الرئيسية / أخبار وتقارير / صلى الله عليك ياأبا عبد الله.. من قالها ثلاث مرات حصل على ثواب الزيارة 9

صلى الله عليك ياأبا عبد الله.. من قالها ثلاث مرات حصل على ثواب الزيارة 9

مظاهر الشوق إلى الله في كربلاء
ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف
وَكَانَ الحُسَيْنُ عَلَیهِ السَّلاَمُ وَبَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ أَلْوَانُهُمْ وَتَهْدَأُ جَوَارِحُهُمْ وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا لاَ يُبَالِي‌بِالمَوْتِ! فَقَالَ لَهُمْ الحُسَيْنُ عَلَیهِ السَّلاَمُ: صَبْراً بَنِي‌الكِرَامِ! فَمَا المَوْتُ إلاَّ قَنْطَرَةً تَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ البُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ إلی الجِنَانِ الوَاسِعَةِ وَالنَّعِيمِ الدَّائِمَةِ؛ فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إلی قَصْرٍ؟!

القاسم : أشهى من العسل
مظاهر عشق الأصحاب وأهل المعسكر للإمام وصناعة الإرادة
تبدو المعركة المحتومة النتيجة سلفاً للناظر على أنها خسارة ومأساة، ولكنها كانت في الحقيقة احتفالاً للعشق والشوق واستقبل تراب كربلاء تلك الأجساد التي قدمت كذبائح وأضحيات على مذبح العشق الإلهي، فهم كان الموت لديهم فداءً للحسين عليه السلام ألذ وأشهى من الحياة، وكانو على استعداد للموت أكثر من مرة إن كان ذلك ممكناً، في تلك الحقبة السوداء المظلمة التي جلس فيها يزيد على مقعد رسول الله والتي سكت الجميع فيها عن هذه الجريمة التي ترمز إلى عودة الجاهلية وانكسار كل مقدس في المجتمع الإسلامي، في تلك الحقبة، كان هناك اثنان وسبعون رجلاً يرسمون على مسرح كربلاء صورة مغايرة ومناقضة لواقع بيئتهم ومجتمعهم وتاريخهم، صورة الحب في ساحة الخذلان، والعشق في مجتمع الكراهية والبغضاء، والتفاني في مجتمع الطمع وبيع الأنفس والأرواح.

عاشوراء وتزكية النفس 

* التوكل : الإتكال على الله يتجلى عند العجز الضعف والخوف والإستمرار في القصد، وكلما ازدادت الصعوبات والتحديات، ظهرت حقيقة التوكل على الله عند المرء، وثقته به وإيمانه بحضور قدرته في جميع العوامل ومراتب الوجود. كربلاء هي مجمع البلاء وهي اللحظة التي انقطع فيها كل أمل وناصر ومعين في وسط الصحراء القاحلة والقلوب القاحلة، وهناك لم يكن هناك من ملجأ سوى الله سبحانه وتعالى، وليس هناك من إمكانية للإعتماد على أي شيء آخر، إذ ليس هناك أي شيء آخر، ولم يكن الموجودون هناك قد وصلو بالصدفة، بل بمحض الإرادة والإصرار، فهم من الخطوة الأولى كان الله سندهم الوحيد ومرجعهم المفرد الأوحد. الفريد في هذه الحادثة أن مفهوم التوكل يغدو واضحاً في غياب أي تفسير آخر أو تحليل بديل، إذ يمكننا أن نفهم هنا إلى أي مدى يمكن أن يصل التوكل في حدوده القصوى، عند انقطاع كل أمل وكل إمكان دنيوي، وهنا يتجلى هذا المفهوم بأبهى صورة له، بحيث تنتفي ضرورة الشرح والتوضيح، إذ يصبح الشهود أكبر من أي توضيح أو عبارة، فأصحاب الحسين هم تجسيد لهذا التوكل، وكذلك زينب عليها السلام، وأما المصداق الأكبر فهو الإمام صلوات الله عليه.

