه إلى جماعة خاصة، ولكنه قال “أيها الناس” وهذا يشير إلى عمومية الخطاب.

ثانياً: لا يوجد في هذه الرواية تصريح بشيء معارض للجهاز الحاكم، بل انصرف كل الخطاب لبيان العقائد، وما ينبغي ان يعرفه الإنسان وذلك بلسان الموعظة.

فالخطاب يبدأ هكذا: “أيها الناس، اتّقوا الله واعلموا أنكم إليه راجعون..” ثم يتطرق الإمام (ع) إلى العقائد الإسلامية ويوجّه الناس إلى ضرورة فهم الإسلام الصحيح. وهذا يدل على أنهم لا يعرفون الإسلام الصحيح، حيث يوقظ بهذا البيان الدافع لمعرفة الإسلام الصحيح بين الناس.

 

4

انظروا مثلاً كيف يستفيد الإمام السجاد (ع) من أسلوبه الجذاب، حيث يقول: “ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده”، وبهذا يريد أن يوقظ فيهم الدافع لمعرفة الله وفهم التوحيد، “وعن نبيّك الذي أرسل إليك”، ثم الدوافع لفهم النبوة، “وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه…” وفيها، وأثناء عرضه لهذه العقائد الأصيلة وهذه المطالب الاساسية للإسلام كالتوحيد والنبوة والقرآن والدين، يبيّن هذه النقطة الاساسية بقوله (ع): “وعن إمامك الذي كنت تتولاه”. فهو هنا يطرح موضوع الإمامة، وقضية الإمامة عند الأئمة تعني قضية الحكومة، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمة (ع). وإن كان للولي والإمام معانٍ مختلفة عند البعض، ولكن هاتين القضيتين ــ الولاية والإمامة ــ على لسان الأئمة أمر واحد والمراد منهما واحد. وكلمة “الإمام” المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفل بإرشاد الناس وهدايتهم من الناحية الدينية، وأيضاً المتكفّل بإدارة أمور حياتهم من الناحية الدنيوية، أي خليفة النبي (ص).

الناس في إيران وفي الفترة السابقة لعهد الإمام (الخميني) لم يكونوا يعرفون المعنى الحقيقي للإمام ولكن الشعب اليوم أصبح يفهم معناها جيداً. فنحن نقول ان الإمام بمعنى قائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الذي نتعلم منه ديننا وتكون بيده أيضاً إدارة دنيانا، بحيث تكون إطاعته في أمور الدين وأمور الدنيا واجبة علينا.

ولحسن الحظ أن هذا المعنى “للإمام” قد ركز في أذهان الناس بعد الثورة.

في عالم التشيّع تعرضت هذه القضية (دور الإمام) إلى فهم خاطئ؛ ففي السابق كان الناس يتصوّرون أنّ هذا الفرد الواحد هو الذي يحكم المجتمع وهو الذي ينبغي أن يدير أمور الحياة بيده وبجهده الخاص، فيحارب ويصالح ويعمل وينفذ كل طلب هو بنفسه، فهو يأمر الناس وينهاهم من جهة، وفي نفس الوقت هو الذي ينفّذ هذه الأمور وحده لإصلاح دينهم! واليوم أيضاً تعرّضت هذه القضية للفهم الخاطئ بحيث أصبحنا نعتبر أن الإمام في عصر الغيبة ما هو إلاّ عالم ديني، وهذا بالطبع تصور خاطئ.

لفظة “إمام” تعني المتقدم والقائد

فالإمام الصادق (ع) عندما كان يلفت الناس في منى أو عرفات بقوله: “يا أيها الناس، إن رسول الله هو الإمام”، كان يشير إلى أن الإمام هو ذلك الإنسان الذي يتولى أمور الناس الدينية والدنيوية.

في المجتمع الإسلامي أيام حكم عبدالملك بن مروان وفي عصر الإمام السجاد (ع) كان هذا المعنى يفهم بشكل خاطئ، لأن إمامة المجتمع، وهي إدارة شؤون حياة الناس، قد أخذت من أهلها وأعطيت إلى من لا أهلية لهم بها، حيث كانوا يسمون أنفسهم بالأئمة ويعرفهم الناس بذلك، فالناس كانوا يطلقون لقب الإمام على عبدالملك ومن قبله على أبيه وقبلهما على يزيد وغيره، وقد قبلوهم على أساس أنهم قادة المجتمع وحكام الناس.

وهكذا عندما كان الإمام السجاد (ع) يقول: إنك ستُسأل عن إمامك في القبر، كان يشير إلى أنك هل انتخبت الإمام المناسب والصحيح؟ وهل ذلك الشخص الذي كان يحكمك، ويقود المجتمع الذي تعيش فيه هو حقاً إمام؟ وهل هو ممن رضي الله عنه؟ لقد كان الإمام بهذا الكلام يوقظ الناس ليجعل هذه القضية في نفوسهم حساسة.

بهذه الطريقة كان الإمام يحيي قضية الإمامة التي لم يكن الجهاز الأموي الحاكم يرضى أبداً بالتطرق إليها في المواعظ وفي الخطابات العامة. (كانت هذه من إحدى الوسائل الهادئة التي استخدمها الإمام في هذا المجال، وسوف نشير لاحقاً إلى أساليب أكثر حدّية).

