الرئيسية / صوتي ومرئي متنوع / المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم 6

المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم 6

الأجر الأخروي : غاية المجتمع
ربما يتوهم المتوهم أن جعل الأجر الأخروي وهو الغرض العام في حياة الانسان
الاجتماعية يوجب سقوط الاغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الانسانية
وفيه فساد نظام الاجتماع ، والانحطاط إلى منحط الرهبانية ، وكيف يمكن الانقطاع إلى
مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الأخرى ؟ وهل هذا الا تناقض ؟
لكنه توهم ساذج في الجهل بالحكمة الإلهية والأسرار التي تكشفت عنها المعارف
القرآنية فإن الاسلام يبني تشريعه على أصل التكوين كما مر ذكره مرارا في المباحث
السابقة من هذا الكتاب ، قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطرة
الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) ( 1 ) . وحاصله : أن سلسلة الأسباب
الواقعية التكونية تعاضدت على إيجاد النوع الانساني في ذيلها وتوفرت على سوقه نحو
الغاية الحيوية التي هيأت له فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح والاختيار على
موافقة الأسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى
الهلاك والشقاء ، وهذا ( لو تفهمه المتوهم ) هو الدين الاسلامي بعينه ، ولما كان
هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجه لها المدبر لأمرها فيما دق وجل وهو الله
سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكملة
كان الواجب على الانسان الاسلام له والخضوع لأمره ، وهذا معنى كون التوحيد هو
الأساس الوحيد للدين الاسلامي .
ومن هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد والاسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى على
موافقة الأسباب طرا وإعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك ولا غفلة فعند المرء
المسلم غايات وأغراض دنيوية وأخرى أخروية ، وله مقاصد مادية وأخرى معنوية ، لكنه لا
يعتني في أمرها بأزيد مما ينبغي من الاعتناء والاهتمام ولذلك بعينه نرى أن الاسلام
يندب إلى توحيد الله سبحانه ، والانقطاع إليه والإخلاص له والإعراض عن كل سبب دونه
ومبتغى غيره ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري الطبيعية
.
ومن هنا يظهر أن أفراد المجتمع الإسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا وفي
الآخرة وأن غايتهم وهو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية
إذا ظهرت واستؤثرت .
ومن هنا يظهر أيضا فساد توهم آخر وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من
الباحثين أن حقيقة الدين والغرض الأصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية والعباديات
فروع متفرعة عليها فالذي يقيمها فهو على الدين ولو لم يتلبس بعقيدة ولا عبودية .
والباحث المتدبر في الكتاب والسنة وخاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على
بطلان هذا التوهم إلى مؤونة زائدة وتكلف واستدلال ، على أن هذا الكلام الذي يتضمن
إسقاط التوحيد ، وكرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية
الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع ، وقد عرفت أنهما
غايتان
مختلفتان لا ترجع إحداهما إلى الأخرى لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها .
– 9 –
الحرية والمجتمع الاسلامي
كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدة
قرون ولعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الأوروبية قبل بضعة قرون لكن معناها
كان يجول في الأذهان وأمنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة .
والأصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الانسان في
وجوده من الإرادة الباعثة إياه على العمل فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس
والشعور المنجر إلى إبطال الإنسانية .
غير أن الانسان لما كان موجودا اجتماعيا تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع
وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات ، وفعله في الأفعال المنجر إلى
الخضوع لقانون يعدل الإرادات والأعمال بوضع حدود لها فالطبيعة التي أعطته إطلاق
الإرادة والعمل هي بعينها تحدد الإرادة والعمل وتقيد ذلك الإطلاق الابتدائي والحرية
الأولية .
والقوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت
أنتج ذلك حرية الأمة في أمر المعارف الأصلية الدينية من حيث الإلتزام بها وبلوازمها
، وفي أمر الأخلاق ، وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الانسان من
الإرادات والأعمال فهذا هو المراد بالحرية عندهم .
وأما الاسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت ثم في المرتبة التالية على
أساس الأخلاق الفاضلة ثم تعرضت لكل يسير وخطير من الأعمال الفردية والاجتماعية
كائنة ما كانت فلا شئ مما يتعلق بالإنسان أو يتعلق به الانسان إلا وللشرع الإسلامي
فيه قدم أو أثر قدم فلا مجال ولا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه .
نعم للإنسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه وهذا وإن كان لا يزيد على
كملة واحدة غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بصورة عميقة في السنة الاسلامية ،
والسيرة العملية التي تندب إليها وتقرها بين أفراد المجتمع وطباقاته ثم قاس ذلك إلى
ما يشاهد من سنن السؤدد والسيادة والتحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها
وأفرادها أنفسها وبين كل أمة قوية وضعيفة .
وأما من حيث الأحكام فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق ومزايا الحياة
المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج
لعباده والطيبات من الرزق ) ( 1 ) .
وقال تعالى : ( خلق لكم ما في الأرض جميعا ) ( 2 ) .
وقال تعالى : ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) ( 3 ) .
ومن عجيب الأمر ما رامه بعض الباحثين والمفسرين ، وتكلف فيه من إثبات حرية العقيدة
في الاسلام بقوله تعالى : ( لا إكراه في
الدين ) ( 1 ) وما يشابهه من الآيات الكريمة .
وقد مر البحث التفسيري عن معنى الآية في سورة البقرة ، والذي نضيف إليها هاهنا أنك
عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الاسلامية ومع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية
العقائد ؟ وهل ذلك إلا التناقض الصريح ؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول
بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه .
وبعبارة أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملا
اختياريا للإنسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير ، وإنما الذي
يقبل الحظر والإباحة هو الإلتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى
العقيدة وإقناع الناس بها وكتابتها ونشرها وإفساد ما عند الناس من العقيدة ، والعمل
المخالفين لها ، فهذه هي التي تقبل المنع والجواز ، ومن المعلوم أنها إذا خالفت
مواد قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتكي عليه القانون لم يكن مناص من منعها
من قبل القانون ولم يتك الإسلام في تشريعه على غير دين التوحيد ( التوحيد والنبوة
والمعاد ) وهو الذي يجتمع عليه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس ( أهل الكتاب )
فليست الحرية إلا فيها وليست فيما عداها إلا هدفا لأصل الدين ، نعم هاهنا حرية
أخرى وهي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث .

https://t.me/wilayahinfo

https://chat.whatsapp.com/JG7F4QaZ1oBCy3y9yhSxpC

 

شاهد أيضاً

المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم 5

وأما ثانيا : فلأن الأخلاق الفاضلة أيضا تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها ...