يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ .1
1- سورة الزخرف، الآية: 32.
من المسلّم به الواضح لكلّ إنسان يعقل أنّ الناس تحتاج لبعضها بعضاً لتسيير أمورها وقضاء حوائجها. فالإنسان لا يستغني عن الآخرين، ولا يقدر على ذلك حيث إنّ حوائجه كثيرة ولا يقدر على سدِّها بمفرده. ففي الطعام والشراب والمسكن واللباس وغيرها من الحاجات، يوجد العديد من المهن والصنائع والحرف فكيف له بامتهانها جميعاً؟!
هذا غير متيسّر لشخص بمفرده، فاحتاج بنو البشر لأجل التكامل فيما بينهم أن يبنوا مجتمعاً تتبادل الناس فيه الحاجات، فأنا أعطيك عملي في حرفتي وأنت تُعطيني نتاج جهدك في صنعتك وهكذا..
ومن هذا المنطلق احتاج الناس أيضاً إلى بعضهم بعضاً في الاستخدام فهناك صاحب عمل وهو يحتاج إلى عمّال سواء في الزراعة أم في الصناعة أم في التجارة، فلا تصلح الحياة الاجتماعية بأن يكون كلّ الناس أرباب عمل واحد. ومن هنا كانت حكمة الله تعالى في التباين بين الخلق في الهمم والطموحات والإرادات والعزائم..
وهذا ما يُشير إليه سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام عندما يُبيّن ما تتضمّنه الآية القرآنية المتقدِّمة من حقائق والتي منها الحكمة في خلق الناس بقابليّات متفاوتة، ومنها الحكمة في تسخير بعض الناس لبعضهم بعضاً، وكون بعضهم مستخدِماً والآخر مستخدَماً.
فإنّه عليه السلام استدلّ بالآية الشريفة على كون الإجارة من وجوه المعاش، وأنّها مشروعة وثابتة في الدِّين والشرع المبين وعلى أنّها لا بُدّ منها، وأنّ أمور الخلق
ومعايشهم لا تستقيم بدونها. فقد نقل السيّد المرتضى قدس سره عن تفسير النعماني بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام في بيان معايش الخلق، قال عليه السلام:
وجه الإجارة
– “وأمّا وجه الإجارة فقوله عزّ وجلّ:
﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ 2.
فأخبرنا سبحانه أنّ الإجارة أحد معايش الخلق، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه وتصرّفاته وأملاكه.
ولو كان الرجل منّا يضطرّ إلى أن يكوّن بنّاء لنفسه، أو نجّاراً، أو صانعاً في شيء من جميع أنواع الصنائع لنفسه، ويتولّى جميع ما يحتاج إليه من إصلاح الثياب وما يحتاج إليه من الملك فمن دونه، ما استقامت أحوال العالم بتلك، ولا اتّسعوا له ولعجزوا عنه، ولكنّه أتقن تدبيره لمخالفته بين هممهم وكلّ ما يطلب مما تنصرف إليه همّته ممّا يقوم به بعضهم لبعض، وليستغني بعضهم ببعض في أبواب المعايش الّتي بها صلاح أحوالهم”3.
فلا كلام إذاً في مشروعية الإجارة، وحاجة الخلق إليها وإلا تعسّرت الحياة على الإنسان..وإنّما الكلام في عدّة نقاط مهمّة في طيّات أبحاث الإجارة من شروط وآداب، قد يُبتلى بها الناس بالإخلال بها وهم لا يدرون، وربّما سبّب هذا الإخلال خللاً في العلاقات ما بين المؤمنين، مما استدعى ذكرها لتعلّمها وتطبيق الشريعة المقدّسة، لما فيها من درء لتلك المناكفات والمخاصمات الّتي قد تتطوّر لتفقد
2- سورة الزخرف، الآية: 32.
3- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 19، ص 103.