الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر17

المسيح في ليلة القدر17

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد جوزيف شاهنيان في تاريخ 26/12/1985م.

الشهيد جوزيف شاهنيان
مكان الاستشهاد: محطة الحسينية – خوزستان
تاريخ الاستشهاد: 16/09/1985م
 
 
 
 
206

171

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 كان مسرح “وحدت” قد استضاف الشاه وفرح (زوجته) ورئيس الوزراء أمير عباس هويدا. بالطبع في تلك الأيّام، كان اسمه مسرح “رودكي”. لا أذكر أيّ حفل موسيقيّ تحديداً، ولكنّني أذكر أنّ هؤلاء الثلاثة كانوا قد جاؤوا إلى المسرح لحضور حفل موسيقيّ. 

لججتُ على مسؤول المراسم كثيراً لألتقي بالسيّد رئيس الوزراء، لكنّني مهما أصرَرْت لم يقبل. وفجأة خطر ببالي أن أقول إنّني أرمنيّ، لعلّ الأمور تتحلحل. “سيّد سينائي أنا أرمنيّ، والظاهر أنّك لا تعرف مدى اهتمام رئيس الوزراء بالأرمن”، اختلقت كلامي! فهويدا لم يكن يهتمّ من بين جميع الفرق والتيّارات والمذاهب والفئات إلاّ بالبهائيّين. ظنّ سينائي مسؤول المراسم أنّني صادق فيما أقول وأنّ هويدا مهتمّ بالأرمن بشكل جدّيّ. واتفقنا على أن أنتظر في زاوية، فإذا ما تمّت مراسم الحفل يُشير لي سينائي لأتوجّه إلى هويدا وأُعبّر له عن مودّتي وإخلاصي.
انتهت المراسم. وفيما انشغل الجميع بالتعبير عن ابتهاجهم وسرورهم ذهب سينائي إلى هويدا وأخبره بالأمر. رحّب هويدا بسرور! فأشار إليّ سينائي أن أتقدّم. ذهبت. ومن دون أن أُلقي السلام، مدّ هويدا يده ليُصافحني. رأيتُ أنّه من سوء الأدب أن لا أردّ مصافحته. مددت يدي للمصافحة وضغطت قليلاً على يده. ثم حدّقت في عينَيْه وقلتُ:
– “أنا وبالنيابة عن جميع الأرمن أطلب منك أن تُحسن معاملتك مع الشعب وأن تسمع صوتهم. انزع قفازك الحديدي من يدك واهتم بمطالب الشعب. لن تصل بحكومة الشرطة وحكومة الرعب وحكومة التعذيب إلى تحقيق أيّ هدف، وسيأتي يوم تدفع فيه ملايين الدولارات لتُنقذ نفسك، ولكنّك لن تُوفّق لذلك! كن مستعداً لذلك اليوم”!. 
وحتى يُظهر أنّه متنوّر ويتقبّل الرأي المخالف، وقف وأنصت إلى كلامي. لكن عندما أنهيت كلامي سحب يده من يدي وقال: “خسارة أنّك أرمني! ولو لم تكن لرأيت أيّ مصيبة سوداء كُنتُ جعلتهم يُنزلون على رأسك هنا فتعرف من يحكم هذا البلد!
 
 
 
207

172

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 ثم نظر إلى سينائي وقال: “اسحبوه من ذنبه وارموه خارجاً”!

