آيات الأحكام للعلامة السيد الأسترآبادي 14
14 مايو,2020
القرآن الكريم, صوتي ومرئي متنوع
813 زيارة
والظاهر أنّه حقيقة في الأوّل دون البواقي وإفراده هنا لأنه جنس ، أو لأنه خبر للخمر ، وخبر البواقي محذوف من جنسه ، لدلالته عليه ، أو خبر للمضاف المحذوف أي تعاطى الخمر إلخ ، واحتمل كونه خبرا عن كلّ واحد من عمل الشيطان لأنه نشأ من تسويله وتزيينه ، وهو صفة أو خبر آخر .
« فَاجْتَنِبُوهُ » أي ما ذكر ، أو تعاطيها ، أو الرجس ، أو عمل الشيطان ، أو كلّ واحد « لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » سبب الاجتناب .
وفي الآية في تحريم الخمر والميسر وجوه من المبالغة من مخاطبتهم أولا ب « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » والإتيان بانّما الدالّ على حصر الأوصاف بل الحقيقة أيضا ، والمقارنة للأنصاب المشعر بالكفر المحض ، والأزلام الَّتي هي من شعار الكفّار ، والتقديم عليهما وتسميتها رجسا ، وجعلها من عمل الشيطان المؤذن بأنّها شرّ محض .
ثمّ الأمر بالاجتناب عن عينها ظاهرا وجعله سببا يرجى منه الفلاح ، مشعرا بأنّ مباشرها لا يفلح مع إمكان أن يقال إنّ في لعلّ أيضا نحو تأكيد وإيماء بأنهم لما تقدّم منهم من ذلك ، صاروا بعيدين عن الفلاح فافهم .
ثم أكَّد ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيويّة والدينيّة ثمّ قرّر كلّ ذلك فقال : « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » بصيغة الاستفهام مرتّبا على ما تقدّم من أنواع الصوارف ، إيذانا بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية ، وأنّ الأعذار قد انقطعت .
ثمّ أمر بإطاعة اللَّه ورسوله وحذّر عن المخالفة وهدّد على التولَّي عن ذلك وغير ذلك .
وفي اللباب ( 1 )
فروى أبو ميسرة أنّ عمر بن الخطَّاب قال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء ، فأنزل اللَّه الآية الَّتي في سورة البقرة « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ » الآية فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت الَّتي في النساء « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى » فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت الَّتي في المائدة « إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ – إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » فدعي عمر فقرئ عليه ، فقال : انتهينا انتهينا . أخرجه الترمذي من طريقين ، وقال هذا أصحّ ، وأخرجه أبو داود والنسائي انتهى والعاقل يكفيه إشارة .
ثمّ في الآية أحكام لكن إيرادها هنا باعتبار الاستدلال لها على نجاسة الخمر وهو من وجهين :
الف – أنّه وصفه بالرجس ، وهو وصف بالنجاسة لترادفهما ، ولذلك يؤكَّد
بالنجس فيقال « رجس نجس » .
ب – أنه أمر باجتنابه ، وهو موجب للتباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بسائر أنواعه ، وكون كلّ منهما في جانب ، وهو يستلزم الهجران من كلّ وجه .
والجواب أنّ الرجس وإن كان حقيقة في القذر ، لكن القذر أعمّ من النجس فان الظاهر منه كلّ ما تنفّر منه النفس ، ولم سلَّم فلا يراد به هنا ذلك حقيقة بالنسبة إلى أعيان هذه الأشياء ، وإلَّا لزم أن يكون الأنصاب والأزلام أقذارا نتنجّس بملاقاتها برطوبة ، كما هو شأن كلّ نجس قذر ، ولا يعرف به قائل لا منّا ولا من غيرنا ، وظاهر الكلّ الإجماع على خلاف ذلك ، فلا بدّ من حمله على معنى غير ذلك يصحّ في الجميع ، فلا يستلزم قذارة العين نجاستها .