* الرضا : الرضا هو القبول والإنشراح لأمر الله سبحانه وتعالى، ولقضائه وتدبيره، وهو رضا في النعمة والبلاء، وعند البلاء يصبح الرضا بخلاف رغبة النفس البشرية، فهي تريد النعمة، ولا ترضى بالبلاء، وتستطيع أن تتحمل البلاء بالصبر والتوكل، ولكن الرضا هو مرتبة أعلى من ذلك، وينعكس الرضا بعدم الإعتراض وعدم الحزن والأسى بل بالإنشراح والقبول والطمأنينة لأمر الله جل وعلا، ويتجلى كذلك بعدم الجزع والإنكسار والغم عند مواجهة البلاءات. السؤال كيف تجلى الرضا في كربلاء ؟ هل كان أصحاب الحسين في حالة نفسية واحدة خلال كل الأوقات ؟ أم أنهم أحياناً ضحكو وأحياناً بكوا وأحياناً حزنو .. لا يتعارض الرضا مع الحزن والشعور بالألم أو التعاطف مع آلام الآخرين، ولكن هذا العواطف والمشاعر لا تؤدي إلى مخالفة الأمر الإلهي أو الإعتراض على القضاء الرباني، بل هي من الصفات الطبيعية للوجود الإنساني، بل هنا الرضا يتجلى في عدم الإنفعال السلبي، أو عدم الإنكسار والإنهيار أمام البلاء الشديد، بل يظل ذكر الله وعشق العبادة والعبودية المطلقة حاضرة على الدوام، فالرضا ضده السخط وليس ضده الشعور بالألم والجراح. هنا نلاحظ المعجزة الكربلائية الخالدة، التي أظهرت لنا حقيقة الرضا بالقضاء والأمر الإلهي، هنا نعرف ما يمكن للإنسان أن يكونه، عندما نسمع الإمام يقول : هون ما نزل بي أنه بعين الله، والمهم هو أن نعرف حقيقةً في أي حال قالها، أن نحاول أن نضع أنفسنا مكان تلك الشخصية الخالدة، ليس في تلك اللحظة فقط، لحظة استشهاد عبد الله الرضيع، بل في تراكم كل مصائب ذلك النهار، لنعرف أي قلب كان يقول تلك الكلمات، أي قلب مفتت مشظى.

* الذكر : التسبيح وذكر اللسان والعبادة الظاهرية كانت حاضرة في كربلاء، فقد طلب الإمام الشهيد تأجيل المعركة ليوم آخر حتى يتسنى له ولأصحابه التعبد والتهجد وقراءة القرآن، وكذلك كان مشهد الذكر والعبادة في صلاة الظهر يوم العاشر، يعكس مدى تعلق هذا المعسكر بذكر الله والتوجه إليه، وكذلك الكثير من المشاهد الأخرى من الدعاء والتوسل والتوكل والتسبيح، وهو أمر حض عليه القرآن (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة .. واذكروا الله ذكراً كثيراص ). الذكر القلبي هو حضور المذكور المقدس في الوجدان والشعور والإحساس، وله أثر الطمأنينة والسكينة والهدوء (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) وهذا ما يجعلنا ندرك سبب هذه الحالة الملكوتية التي كانت بادية في محيا الحسين صلوات الله عليه وأصحابه وأهل بيته وهم في وسط تلك الساحة القاحلة محاصرين بكل صنوف البلاء التي قد يتعرض لها الإنسان في لحظات مختلفة من حياته بوتيرة بسيطة ولكنه لا يستطيع احتمالها، لنأخذ مثالاً فراق الأحبة، فقد نفقد عزيزاً واحداً ونشعر بالجزع لسنين طويلة، ولكن كم حبيباً وعزيزاً ودع أولئك الرجال وكم عزيزاً تركوا خلفهم بين جيوش الأعداء، هذه نقطة من بحر بلاء كربلاء، ولكن التثبيت كان إلهياً لأن القلوب كانت ذاكرة وحاضرٌ فيها مصدر الطمأنينة في هذا الوجود. في اللحظات الأخيرة من المعركة، وحين كان الإمام وحيداً، كان الذكر على اللسان وفي القلب، (اللهم عظيم الجبروت، متعالي المكان، عزيز الكبرياء ..) فكان الذكر وحضور الله يطغى على كل المشهد، كان الإمام ينظر إلى الوجود الإلهي متخطياً لكل البلايا والتحديات والآلام والجراح والمخاطر، كان الخطاب مع الله هو الذي يفسر كل سلوك الإمام ويجعلنا نعي ماذا كان يرى ويشعر في الأفق الأعلى الذي هو فيه. حشود البلاءات والرزايا والآلام لم تستطع أن تحجب هذه القلوب المستنيرة عن الإتصال بذي الجلال والعز والجبروت، بل انشغلت عن الألم والجراح بهذا الذكر وبهذا التطلع إلى الله مالك كل شيء.

* العزم : العزم نقطة محورية في الوجود الإنساني، فالكائن الذي له حرية الإختيار، له القدرة على العزم واتخاذ القرار في الإختيار، والعزم في الإستمرار في هذا القرار، فالعزم هو تحقيق الحرية في الواقع، وبالتالي تحقيق إنسانية الإنسان، وحقيقة وجوده هو التحلي بالصفات الإلهية الحسنى الموجودة بالقوة في فطرته وأصل خلقته. معسكر الحسين عليه الصلاة والسلام، هو معسكر العزم والقرار الحاسم الذي لا لبس فيه ولا تراجع عنه، وهو ليس معسكر الجبر والإكراه والإنصياع مكرهاً، بل اتخذ رجاله القرار بكامل حريتهم منذ البداية، وتعرضوا لامتحان أول عند وصول خبر استشهاد مسلم، فكان بإمكانهم العودة، ولاختبار ثانٍ ليلة العاشر من المحرم حين أحلهم الحسين من بيعته، أما صاحب القرار الأول، الحسين الشهيد سلام الله عليه، فقد كان صاحب العزم الأكبر، فهو اتخذ القرار بنفسه وكان صاحب المبادرة والعزم على الإستمرار فيها منذ رفض البيعة وحتى الشهادة، هذا العزم الذي لا حد له، ولا يعجزه أي عائق أو جراح هو مثال اكتمال العزم الإنساني، وهو مفردة من مفردات الفتح الجميل، الذي يظهر كمال الإنسان وإلى أي حد يستطيع أن يصل في مدارج الرفعة والقدرة والحرية، فلا شيء يمكن أن يحجز حرية إنسان وعزمه على تحقيق إرادته.

* الصبر : الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فالصبر هو دليل الإيمان بما هو خلف هذه الدنيا، فيصبر الإنسان ويتحمل رزايا هذا الوجود الدنيوي، هنا في كربلاء يفوق الصبر الخيال البشري، يتعدى حدود الوعي والإدراك والفهم والشعور، كربلاء هي قمة الصبر الإنساني قمة الصمود والثبات، وكما قال الإمام الحسن المجتبى سلام الله عليه (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) فهذا اليوم هو يوم مفرد في التاريخ البشري، يلخص رسالات الأنبياء وصبرهم وتحملهم للمصائب والبلاءات والشدائد في سبيل الرسالة، ويعيد إنتاج مشهد الإنسان العارف بما وراء المادة والحياة والمعاش، الذي يقف وجهاً لوجه أمام الماورائيات، تاركاً خلفه كل شيء، محتملاً لكل ما يهرب منه الإنسان في حياته العادية، مجتمعةٌ أسراب المصائب فوق رأسه في يوم واحد، بما لا يحتمله المرء في حياة كاملة، ويظل يقاتل. هنا التوضيح لا يكتفي بالمعرفة، بل يصبح مصدراً للتعليم القلبي للمشاهدة المباشرة، للإستفادة من تجربة الإنسان الكامل والإقتراب منها والتمثل بها، فهذا الجمال اللامتناهي يجذب كل قلب، ويخلب كل لب.

* الزهد : للزهد مراتب، وقد يكون الزهد سهلاً ولا يتطلب كثير عناء في كثير من العناوين، وهو ترك التعلق بالدنيا وبسائر جوانبها وأبعادها المادية والمعنوية، وقد يكون الزهد عن فقر أو عن غنى، فقد يزهد المرء في شيء لم يكن ليملكه، وقد يزهد في شيء يستطيع أن يملكه، هنا يكون الزهد أعلى وأسمى، ففي الحالة الأولى يكون مكرهاً، وفي الثانية مختاراً بإرادته للزهد، والأصل في كلا الحالين هو التعلق بالشيء وليس امتلاكه. كربلاء أظهرت للبشرية مشهد الإنسان الزاهد إلى الحد المطلق، فقد نرى إنساناً يحارب في معركة لأجل قضية سامية، لكن نفسه تحدثه بمنصب أو غنيمة أو سمعة أو بطولة أو … لكن في هذه المعركة الفريدة لم يكن هناك أي شيء من هذا، فهنا ليس هناك أي مقابل مادي أو معنوي دنيوي، هناك فقط العبودية لله سبحانه وتعالى، فالذين جاؤوا إلى هذه المعركة بأقدامهم وإرادتهم هم تجلي لحقيقة الزهد التام والتخلي النهائي عن كل ما في الدنيا، وبالمقارنة مع الشهداء والمجاهدين في سائر المعارك فإن هذه الحقيقة قد لا تتجلى بهذا الوضوح كما حصل في كربلاء، فهناك ترشح للناظر احتمالات متفاوتة ومتعددة لا يستطيع أن يحسم بينها نظراً لخفاء العالم المجرد والباطني للإنسان عن نظره المباشر، وعدم إمكانية انكشاف هذا الباطن له، أما في كربلاء فقد انعدمت هذه الثنائية بين المادي والمجرد في الإنسان، وظهر المجرد كما هو بحقيقته دون أي حجاب.