لماذا أنا الأرمنيّ مخالفٌ لنظام الشاه؟ لألف سبب وسبب. في الأساس، المواجهة مع الشاه ليس فيها أرمنيّ وغير أرمنيّ. مثلاً قولوا لي هل ترتبط أهمية استقلال البلد بمذهب الناس ودينهم؟ أحد تلك الأسباب الألف للنضال ضدّ الشاه هي مسألة استقلال البلد نفسها. كان الشاه قد صار مطيّةً للبريطانيين وعبداً للأمريكيين. كان قد صار وبشكل رسمي لعبة تُحرّكها يد الأجانب! وكان الشاه ولسوء الحظ يؤمن بهذه التبعية بكلّ وجوده. أنتم بالتأكيد قد قرأتم التاريخ. لقد أتى الأجانب بمحمد رضا بهلوي إلى الحكم، مرّة فعلها البريطانيون تلبية لرغبة رضا خان ومرّة الأمريكيون في أحداث انقلاب التاسع عشر من آب. ولهذا السبب، كان الشاه يعتبر نفسه مَديناً للأجانب ومكلّفاً بإطاعتهم. تخيّلوا كيف أنّ هذا الشخص يقتل تحت التعذيب كلّ هؤلاء الشباب الذين هم بعمر الورود حتى لا يتهدّد أمن الأجانب!
لقد كان وضع البلد مؤسفاً إلى هذا الحدّ الذي صارت فيه قيمة مَلِكه مساوية لكلب أمريكي. لا أعلم إنْ كُنتم قد سمعتم خطاب الإمام الخميني حول اتفاقية حصانة الأجانب (الکاپيتولاسيون)؟! لقد سمعتُ هذا الخطاب أيّام النضال إلى درجةٍ أنّني حفظت معظم فقراته عن ظهر قلب: “لو أنّ خادماً أمريكياً أو طبّاخاً أمريكياً اغتال مرجعكم في وسط السوق، فإنّ المحاكم الإيرانيّة لا حقّ لها في محاكمته، أمّا لو دهس شاه إيران كلباً أمريكياً فإنّه سيُستجوب ويُحقّق معه فوراً!”.
لو أردتُ أن أُخبركم عن مفاسد النظام البهلوي لاستطردتُ وانحرفتُ عن موضوع البحث. لديّ كلام كثير في هذا المضمار، لو أكتبه فسيملأ سبعين مجلّداً! أيّ أعمال لم يقم بها الشاه في ذلك الزمان كي يستميل الشباب ويُبقيهم بعيدين عن السياسة: بدءاً من تأسيس المقاهي والملاهي الليلّية والنوادي ومراكز الفساد وبيوت القمار والخمّارات، إلى صفوف تعليم الرقص المختلط وآلاف المصائب والسموم!.
فلندع ذلك الآن! ذلك اليوم، رموني خارج مسرح وحدت. وانقضى الأمر! بالنسبة إليّ، كان واضحاً كضوء الشمس أنّ أمثال هويدا سيؤولون إلى مثل هذه الحال. لقد حفظتُ تاريخ الثورة الفرنسيّة، ودرست انتفاضة سبارتكوس وكلّ ثورات العالم ضدّ الظلم والجور.
في الأيّام الأولى بعد الثورة، عندما سمعتُ أنّ هويدا قابع في سجن آفين. ذهبت إلى الحاج محمود طالقاني وطلبت منه أن يكتب لي تصريحاً يُمكنني من لقاء هويدا. كتب وذهبت. ناديته في زنزانته، فجاء قبالتي. قلتُ له: هل تعرفني؟ أنا ذلك الشاب الأرمنيّ نفسه الذي قُلتَ له في مسرح وحدت ذلك اليوم: “خسارة أنّك أرمني”! ألم أقل لك إنّك ستُنفق ملايين الدولارات يوماً ما لتُنقذ نفسك ولن تستطيع؟!.
 
 
 
208

173

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 آه، صحيح. تسألون من أين لي أن أعرف السيّد محمود طالقاني؟ حسناً، أنا من مناضلي الصفّ الأول! ليس فقط طالقاني، لقد كُنتُ أعرف باهنر ومفتّح ورفسنجاني وبازركان وسعيدي وغفّاري وربّاني الشيرازي وخلخالي و… والجميع، من كلّ فرقة وتيّار. كُنتُ مع جميعهم في وقتٍ ما رفيق أسر. لقد اعتُقلتُ ثماني مرّات. وكُنتُ قد انتخبت لنفسي اسماً مستعاراً حتى لا يعرف أحدٌ أنّني أرمني. استبدلتُ نوريك ديركوركيان باسم نور الله ثابت إيماني!

هل أُحدّثكم عن السيّد الخامنئي. ورغم أنّه كان في مشهد إجمالاً لكن جرت حادثة جعلتني أتعرّف إليه هو أيضاً. لقد رافقته مدّةً في الأسر في سجن قزل قلعه في طهران. ما زلت أذكر، كان قد استغرب كثيراً كوني أنا الأرمنيّ محبّاً للأدب الفارسي. في الواقع هو نفسه كان محبّاً جدًّا للأدب والشعر وأمثال هذه الأمور، لا أعلم إن كُنتم على اطّلاع أم لا! وأنا أيضاً، كُنتُ محبّاً للأدب إلى درجة أنّني كُنتُ متيّماً بمنصور الحلّاج، وعاشقاً لـ “إيرج ميرزا”. لا تسيئوا الظنّ بي لحبّي لإيرج ميرزا. فقد تعلّقت به لأنّه في عين كونه أميراً كان صاحب خطٍّ فكريٍّ خاص. لم يكن نديماً للأرستقراطيين، وكان يخجل أن يقول إنّه أرستقراطي. كان يُعجبني لهذا السبب، لا بسبب أراجيفه وشطحاته اللّاذعة التي اشتُهر بها! كان ديوان شمس بحوزتي دائماً وكُنتُ أقرأ فيه. أحد التذكارات الوحيدة التي أحملها من فترة النضال هو ديوان شمس الذي ما زال معي إلى الآن.
لقد استغرب السيّد الخامنئي كثيراً كوني محبّاً للأدب. ومن الخصوصيّات الأخلاقيّة البارزة للسيّد الخامنئي في السجن التي لفتت نظري كثيراً، هي سلوكه الموحّد مع الجميع في السجن. 
لم يكن يهتمّ أنّ هذا يساري وهذا يميني. لقد كان جوّ السجنّ قمعيّاً بحيث إنّه كان يستلزم اتحاداً ما في المقابل، وكان هو محور ذلك الاتحاد دوماً. لم يكن يسمح
 
 
 
 
209

174

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 للاختلاف بين التيّارات السياسية المختلفة أن يتجذّر. 

لقد رأيتُ الإمام الخميني أيضاً مرّة عن قرب. في النهاية، لم يكن هناك شخص في خطّ المقاومة لا يتمنّى أن يرى الإمام، حتى أنا الأرمنيّ. كان ذلك في سنة تسعة وسبعين في الأيام التي سبقت العيد، وكان الإمام قد استقرّ في المدرسة العلوية. تمنّيتُ على أحد الإخوة أن أرى سماحته. قُلتُ له: إن لم يكن الأمر ممكناً عن قرب، أقلّه أراه من مسافة غير بعيدة. لمّا رأيته ارتجف كلّ جسمي من هيبته. لم أكن أبداً قد رأيتُ أيّ إنسان في حياتي بمثل مهابة الإمام الخميني.
كان معي أيضاً مصحف شريف باللغة الأرمنية! طباعة 1909 ميلاديًّا. ولا زال معي إلى الآن. كان هذا القرآن رفيقي دوماً، وكُنتُ أدرسه حتّى أفهم دين الإسلام بشكل أفضل. بعد الثورة ظنّ أصدقائي أنّني صرت مسلماً حتى عقدت قراني عند الأسقف مانوكيان في كنيسة كريم خان. عندما أخبرتهم عن المصحف لم يُصدّقوا بوجود نسخة من القرآن الكريم باللّغة الأرمنيّة. كانوا يقولون ليس أنّنا لم نرَ مصحفاً باللغة الأرمنية من قبل، بل إنّنا لم نسمع حتى بوجود نسخة مترجمة بالكامل.
عندما استشهد جوزيف أخو زوجتي في الجبهة نقلوا خبر شهادته لي أولاً قبل الجميع. قالوا في بادئ الأمر إنّه مصاب، وطلبوا منّي أن أذهب للقائه في مستشفى في الأهواز.
 
 
 
 
210

175

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 كُنتُ قد هيّأتُ مقدّمات السفر إلى الأهواز وصرتُ جاهزاً للانطلاق حين اتصلوا بي وقالوا إنّهم أحضروه إلى طهران، إلى معراج الشهداء1. ظننتُ أنّ معراج الشهداء هو اسم مستشفى، أخذتُ العنوان واشتريتُ باقة ورد وبعض الحلوى ومعلّبات الفاكهة استعداداً للقاء. لكن ما إن وصلتُ طالعني برّاد حفظ الموتى، وعلمتُ أنّه قد استشهد. 

