الرئيسية / بحوث اسلامية / البــدعــة مفهومها وحدودها

البــدعــة مفهومها وحدودها

مفهوم البدعة وشروطها
تقدّم أنَّ البدعة هي: (إدخال ما ليس من الدين في الدين) وبهذا يكون مفهوم البدعة متقوّماً بأمرين هما:
1 ـ الاختصاص بالاَُمور الشرعية.
2 ـ عدم وجود دليل شرعي على الاَمر الحادث من الدين.
أولاً: الاختصاص بالاَُمور الشرعية
يختص مفهوم «البدعة»، بالاَُمور الشرعية زيادة أو نقصاناً، ولا يتعدى ذلك إلى الاَُمور والعادات المتغيرة، والمباحات، والاَعراف المتباينة لدى الناس، ما دامت لا تُعد جزءً من الشريعة، وعلى سبيل المثال فإنّ استعمال الاِنسان الآن للاَجهزة المتطورة في الكتابة كجهاز الحاسوب أو غيره من أجهزة الكتابة بعد أن كان يستخدم الدواة والقلم لا يُعدّ «بدعة» بمفهومها الشرعي، وكذلك الاَمر الآن في ركوب السيارات والطائرات بعد ركوب الدواب، وغير ذلك.
وقد اختلفت طريقة تعامل الاِنسان مع الاَشياء بناءً على التطور الحاصل في جميع مرافق الحياة، كتدوين الحديث، وتصنيفه، وتبويبه.
الصفحة 28
والاستماع إلى القرآن، وتشييد الاَماكن المقدسة، وإقامة التجمعات الدينية، وإنشاء المدارس والمؤسسات الاِسلامية وغير ذلك مما يلبي حاجة الاِنسان في زماننا المعاصر.
وهذه الاَُمور كلها لا علاقة لها بالابتداع، وإنْ كانت أُموراً حادثةً وغير موجودة في عصر التشريع الاَول؛ لاَنها مما ترك لاختيار الانسان وذوقه في انتخاب ما يناسب اسلوبه في الحياة ومرتبطة بطريقته في التعامل مع الاَشياء وبقدرته على تسخير الطاقات الكامنة في هذا الوجود وتطويعها لخدمته.
وقد حاول البعض توسيع معنى «البدعة» إلى مدى أوسع ليشمل كلَّ أمرٍ حادث لم يكن قد وقع في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى وإن كان بنحوٍ من الاَنحاء يهدف إلى خدمة الدين وأهدافه المقدسة.
فقد دفع التحجّر بعض هؤلاء ممن قصروا عن فهم الدين والسُنّة النبوية الشريفة إلى الاعتقاد بأنّ كل أمرٍ لا بدَّ أن يأتي فيه النص الخاص الذي يشير إليه بشكل صريح، وأنّ كلّ ما لم يرد بشأنه دليل شرعي خاص فإنّه يندرج في قائمة الابتداع، وكأنّ الشريعة الاسلامية عقيمة جامدة لا تمتلك الضوابط العامة والقوانين الكلية التي يمكن تطبيقها على الموضوعات والحوادث المستجدة والمتنوعة.
جاء في دائرة المعارف الاِسلامية: وتطور مدلول كلمة «البدعة»، وانقسم الناس حياله الى فريقين: الاَول محافظ، والآخر: مجدد، وكان أتباع الفريق المحافظ أول الاَمر الحنابلة بنوعٍ خاص، ويمثلهم الآن الوهابيون، وهذا الفريق آخذ في الزوال، ويذهب هذا الفريق إلى أنّه
الصفحة 29
يجب على المؤمن أن يأخذ بالاتّباع «إتّباع السُنّة»، وأن يرفض الابتداع، وفريق آخر يسلّم بتغيّر البيئة والاَحوال(1).
فهناك إذاً توجه متطرّف في فهم «البدعة» وإعطائه معنىً شاملاً وواسعاً، مناقضاً للمعنى الوارد في القرآن والسُنّة النبوية الشريفة، ومناقضاً أيضاً لمنطق العقل وسُنّة الخلق، فهذا الاتجاه كما قلنا يطبّق مفهوم البدعة على كل أمر حادث في حياة المسلمين ويوسع دلالتها إلى مختلف شؤون الحياة بدعاوى الحرص على الدين والتقيد والاتّباع للسُنّة النبوية المطهّرة.
وهذا اللون من الفهم المغلوط والتفكير السقيم لا يعني سوى الانغلاق الكامل عن الحياة، والانزواء المطبق الذي يعزل الشريعة عن التفاعل مع حياة الناس، بل وقيادتهم في خضم الصراعات الكبرى التي تواجهها الاِنسانية.
ولكي يقف القارىء الكريم على الفهم المغلوط لمفهوم البدعة، نورد له في هذا الباب جملة من الحوادث والروايات لرجال وأشخاص فهموا البدعة على أنّها كل أمر حادث لم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
1 ـ جاء في (الاعتصام) أنَّ أبا نعيم الحافظ روى عن محمد بن أسلم أنّه وُلد له ولد، قال ـ محمد بن القاسم الطوسي ـ فقال: اشترِ لي كبشين عظيمين، ودفع لي دراهم فاشتريت له، وأعطاني عشرة أُخرى، وقال لي: اشتر بها دقيقاً ولا تنخله، واخبزه !
____________
(1) دائرة المعارف الاِسلامية، دار المعرفة 3: 456.