ولهذا قال جماعة من الفحول رجس خبر للمضاف المحذوف وهو تعاطي هذه الأشياء فإنّ الذي تستخبثه العقول ويعاف منه يقينا من هذه الأشياء ، تعاطيها على الوجوه المقتضية للمفاسد الظاهرة المشهورة المتعلَّقة بها ، كشرب الخمر ، وما يتعلَّق به من حفظها وبيعها وشرائها وغير ذلك للشرب ولو من الغير ، كما روي عنه صلَّى اللَّه عليه وآله « لعن اللَّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه » ( 1 ) .
ولعب الميسر وما يتعلَّق به ، وعبادة الأنصاب وتعظيمها ، وما يتعلَّق بذلك ، والاستقسام بالأزلام ، وما يتعلَّق به ، حتّى لا يبعد أن يقال إنّ قبح تعاطي هذه الأشياء واصل إلى حدّ إذا نسب إليها جميعا النجاسة والقذارة يتبادر هو لا غير ، خصوصا مع قرينة عدم قائل بنجاستها جميعا فتأمّل .
لا يقال : القائل بنجاسة الخمر كثير بل أكثر ، ولا ريب أنّ مراعاة الحقيقة مع الإمكان أولى والمجاز معها أقرب ، فينبغي أن يحمل الرجس بالنسبة إلى الخمر على حقيقته ، وفي البواقي على غيرها .
لأنّ هذا وإن كان مجازا لكنّه استعمال في الحقيقة والمجاز جميعا ، ويحتاج فيه إلى وضع ثالث ، واعتبار عين كلّ من المعنيين في الوضع والاستعمال ، ومؤنة ذلك كثيرة غير لائق بأوضاع الألفاظ ، واستعمالاتها ، بل كاد أن لا يحتمله الوضع ولا
الاستعمال ، ولذلك صار أبعد المجازات ، حتّى منع منه بعض بالكلَّية ، خصوصا بالنسبة إلى أمور مع تخصيص كلّ ببعض ، ولا ريب فيه مع عدم قرينة مفهمة لشيء من ذلك كما هنا ، ومع جميع ذلك فلا ريب أنّه يحتاج في نوع المجاز إلى النقل ولا يجوز بدونه ، ولم ينقل مثله ، فهو غير جائز البتّة .
وأما جعل رجس خبرا عن الخمر على حقيقته وكون خبر البواقي من جنس لفظه في ما يناسبها من المجاز أو يكون قوله : « مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » خبرا عن البواقي فهذا كلَّه خلاف الظاهر ، وخروج عن مقتضى اللفظ ، وقوانين الاستعمال من غير دليل وهو ظاهر .
لكن بقي في المقام شيء وهو أن يراد بالرجس حقيقته ويكون التجوّز في الاسناد ، ولا ريب أنّه بالنسبة إلى البعض فقط أقرب إلى الأصل والحقيقة منه بالنسبة إلى الكلّ ، فمع المقتضي للتجوّز في البعض من الإجماع أو غيره لا ينبغي أن يصار إليه بالنسبة إلى الجميع ، اللهمّ إلَّا أن يقال : مقتضى اللفظ والتركيب أنّ المعنى والإسناد بالنسبة إلى الجميع واحد ، ولا يفهم للخمر مزيّة في ذلك فليتأمّل فيه .
وأما الاجتناب في الوجه الثاني فعمّا أخبر عنه بأنّه رجس ، فان كان التعاطي فلا يدلّ على اجتناب الغير من جميع الوجوه ، على أنّ الظاهر كونه في الجميع على نسق واحد ، فلو كان المراد عمّا ذكر أو نحوه ، لم يلزم نجاسة عين الخمر أيضا فتأمّل .
واعلم أنّ الأخبار في نجاسة الخمر مع ضعفها مختلفة وأكثر العامّة على النجاسة فلا يمكن حمل أحاديث الطهارة على التقيّة ، فالجمع بالحمل على استحباب غسل الثوب منها إذا لم يفهم من الآية تنجيس متوجّه ، وطريق الاحتياط غير خفيّ .
2020-05-14