* البلاء : أرض الكرب والبلاء هي مجمع البلايا والرزايا، فهناك في ذلك اليوم العاشر من المحرم، اجتمعت كل المأساة الإنسانية، من الحصار والخوف والجوع والعطش والقتل والتشريد والغربة والقلة والسبي وفراق الأحبة، هذه هي العناوين العامة للبلاء في كربلاء، فليس ثمة بلاء او محنة أو مأساة إنسانية قد ترقى إلى ما حصل في تلك الساحة وسط الصحراء، فهي مثال رفيع جداً على ما يمكن للإنسان أن يتحمل ويحمل على ظهره من الألم والعبء والمصائب والجراح. البلايا هذه لم تقع على مجموعة من الناس المتبلدي الحس، المعتادين على الصعاب، بل على مجموعة مرهفة حساسة رقيقة وتحمل من الحب والعاطفة والرأفة والشعور بالآخرين ما دفعها إلى تحمل كل هذه البلايا عنهم، هنا يتضاعف حجم تأثير البلاء ومدى عمقه وشدة تأثيره. كربلاء إذن هي اختبار أعلى للذات الإنسانية وقدرتها على التضحية والتحمل، وهي مثال نموذجي ورمز أمام التجربة البشرية، كقمة تجهد الإنسانية للوصول إليها، فهؤلاء الذين نجحو في هذا الإمتحان هم تجسيد للإنسان الذي يمكن له بالتوكل على الله أن يجتاز كل الصعوبات والإبتلاءات ويبقى صامداً وراسخاً وثابتاً لا يتزلزل.

* النية : الغاية والمقصد الكامن خلف العمل هو الذي يحدد سنخية العمل، فقد تكون النية بخلاف العمل الظاهري، فقد يكون العمل الظاهري سامياً لكن النية دنيوية وضيعة، وأحياناً يصعب على الإنسان نفسه أن يميز أو يدرك حقيقة نيته، وقد يحتاج للإختبار ليدرك ذلك، إذ إن مجرد العمل لا يعكس طبيعة النية، فهي أمر باطني يتعلق بشاكلة النفس وسنخيتها واندفاعاتها وتعلقاتها والبصيرة التي تسير عليها. كربلاء هي الساحة الأمثل لتمحيص النوايا، حيث خضعت للأختبارات الكبرى، وحيث لم يكن أي غايات أخرى تحكم العمل الظاهري سوى التقرب إلى الله، لأن أي أمر آخر أو غاية أخرى لم تكن ممكنة التحقق، وكان الجميع مدركاً لهذه الحقيقة الواضحة وضوح شمس الصحراء. هنا انصهرت النية مع ظاهر العمل، فظاهر العمل لله وباطن العمل لله دون أي احتمالات أو وسوسات أو أحاديث النفس التي قد تأخذ العمل إلى أبعاد دنيوية وأرضية، فهناك لم يكن أي شيء يمت بصلة إلى الساحة الدنيا، كانت واقعة كربلاء زماناً ملكوتياً صافياً ومجرداً إلى أقصى حد، لا تشوبها شائبة، وقد كان الإختبار الأخير ليلة العاشر لحظة الحسم النهائي لهذا الصفاء وهذا التجرد.