الصفحة 30
قال: فنخلت الدقيق وخبزته، ثم جئت به، فقال: نخلت هذا ؟! وأعطاني عشرة أُخرى، وقال اشترِ به دقيقاً ولا تنخله، واخبزه ! فخبزته وحملته إليه، فقال لي: يا أبا عبدالله، العقيقة سُنّة، ونخل الدقيق بدعة ! ولا ينبغي أن يكون في السُنّة بدعة، ولم أُحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة(1).
2 ـ وروي أن رجلاً قال لابي بكر بن عياش: كيف أصبحت ؟ فما أجابه، وقال دعونا من هذه البدعة(2).
3 ـ وروي عن أبي مصعب صاحب مالك أنّه قال: قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلّى ووضَعَ رداءه بينَ يدي الصف، فلمّا سلَّم الاِمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكاً، وكان قد صلّى خلف الامام، فلّما سلَّم قال: من هاهنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان، فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ! فحُبس، فقيل له: إنّه ابن مهدي، فوجّه إليه وقال له: أما خفتَ الله واتّقيته أن وضعت ثوبكَ بين يديك في الصف وشغلت المصلّين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ؟ فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لايفعل ذلك أبداً في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا في غيره(3).
4 ـ ويقول ابن الحاج: وقد منع علماؤنا رحمة الله عليهم المراوح، إذ
____________
(1) الاعتصام، لابي اسحاق الشاطبي 2: 74.

(2) احياء علوم الدين، لابي حامد الغزالي 2: 251 كتاب العزلة.

(3) الاعتصام، لابي اسحاق الشاطبي 1: 116.

الصفحة 31
إنَّ اتخاذها في المساجد بدعة(1)!!
5 ـ ويقول أيضاً: إنّ المصافحة بعد الصلاة بدعة، وينبغي له ـ يقصد إمام الجماعة ـ أن يمنع ما أحدثوه من المصافحة بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، وبعد صلاة الجمعة، بل زاد بعضهم في هذا الوقت فعل ذلك بعد الصلوات الخمسة، وذلك كله بدعة(2)!!
ومما تقدم من الشواهد والاَمثلة تتوضح معالم الفهم الخاطىء لمعنى البدعة، وأنّه ناشىء من الاعتقاد بأن كل أمر حادث لم يكن موجوداً في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد بخصوصه نصٌّ معين يخصّه بالذكر، فهو داخل في دائرة الابتداع.
ومن هنا صار نخلُ الدقيق وتنقيته من الشوائب من البدع في الدين، وكذلك وضع الرداء بين يدي الصف في الصلاة من البدع التي تاب عن فعلها صاحبها !! ويلحق بذلك عند هؤلاء التحية بعبارة (كيف أصبحت) والمصافحة بعد الصلاة، واستخدام المراوح في المساجد أيضاً، فهذه وأمثالها عندهم كلها بدع.
أصل هذا الفهم
إنّ هذا الفهم الخاطىء «للبدعة» لم يتأت من فراغ، بل جاء من الاعتقاد بنظرية غريبة، وهي أنّ البدعة هي ما لم يكن موجوداً في القرون الثلاثة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
____________
(1) المدخل، لابن الحاج 2: 217.

(2) المصدر السابق 2: 219.

الصفحة 32
يقول صاحب الهديّة السنية: «ومما نحن عليه، أنّ البدعة ـ وهي ماحدثت بعد القرون الثلاثة ـ مذمومة مطلقاً خلافاً لمن قال: حسنة وقبيحة، ولمن قسّمها خمسة أقسام، إلاّ إن أمكن الجمع بأن يقال: الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة، وتكون تسميتها بدعة مجازاً، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمة والمكروهة، فلا بأس بهذا الجمع…»(1).
إنّ هذه النظرية الشاذة الغريبة اعتمدت حسب ما يبدو على روايات وردت في فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى البخاري عن عمران بن الحصين، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير أُمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً، ثم إنّ بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السِّمَنُ(2).
وروى أيضاً عن عبدالله إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، قال: قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار)(3).
إنّ الاحتجاج بهذه الروايات على أنّها الميزان في تمييز البدعة عن السُنّة باطل من عدّة وجوه:
____________
(1) الهدية السنية، الرسالة الثانية: 51.

(2) فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني 7: 6 باب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(3) المصدر السابق.

الصفحة 33
الاَول: إنّ القرن في اللغة هو النسل(1)، وقد استُعمل هذا المعنى في القرآن الكريم، قال سبحانه وتعالى:(فَأهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأنشأنَا مِنْ بَعدِهِم قَرناً آخَرِينَ)(2).
والمتعارف أنّ معدل عمر كل نسلٍ أو جيل هو الستون أو السبعون من السنين، فيكون المراد من تلك الروايات، مجموع تلك السنين وهو يتراوح بين 180 و 210 سنة فأين ذلك من تفسير الحديث المار بثلاثمائة سنة.
الثاني: إنّ شرّاح الحديث اختلفوا في تفسير الرواية، ومع ذلك فإنّ كلّ التفاسير لايستفاد منها ما تبنّاه الكاتب من أن القرون الثلاثة هي ثلاثمائة سنة، فهناك من يقول إنّ المراد في قوله: «قرني» هو أصحابه ومن «الذين يلونهم» أبناءهم ومن «الثالث» أبناء أبنائهم.. وغيره يقول بأنّ قرنه ما بقيت عين رأته، ومن الثاني ما بقيت عين رأت من رآه، ثم كذلك.
ويقول ثالث: إنّ قرنه هم الصحابة، والثاني التابعون، والثالث تابعوهم(3).
وعلى كلِّ التفاسير المارة فإنّ المدّة المفترضة هي أقل من ثلاثمائة سنة، فإذا أخذنا بالقول الاَخير وهو أعم الاَقوال وأكثرها سعة من ناحية الامتداد الزمني، فإنَّ آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل وقد اختلفوا في تاريخ وفاته، فقد قيل أنّه توفي في سنة 120 هـ أو قبلها أو
____________
(1) العين، للخليل. اللسان، لابن منظور، مادة (قران).

(2) الانعام 6: 6.

(3) شرح صحيح مسلم، للنووي 16: 85.

الصفحة 34
بعدها بقليل، وأما قرن التابعين فآخر من توفي منهم كان عام 170 هـ أو 180 هـ وآخر من عاش من أتباع التابعين ممن يُقبل قوله قد توفي حدود سنة 220 هـ، فيقل تاريخ وفاته بثمانين سنة عن الثلاثمائة سنة وهو زمن كثير. وهذا مااعتمده ابن حجر العسقلاني، فقال: وفي هذا الوقت «220 هـ» ظهرت البدع فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيّرت الاَحوال تغيّراً شديداً ولم يزل الاَمر في نقصٍ إلى الآن(1).
ويزيد الاَمر وضوحاً أنّ الحديث المروي قد اعتمد في تمييز القرن عن القرن الآخر الاَشخاص حسب طبقاتهم، حيثُ قال: «خير أُمتي قرني» ولم يقل القرن الاَول، ثم قال: «ثم الذين يلونهم» ولم يقل القرن الثاني، وأخيراً قال: «ثم الذين يلونهم» ولم يقل القرن الثالث، والاَمر هنا واضح الدلالة بما لا مزيد عليه من أنّ المحور في تعيين القرن هم الاَشخاص.
الثالث: ماذا يُراد من خير القرون وشرّها، وما هو المقياس في الوصف بالخير والشر ؟
إنّ هناك ثلاثة مقاييس يمكن استخدامها في وصف أمرٍ بالخير أو بالشر هي: ـ
1 ـ إنّ أهل القرن الاَول كانوا خير القرون لاَنّهم لم يختلفوا في الاُصول والعقائد.
2 ـ إنّهم خير القرون لاَنّهم كانوا جميعاً يعيشون تحت ظل الاَمن
____________
(1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني 7: 4.

