( 5 ) قاعدة في مراتب علمه تعالى بالأشياء إجمالا وتفصيلا
فمنها العناية وهي العلم بالأشياء الذي هو عين ذاته المقدسة وهو العقل البسيط لا تفصيل فيه ولا إجمال فوقه .
والعناية علم تفصيلي متكثر وهي نقش زائد على ذاته تعالى عند أصحاب أرسطاطاليس وأتباعه من المشائين .
والتحقيق أنها غير زائدة على الذات وليس لها محل لما أشرنا إليه سابقا من أن حقيقة الوجود يجب أن يكون كل الأشياء على وجه مقدس عقلي وإليه الإشارة بقوله :
« وَعِنْدَه ُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » .
ومنها القلم واللوح فالقلم موجود عقلي متوسط بين اللَّه وبين خلقه فيه جميع صور الأشياء على الوجه العقلي وهو أيضا عقل بسيط إلا أنه دون الحق الأول في البساطة والشرف . وأيضا : الحق الأول واحد حقيقي بسيط من كل وجه والعقول الفعالة متعددة كثيرة .
وإلى تلك الأقلام أشار تعالى بقوله :
« وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُه ُ وَما نُنَزِّلُه ُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » وقوله :
« وَلِلَّه ِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ » وإنما سمي العقل الفعال قلما لأن شأنه تصوير الحقائق في ألواح النفوس وصحائف القلوب وبه يستكمل النفوس بالصور العلمية ويخرج ذاتها من القوة إلى الفعل كما بالأقلام ينتقش الألواح والصحائف ويتصور مادتها بصور الأرقام ونقوش الكتابة .
وأما اللوح فهو جوهر نفساني وملك روحاني يقبل العلوم من القلم ويسمع كلام اللَّه عنه .
ومنها القضاء والقدر فالقضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات بحقائقها الكلية وصورها العقلية في العالم العقلي مجتمعة ومجملة على سبيل الإبداع وتلك مرتبطة بالحق الأول موجودة في صقع الإلهية لا ينبغي عدها من جملة العالم بمعنى ما سوى اللَّه بل الحق أنها معدودة من لوازم ذاته الغير المجعولة لأنها صور علمه التفصيلي بما عداه ولذلك قال :
« وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُه ُ » فالعالم كله جوده ورحمته وخزائن جوده ورحمته يجب أن يكون قبل الجود والرحمة فلو كانت تلك الخزائن من جملة جوده أي من مخلوقاته ومقدوراته فلا بد لها أيضا من خزائن سابقة عليها فظهر أن خزائن اللَّه ليست من جملة المصنوعات والأفاعيل بل هي سرادقات نورية ولمعات جمالية وجلالية .
وأما القدر فهو قدران : قدر علمي وقدر خارجي فالأول عبارة عن وجود تلك الأشياء مقدرة مصورة بشخصياتها وجزئياتها في قوة إدراكية ونفس انطباعية .
وأما الثاني فهو عبارة عن وجودها في موادها الخارجية مفصلة واحدا بعد واحد مرهونة بأوقاتها وأزمنتها موقوفة على موادها واستعدادتها متسلسلة من غير انقطاع كما قال تعالى :
« وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها » وقال : « وَما نُنَزِّلُه ُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » وأشار إلى القدر العلمي بقوله
« إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناه ُ بِقَدَرٍ » وقوله :
« يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَه ُ أُمُّ الْكِتابِ » وسيأتي لك مزيد توضيح وتفصيل لهذا المقام .