بناءاً على هذا ففي البيان العام الموجه إلى عامة الناس نجد أن الإمام وبلغة الموعظة كان يحيي المعارف الإسلامية، وخاصة تلك المعارف الحساسة في ذهن الناس، ويسعى لأجل أن يتعرف الناس عليها ويتذكروها. ويمكن الالتفات في هذا النوع من الخطاب إلى نقطتين:

* الأولى: إن هذا النوع من البيان للإمام لم يكن تعليماً، بل من نوع التذكير. أي إن الإمام لم يكن يجلس ليبين للناس دقائق التوحيد، أو يفسر لهم مسألة النبوة. وإنما يذكرهم بها. لماذا؟ لأن المجتمع الذي كان يعيش فيه الإمام لم تكن تفصله عن مرحلة النبي (ص) مسافة زمنية كبيرة حتى ينحرف كلياً عن العقائد الإسلامية، بل كان هناك الكثير من الأشخاص الذين عايشوا رسول الله (ص) ومرت عليهم مرحلة الخلفاء الراشدين وقد عاصروا أئمتنا العظام من أمير المؤمنين (ع) إلى الإمام الحسن (ع) إلى الإمام الحسين (ع). ومن الناحية الاجتماعية لم يكن الوضع قد وصل إلى مرحلة يعاني فيها المجتمع الإسلامي من الانحراف العقائدي والاصولي بالنسبة لمسألة التوحيد والنبوة والمعاد والقرآن.

نعم، كانت هذه المسائل تدريجياً تخرج من ذاكرتهم، وكانت الحياة المادية تحيط بهم إلى درجة نسيان الفكر الإسلامي وفكر الاعتقاد بالإسلام.

فلقد كانت الحوادث الدنيوية والمادية في المجتمع تجري بحيث لا تبقي في أذهان الناس، اي توجه للتسابق في مضمار المعنويات والخيرات. وفي حال حصول هذا الأمر فإنه لم يكن يتعدى القشور والسطوح.

أما بالنسبة للمفهوم الذي كان الناس يحملونه في زمن رسول الله (ص) والعصر المتصل به عن التوحيد والحساسية المتميزة تجاهه، فلم يكن الناس في عصر الإمام يحملونه. هنا كان الأمر يحتاج إلى التذكير حتى يرجع الأمر إلى سابق عهده، لا أن هناك أشياء محرفة ينبغي أن تصحح. وهذا بخلاف المراحل اللاحقة، كمرحلة الإمام الصادق (ع)، لأن المسألة حينها لم تكن بهذا الشكل؛ فقد ظهر في ذلك الوقت الكثير من المتكلمين والمتفلسفين والمفكرين، وتحت عناوين متعددة كانوا يجلسون في المساجد الكبرى، مثل مسجد المدينة وحتى المسجد الحرام ومسجد الشام ويدرّسون العقائد المنحرفة والباطلة. لقد برز حينها أناس مثل “ابن أبي العوجاء” يدرسون عقائد الزنادقة والالحاد. لهذا، إذا تأملتم أحاديث وكلمات الإمام الصادق(ع) تجدون بيان التوحيد والنبوة وأمثالها بصورة استدلالية.

فالحاجة إلى الاستدلال ضرورية لمواجهة استدلال الخصم. وهذا ما لا نجده في بيانات الإمام السجاد (ع) التي كانت تعتمد على الوجدان حتى لا تنسى القضايا الأساسية.

باختصار لم يكن عصر الإمام السجاد (ع) يحكي عن خروج عن الفكر الإسلامي حتى عند الحكام. نعم قد يظهر لي أن هناك مورداً حدث فيه مثل هذا الأمر وذلك عندما ألقى يزيد اللعين تلك الابيات الشعرية في حالة السكر عندما أحضر أسرى أهل البيت (ع) فقال:

 

4

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل

ولكن إذا شئنا أن نقول، فإن هذا الكلام كان تحت تأثير السكر. وإلاّ حتى أمثال عبدالملك أو الحجاج لم يكونوا يجرؤون على إعلان مخالفتهم لفكرة التوحيد أو النبوة. لقد كان عبدالملك بن مروان يقرأ القرآن إلى درجة أنه عرف كأحد قرّاء القرآن. غاية الأمر أنه عندما وصل إليه خبر تنصيبه خليفة قبّل القرآن وقال: “هذا فراق بيني وبينك”. إن هذا ما حدث فعلاً. والحجاج بن يوسف الذي سمعتم عن ظلمه (وباليقين إن الذي سمعتموه هو أقل بكثير مما فعله) كان عندما يخطب في الناس يأمرهم بالتقوى. وهكذا نفهم أن ما كان في حياة الإمام السجاد (ع) هو التذكير بالأفكار الإسلامية لإخراج الناس من مستنقع الدنيا والدوافع المادية إلى ساحة معرفة الله والدين والقرآن.

* ثانية: وهي ما أشرنا إليه سابقاً من أن الإمام من خلال بيانه العام الذي اتخذ أسلوب الموعظة كان يأتي على ذكر مسألة الإمامة. كما كان يحدث في النظام الشاهنشاهي البائد عندما كان البعض يتحدث إليكم ويذكّركم قائلاً: أيها الناس فكروا بالله وبالتوحيد والنبوة وبقضية الحكومة.. فانظروا هنا كيف يمكن أن نفهم مسألة الإمامة وكيف كانت هذه الكلمة في النظام السابق كلمة خطرة. فحينها لم يكن الإتيان على ذكر الحكومة بالأمر السهل، أما إذا جاء ذلك بلغة الوعظ وعلى لسان رجل زاهد وعابد فإنه يمكن أن يقبل. وبتعبير آخر لا يثير الحساسيات.

هذا نوع من بيانات الإمام السجاد (ع)، أما النوع الثاني فهو ذلك الخطاب الموجه إلى مجموعة خاصة وليس مشخصاً فيها لمن، ولكنه موجه إلى مجموعة من الذين يخالفون النظام الحاكم. فمن يمكن أن يكون هؤلاء؟