الصفحة 35
والسلم والطمأنينة.
3 ـ إنّهم خير القرون لاَنّهم تمسكوا بأهداف الدين وحققوا أهدافه على الصعيد العملي والتطبيقي.
إنّ كلّ واحد من هذه الافتراضات بكذبه القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة ووقائع التاريخ.
فإذا كان المقياس هو العقائد الصحيحة، وأنَّ المسلمين كانوا كلهم متمسكين بمعتقد واحد صحيح طيلة القرون الثلاثة الاُولى، وأنّ العقائد الباطلة والفاسدة ظهرت بعد تلك القرون، فإنّ تاريخ ظهور الملل والنحل في المجتمع الاِسلامي يكذّب ذلك الادعاء والتفسير، فقد ظهر الخوارج في أواخر الثلاثينات الهجرية وكانت لهم عقائد سخيفة خضّبوا بسببها وجه الاَرض بالدم وقتلوا الاَبرياء، ولم تكتمل المائة الاُولى حتى ظهرت المرجئة الذين دعوا المسلمين إلى التحلل من الضوابط والالتزامات الشرعية، رافعين عقيرتهم بالنداء بأنّه لا تضر مع الاِيمان معصية !
ولم يمضِ وقت طويل على ظهورهم حتى ظهر المعتزلة عام 105 هـ قبل وفاة الحسن البصري بقليل، فتوسع الشقاق بين المسلمين.
لقد شهدت المائة الهجرية الثانية توسع الاَبحاث الكلامية وانبعاث المذاهب المتعددة، وأصبحت حواضر العالم الاِسلامي ميداناً واسعاً لتضارب الآراء وصراع الاَفكار.
فمن متزمتٍ يقتصر في وصفه سبحانه وتعالى على الاَلفاظ الواردة في القرآن الكريم ويفسّرها بمعانيها الحرفية، من دون إمعان أو تدبر فلا يخجل من الادعاء بأنّ لله يداً ووجهاً ورجلاً وأنّه مستقر على عرشه
الصفحة 36
كما يستقر أي موجود مادي.
إلى مرجئي يكتفي بالاِيمان بالقول بل ويقدّمه، ويؤخر العمل ويسوق الاُمّة إلى التحلل الخلقي وترك الفرائض والواجبات، إلى محكِّم يُكفّر كلّ الطوائف الاِسلامية غير أهل نحلته، إلى معتزلي يؤوّل الكتاب والسُنّة إلى ما يوافق معتقده وعقليته، إلى غير ذلك من العقائد الفاسدة التي طعنت وحدة الاُمّة الاِسلامية بالصميم.
وأما إذا كان المقياس هو سيادة الاَمن والاستقرار والسلم والطمأنينة على المجتمع الاِسلامي، فإنَّ وقائع التاريخ تكذّب ذلك أيما تكذيب، فقد كان القرن الاَول صفحة تلطّخت بالدم الذي سال من المسلمين، ففي هذا القرن وقعت حرب الجمل، وفيه خرج معاوية على إمام زمانه أمير المؤمنين عليه السلام فوقعت معركة صفين، وفيه قُتل في محرابه أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وفيه ظهر الخوارج وارتكبوا ما ارتكبوا من أبشع الجرائم.
وفيه أيضاً قُتل الاِمام الحسين عليه السلام سبط الرسول الاَعظم وسيد شباب أهل الجنة.
وفيه استبيحت المدينة بأمر يزيد بن معاوية فقتل من الصحابة والتابعين عدد كبير ونهبت الاَموال وحرّقت الدور وبقرت بطون الحوامل وهتكت الاَعراض.
وفيه حوصرت مكة وضربت الكعبة بالمنجنيق.
لقد وقع كل ذلك قبل أن تتم المائة الاُولى سنينها، فكيف يمكن أن
الصفحة 37
يكون ذلك القرن خير القرون وأفضلها، صحيح إنَّ في وجود الرسول الاَكرم والطاهرين من أهل بيته والصالحين من أصحابه الخير كل الخير، لكن الحديث المذكور يشير إلى الاَشخاص «الاَصحاب» الذين كانوا هم أنفسهم وراء الكثير من الاَحداث الدموية.
وإذا كان المقياس هو التمسك بالدين والالتزام بالتعاليم التي جاء بها الرسول الاَكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا ندري هل نصدّق الحديثين السابقين اللذين رواهما الشيخان، أم نصدّق بما أخرجاه معاً في مكان آخر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يرد عليَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فَيُحَلَّؤون عن الحوض، فأقول: يا ربي أصحابي، فيقول: إنّه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري»(1).
أم نؤمن بالحديث الذي تقدم في فصول الكتاب من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لجملة من أصحابه يوم القيامة: «فسحقاً» يكررها ثلاث مرات ؟
وكيف نؤمن بذلك والقرآن الذي نزل تعرّض إلى جملة ممن عاصروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فوصفهم بالمنافقين(2)، والمختفين به(3)، ومرضى القلوب(4)، والسماعين، كالريشة في مهب الريح(5)، والمشرفين على الارتداد(6)، والمسلمين غير المؤمنين(7)، والمؤلفة
____________
(1) جامع الاصول، لابن الاثير 10: 469 | 7998 طبعة دار الفكر.