كان لافتاً بالنسبة إليّ تاريخ شهادة جوزيف. لقد استشهد في اليوم السادس عشر من أيلول، وهو تاريخ زواجي من أخته، وأيضاً تاريخ وفاة أحد إخوتي. كان جوزيف من لاعبي كرة القدم المحترفين، وكان يلعب في فريق “مسيس”. لقد نال شهادة دبلوم مهني في الميكانيك. وكان متخصّصاً في إصلاح آلات النسيج، ولم يكن في كلّ إيران إلا قلّة فقط لديهم هذا الاختصاص.
وماذا أقول عن اللقاء؟!
حسناً. كان اللّقاء سنة خمسة وثمانين. في ذلك الوقت كان رئيساً للجمهوريّة، اتصل بي والد زوجتي يومها وقال إنّ لدينا ضيوفاً الليلة، تعال إلى منزلنا. والد ووالدة زوجتي لا يستطيعان التحدّث بطلاقة باللّغة الفارسيّة، وكلّما أتاهم ضيف غير أرمنيّ، يطلبان منّي المجيء، لأنّني متمكّن من الفارسية أكثر من الأرمنية!
ذهبتُ إلى منزلهم عصراً. في البداية جاء شخصان أو ثلاثة، محمّلين بالورد والحلوى ثمّ راحوا يتحقّقون من المسائل الأمنيّة. في النهاية ونتيجة تجاربي السابقة في حرب العصابات، فهمت سريعاً ماذا كان يجري. كنتُ متأكّداً أنّ أحد المسؤولين ذوي المناصب العليا سيأتي. من جهة أخرى، كُنتُ قد سمعتُ من أصدقائي الأرمن أنّ السيّد الخامنئي قد زار بيوت بعض الشهداء الأرمن. تحاذقت وقُلتُ لأحد هؤلاء السادة، وكان واضحاً أنّه مسؤولهم: جنابكم! هل المقرّر أن يأتي رئيس الجمهورية؟ انتفض من مكانه. لقد فزع من كيفية معرفتي ومن انكشاف الأمر. قُلتُ: لا تقلق! أنا سأبقى جالساً ههنا، لن أتكلّم مع أحد ولن أتصل بأحد ولن أقوم بأيّ عمل. سنجلس بانتظار تشريف سماحته!
 

1- معراج الشهداء هو مكان للحفظ المؤقّت لأجساد الشهداء المطهّرة في المدن ومن جملتها طهران. تُنقل الأجساد من مناطق الجبهة المختلفة إلى هذا المكان حتى تأتي عوائل الشهداء وتتعرّف على أجساد أبنائها وتشرع في مقدّمات الدفن.
 
 
211

176

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 ذهبتُ بعد ذلك إلى عمّي وزوجته وأخبرتهما بالأمر. لم يُصدّقا، خاصّة والد زوجتي الّذي كان يُحبّ السيّد الخامنئي كثيراً. نبّهتُ عمّي إلى مسألة إصابة اليد اليمنى للسيّد الخامنئي حتى لا يغلبه الشوق فيضغط عليها بشدّة عند مصافحته!

عندما حضر سماحته جلسنا جميعنا حول طاولة الطعام، تماماً كمثل أعضاء الأسرة الواحدة. كانت جلسة في غاية القرب والحميميّة.
في ذلك اليوم كُنتُ قد ارتديتُ ملابس من الشاموا الأحمر والأسود، وكان “السيّد” قد ارتدى جبّةً رمادية وعباءة سوداء، كان أنيقاً! أذكر في السجن أيضاً حينما كُنّا نراه أنه كان دائماً نظيف الهندام ومرتّباً. 
بعد السلام والسؤال عن الأحوال، تلاقت نظرتانا. وكأنّما كان يريد أن يتذكّرني لكنّ ذاكرته لم تُسعفه. قُلتُ عساه يتذكّر:
– سيّد، هل تذكر سجن قزل قلعه في طهران، سنة ثلاث وستين أو أربع وستين، داخل الباحة، بعد ظهر تلك الأيام، تحت شجرة الصفصاف تلك حيث كُنتَ تأتي لتسألني عن اللّغة الإنكليزيّة؟! أنا نوريك! نوريك الأرمنيّ! نور الله!
لقد تذكّر، قام من مكانه ليُحيّيني مجدّداً. توجّهت أنا إليه فاحتضنني كمثل صديق قديم.
كُنتُ في ذلك اللّقاء ألعب دور المترجم. والد زوجتي ووالدتها يفهمان اللّغة الفارسيّة
 
