نصُّ الموعظة القرآنية:
خاطب الله سبحانه نبيّه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ .
الرفق واللين، واللطف هو الهدف
الخُرُق والعنف ظاهرتان سلبيتان في طبيعة الإنسان ويُقابلهما ملكة اللين والرفق، وأصل الرفق في اللغة: النفع، ومنه قولهم: أرفق فلان فلاناً إذا مكّنه مما يرتفق به. ورفيق الرجل: من ينتفع بصحبته، ومرافق البيت: المواضع التي ينتفع بها .
والذي يعنينا من الرفق هنا، هو ما يحمل لنا معاني اللين واللطف والسهولة واليسر، لما لها من دور مهم في حياة المؤمن الرسالي، وما يؤدّيه من مهام وأدوار في حركته الرسالية الواعية بين أفراد وشرائع المجتمع بكلّ أطيافه، وما لها من تأثير جميل يدلّ على حسن وجمال المتلبّس به، واستقامة ذاته واعتدال تصرّفاته, إذ إِنَّ الرفق ليس مستهدفاً للغير في مهمته وتأثيراته فحسب، بل هو يبدأ من الذات ليشمل
غيرها من الأفراد والمجتمعات، ويوصل إليها رسالة التكافل الاجتماعي بأبهى صورة.
وقد أكّد الإسلام العزيز على هذه السجية الفاضلة والخصلة النبيلة داعياً أتباعه ومحبّيه إلى التحلّي بها وتجسيدها في أرض الواقع العملي, لتؤدّي إلى الأهداف المطلوبة. والذي صنعه الإسلام على صعيد العنصر الأخلاقي بجميع أركانه ومظاهره كالصدق والأمانة والبرّ والإحسان والرفق والعفو والرحمة والحبّ والسلام وغير ذلك…، إنّما هو على نحو التقدير والتنظيم والإحياء، لا على نحو الفرض المتعالي على الطبيعة البشرية, لأنّ العنصر الأخلاقي عنصر فطري ثابت في الفطرة التي فطر الله عليها عباده، ولا تبديل لخلق الله، فمهما حاولت الأفراد أو الشعوب في زمن من الأزمان لأجل قلب القيم وتجاهل أصالتها فإنّها لا تستطيع أن تدعو بوضوح إلى إشاعة الكذب والخيانة والخسّة والدناءة, لأنّ المبدأ الأخلاقي أصالة في الفطرة.
الرفق هداية الخلق إلى الحق
اللّين في المعاملة هو الرفق، ففي آية الموعظة يكون المعنى:أَنَّ لَيْنَكَ يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم سببٌ يوجب دخولهم في الدين, لأنّك تأتيهم مع سماحة أخلاقك وكرم سجيتك بالحجج والبراهين .
فلولا هذا الرفق الذي اعتمده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع مَنْ أرسل إليهم لما تمكّن من استقطاب الناس حول رسالته, إذ أنّ الفظاضة والغلظة المناقضة للرفق واللين إذا ما اعتُمدت خياراً منهجياً في التبليغ والدعوة إلى الحق فإنَّ مردودها سيكون عكسياً، فالناس بحاجة إلى كنف رحيم، ورعاية فائقة، وبشاشة سمحة، وإلى ودٍّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم، وهم بحاجة إلى قلبٍ كبيرٍ يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء، ويحمل همومهم ولا يعنّيهم بهمّه، ويجدون عنده دائماً
الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والودّ والرضا.
وتعميقاً لروح الرفق واللين التي يريدها الله تعالى في الدعوة إلى الحق، جاء التأكيد في تلك الآية المباركة نفسها على ما يجسّد حالة الرفق واللين العملي بين يدي المؤمنين، في جملة مكارم الأخلاق التي اهتمّ الإسلام بتحقيقها على النحو الأكمل وإشاعتها بين الناس، فهي تأمر بالعفو لمن يُسيء والغفران لمن يُخطئ, ليتجلّى الرفق ويتمظهر اللين في حركة التغيير والإصلاح على منهجية المبلغ الرسالي ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾.
ولمزيد من الرفق أمرت الآية المتقدّمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ومن يقتدي به من باب أوْلى أن يشاور أولئك الذين صدر عنهم الفرار من الزحف وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع نفر قلائل من أصحابه، فقال عزّ وجل ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾، وبعد ذلك يُمضي ما يراه الأصوب في ذلك ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾، والآية واضحة تشير إلى الرفق بكلّ أبعاده، ليضع الأثر الذي يريده الله تعالى في درب التكامل البشري من خلال رسالته السامية.