(2) المنافقون 63: 1 ـ 8.

(3) التوبة 9: 101.

(4) الاحزاب 33: 12.

(5) التوبة 9: 45 ـ 47.

(6) آل عمران 3: 154.

(7) الحجرات 49: 14.

الصفحة 38
قلوبهم(1)، والمولّين أدبارهم أمام الكفار(2)، والفاسقين(3).
وكيف يا ترى مع وجود كل هذه النعوت والاوصاف التي أطلقها القرآن الكريم على أشخاص أو مجموعات من الناس كانت تعيش في أوساط المسلمين وتجتمع باجتماعهم، يصف الرسول تلك القرون بأنّها خير القرون ؟!
إنّ الذي يبدو واضحاً أنّ الحديث موضوع من أجل هدف خطير، وهو تصحيح كل أفعال السلف وجعلهم معياراً فاصلاً بين الحق والباطل، فما فعلوه فهو الحق وما تركوه هو الباطل !!
ونحن نعتقد أنّ عمل السلف ليس مصدراً من مصادر التشريع كما صوّره البعض وبنوا عليه كثيراً من الاَحكام الشرعية التفصيلية، مع أنّه ليس هناك أي دليل يشير إلى اعتبار فعل السلف وحجيته في مجال الاَحكام الشرعية.
إنّ قبول ذلك المعيار يعني استسلام الشريعة المقدسة إلى البدع والمحدثات، واختلاط الحرام بالحلال، والوقوع في تناقضات أفعال السلف التي طفحت بها كتب الرواية والحديث والوقائع التاريخية.
والاَمر الوحيد الذي نمتلكه بهذا الصدد، هو أنّ فعل المتشرعة الذين يمثلون الطبقة الطليعية في المجتمع الاِسلامي، والذين يحكي تصرفهم وسلوكهم عن واقع الاَحكام الشرعية، باعتبار حرصهم على تطبيق
____________
(1) التوبة 9: 60.

(2) الانفال 8: 16.

(3) الحجرات 49: 6.

الصفحة 39
تعاليمها، والجري على منهجها، إنّما هو حجة من ناحية كونه كاشفاً عن تلقّي الاَمر عن مصدر التشريع.
ومن الواضح إنَّ هذه الدائرة لا يمكن أن تشمل في إطارها جميع أفعال السلف، بل انّها تقتصر في حجيتها على حدود خاصة منهم.
إنَّ افتراض الحجية لجميع أفعال السلف كلهم، يتناقض مع كونهم لم يقدّموا للاُمّة أمراً أجمعوا رأيهم عليه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومن يتصفح كتب التاريخ الاِسلامي والوقائع والاَحداث ونشوء المدارس وتنوع الاجتهادات وتضاربها لا يخالطه في ذلك ريب.
فكيف يكون المختلفون كلهم حجة على من أعقبهم من الاُمّة، مع أنّ الاختلاف بينهم كان بعضه بمقدار ما بين الجنة والنار من مسافة واختلاف؟!

 

https://t.me/wilayahinfo

[email protected]

الولاية الاخبارية

شاهد أيضاً

آداب الأسرة في الإسلام

رابعاً : حقوق الأبناء : للأبناء حقوق علىٰ الوالدين ، وقد لخّصها الإمام علي بن ...