 
 
 
 
212

177

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 بالطبع، لكنّهما لا يستطيعان التحدّث براحة وطلاقة. كُنتُ أُترجم للسيّد كلامهم. وبالتأكيد فإنّ أوّل ما قاله السيّد الخامنئي لعمّي وزوجته هو ضرورة أن يسعيا للتحدّث أكثر باللّغة الفارسيّة حتى تصير سهلة يسيرة عليهما.

في بداية اللقاء طلب السيّد الخامنئي صورة جوزيف، وراح يتأمّل في صوره. كان ينظر بدقّة متناهية إلى وجه الشهيد وكأنّه يرى في ذلك الوجه شيئاً لم نكن نحن نراه.
ثم سأل والداه عنه. تحدّثتْ أمّ الشهيد عن ابنها الكبير جوزيف:
– كُنتُ عاملة في مدرسة. وكلّما كنتُ أعود من عملي إلى المنزل، أرى أنّ كلّ أعمال المنزل قد أُنجزت ولم يبقَ شيء لأقوم به. كان جوزيف يُنجز كلّ الأعمال، حتّى أعمال الخياطة كان يُنجزها هذا الصبي. لا أذكر أصلاً أنّه قد خاصم أحداً يوماً ما. كان إلى هذه الدرجة لطيفاً ومحبّاً. أخوه جريك مشلولٌ من ناحية القدمَيْن. كان جوزيف يقوم بكلّ ما يحتاجه جريك من رعاية واهتمام. عندما أراد الذهاب إلى الجبهة أوّل مرّة، استيقظ في الصباح الباكر ولم يوقظ أحداً منّا. لم يكن يريد أن نتأثّر عند وداعه. 
سأل “السيّد” عن كيفية معرفة الأم بشهادة ابنها فنقلت له مناماً كانت رأته قبل شهادته:
– قبل عدّة ليالٍ من ذهابنا إلى “معراج الشهداء” ومعرفتنا باستشهاده، رأيتُ في المنام أنّ شخصاً يُريد أن يدخل منزلنا بالقوّة. تصدّيتُ له ومنعته. لكنّ ذلك الشخص نفسه
 
 
 
213

178

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 ذهب وأحضر خشبة طويلة جدّاً، وبتلك الخشبة ضرب مصباح بيتنا وأطفأه. وفي الواقع، بعد جوزيف أُطفئ مصباح بيتنا.