* التوبة : التوبة والأوبة عن الخطأ وعن التردي الإنساني والعودة إلى مسار التكامل البشري هي فعل استدارة يحتاج للعزم والشجاعة، ويحتاج للأمل، فأحياناً عندما يكون المرء في وهدة التردي والانشغال بشؤون الدنيا كما هي حالنا نحن، يصعب عليه العزم ويفقد أحياناً الأمل بالخلاص والعودة إلى حقيقة الإنسانية. التوبة في كربلاء كانت كذلك قمة التوبة في صعوبتها وشعاع الإستدارة الكامل الذي طواه الحر الرياحي في عودته من معسكر يزيد إلى معسكر الإمام الحسين روحي فداه، فقد كان الحر أول المبارزين والمواجهين للثورة بالسلاح، فغدا أول المستشهدين في معركة الثورة، هذا المثال يعطينا الأمل والعزم والشجاعة والقدرة على اتخاذ القرار المصيري بالعودة من مسار التسافل الذي نحن فيه إلى مسار التكامل الذي أراده الله لنا. الحر من الناحية الروحي كان في المعسكر الدنيوي الظالم والقاهر ورغم أخلاقه المميزة وأدبه العالي فقد كان منضوياً في ركب يزيد راضياً بذلك على معرفته بالحسين عليه السلام وأهل بيته ومقامهم عند الله، وكان قد منع معسكر الحسين صلوات الله عليه من نصب خيامه عند الماء، ما أوقعهم في العطش الشديد وسط الصحراء، وكان أيضاً قد أفزع عيال الحسين عليه السلام من نساء وأطفال وهم حرائر النبوة، وهو أيضاً كان في معسكر المنعة والقوة والسلطة والهيبة، فهو قائد في جيش يزيد عن عشرين ألف مقاتل، وكانت الفئة المقابلة مقتولة لا محالة، وكان أمامه طلب العذر من الإمام عليه السلام والتوبة إلى الله، والإلتحاق بالمعسكر الذي ستعرض للإبادة، هنا كانت التوبة نموذجية وذات خصوصية تجعلها مثالاً للتوبة الحقيقية التي لا عودة معها إلى الخطيئة، والتي كانت لغاية رضا الله لا غير، بلا أي مقابل دنيوي مادي أو معنوي، جاء الحر من معسكر يزيد لأجل أن يكون شهيداً في معسكر سيد الشهداء، هكذا تجسدت حقيقة التوبة في كربلاء، الساحة التي تنزل فيها الوحي مجسداً في معسكر الحسين عليه الصلاة والسلام.

* الرياء : هو حب طلب المديح والشهرة عند الآخرين، والهدف هو تعظيم النفس والشعور بأهميتها، فالهدف هنا هو الذات، وعندما يضحي الإنسان بهذه الذات، لا يكون للرياء إليه طريق، عندما يضحي بها لأجل الآخرين، لا يعود طلب الشهرة لها هدفاً للمضحي. كربلاء هنا تقدم لنا مثالاً حياً عن خلاص النفس الإنسانية من حبائل الرياء والذاتية، فهنا الذات تحترق بنار البلاءات، الأنفس الكربلائية تذهب بقدمها إلى ساحة البلاء الأعظم، لتذوب وتفنى هناك، دون أي طلب آخر سوى لقاء الله، مستغنية في غربتها وانصرافها إلى الشهادة عن كل ما يتعلق بالسمعة والرفعة لدى الناس.

* العجب : الإنية والأنانية انتهتا في كربلاء، الإنية بمعنى الذاتية والعندية والاعتماد على الذات والشعور بقدرة الذات واستقلالها، والأنانية بمعنى طلب كل شيء لأجل الذات، كربلاء مسرح موت هاتين الخصلتين في النفس الإنسانية. ففي كربلاء ذوت وفنت الذات وكل متعلقاتها، فلا إعجاب بها أو بسلوكياتها أو بقدرتها أو بوجودها وبقائها أو باستقلالها، فقد اعلنت الذات البشرية هناك نهايتها الكلية في جميع الأبعاد، وأعلنت إسلامها واستسلامها لله القهار، وكذلك تخلت عن كل شيء، فهي ليست محور الوجود ومجمع كمالاته في نظرها، بل قدمت كل شيء لأجل الله، وكان ذلك التقديم بمنتهى الإرخاص والتسليم والرضا في ساحة لم يكن للنفس أن تكون معجبة بنفسها وراضية بالتضحية بكل أبعادها المعنوية والمادية، فهي قدمت نفسها على أنها اللاشيء أمام التكليف الإلهي وأمام العبور إلى عالم الملكوت اللامتناهي، قاصرة الطرف عن العالم الفاني وعن الذات المتناهية والمحدودة، متطلعة بشوق لا يحد إلى القنطرة القصيرة التي تمر عبر النصال والسيوف والعطش والجوع والأشلاء وتحت السنابك ولهيب الصحراء.


* هادي قبيسي.

شاهد أيضاً

    إقرأ المزيد .. الإمام الخامنئي: الشعوب المسلمة تتوقع من حكوماتها قطع العلاقات مع ...