دعا السيّد الخامنئي لوالدة الشهيد كثيراً. وسأل الله أن يُسكّن قلبها ويُسعده دوماً. ثمّ توجّه بالحديث إلى والد جوزيف وصار يسأله عن ولده الشهيد.
– كان الأول في الرماية دائماً. كان رامياً ماهراً بامتياز، لو لم يستشهد في القصف لكان بعيداً جدّاً أن يُستشهد في هجوم وأمثاله. كثير من رفقائه وقادته كانوا يقولون إنّ هذا الصبي رامٍ محترف. لم تكن رمياته لتُخطئ أبداً. كانت دوماً تستقرّ في الهدف تماماً. آخر مرّة أتى فيها خلال مأذونيّة، كان يُردّد أنّه يُحبّ أن يصير شهيدَاً. قلتُ له: “ما هذا الكلام؟” قال: “أبتاه! أنا جنديّ الإمام الخمينيّ! واحد من جيش العشرين مليونًا الذي تحدّث عنه الإمام”. ذهب ولم يعد.
وأنا أيضاً حدّثتُ السيّد الخامنئي عن تشييع جثمان جوزيف:
– كانت أيام عاشوراء. لقد أُقيم له تشييعٌ حاشدٌ لا تُرى له بداية ولا نهاية. كان الجميع يرتدون ثياباً سوداء، وراحوا تحت تابوت جوزيف يلطمون صدورهم ورؤوسهم ويبكون مردّدين حسين، حسين. لقد تحوّلت الجنازة إلى ثورة يا سيّد! صدّق أنّ الأرض كانت تهتزّ تحت أقدامنا. 
سأل “السيّد” أيضاً عن أحوال جريك، عن سبب مرضه وتحوّله إلى الكرسي المتحرّك. وجريك أيضاً تحدّث عن أخيه، وأخبر “السيّد” بمناماته أيضاً:
– كان لطيفاً جدّاً، في غاية اللّطف. أنا أُحبّ كرة القدم كثيراً، ولكن بسبب ما أُعانيه من شلل في قدمَيَّ، لا أستطيع الوقوف فكيف باللّعب. لقد اشترى جوزيف لأجلي مرمى أهداف صغير، وكُنّا نلعب معاً داخل المنزل كرة القدم من جلوس. بعد شهادته، كنتُ أرى جوزيف دائماً في المنام. وفي آخر مرّة، منذ عدّة أيّام سبقت، رأيتُه في المنام جالساً في مكان جميل جدّاً، كثيف الخضرة وكثير الورود، شعرت بالغيرة والحزن! وعندما رأى حزني طلب منّي أن لا أقلق، وأخبرني أنّه سيأتي ليأخذني إليه. 
في ذلك الوقت لم يكن وضع منزل عائلة الشهيد جيّداً، كان طابقاً سفلّياً يُشبه القبو. وكان مستأجراً أيضاً. عندما سأل “السيّد” عن أوضاع المنزل وأوضحتُ له أنّ البيت
 
 
 
 
214

179

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 مستأجرٌ، طالب مكتب العلاقات العامّة بالمتابعة لمساعدة والد الشهيد في تأمين منزل صغير مناسب في نفس محلّ إقامتهم. 

عند انتهاء اللقاء ودّع “السيّد” جريك قبل الجميع وبتودّد استثنائي، ثمّ أهدى والد الشهيد جوزيف ووالدته مسكوكتَيْن ذهبيتَيْن وختم بالسلام وذهب!
أجل، ما زلتُ أذكر هذه الأمور. غداة تلك اللّيلة، عندما أخبرنا الجيران وأهل المحلّة عن زيارة رئيس الجمهوريّة إلى منزلنا، تقريباً لم يُصدّق أحد! والحقّ معهم في الواقع. فليس مبالغة أن نقول إنّ “السيّد” الخامنئي كان أهمّ وأرفع شخصيّة في البلاد بعد الإمام الخميني. بعد عدّة أيام حينما أرسلوا لنا صور اللّقاء، أطلعناهم على الصور. كان صعباً بالنسبة إليهم أيضاً أن يُصدّقوا أنّ “السيّد” قد جاء إلى منزلنا من دون أيّ مراسم.
***
أحمد اللّه، والد الشهيد ووالدته بخير. بالطبع يُعانيان من بعض الأمراض لكنّ أحوالهما جيّدة. في السنوات الّتي تلت ذلك اللقاء أجرت مجموعة من النشرات والمجلّات المختلفة مقابلات مع والدَيّ الشهيد عدّة مرّات، وكلّما كان يأتي ذكر لقاء السيّد الخامنئي في
 
 
 
 
215

180

الرواية الحادية عشرة: جنديّ الإمام الخمينيّ

 منزلهما كان والدا جوزيف يقولان: إنّه خلّد بحضوره ليلةً لا تُنسى في حياتنا، إلى درجة أنّنا حتى اليوم نستأنس بتذكّر بهجة وسرور ذلك اللقاء.

والدا الشهيد شاهينيان
السيّد نوريك ديركوركيان، صهر عائلة الشهيد شاهينيان 06/2014م.
 
 
 
 
216

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...