الدرس الثامن: تفسير سورة القدر
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾
تعريف بالسورة ومحاورها
اسم السورة مأخوذ من ليلة القدر التي نزل فيها القرآن الكريم, وفق ما ورد في الآية الأولى منها.
وتتضمّن هذه السورة 5 آيات تحوي مجموعة من المحاور التي تدور مدار بيان أهمّيّة ليلة القدر وفضلها وبركاتها، وأهمّيّة ما نزل فيها، وفق الآتي:
1- نزول القرآن الكريم دفعة واحدة في ليلة القدر.
2- عظمة شأن ليلة القدر.
3- عظمة شأن ما نزل في ليلة القدر.
4- آثار ليلة القدر وبركاتها.
5- استمرار نزول الفيض الإلهيّ في ليلة القدر.
فضيلة السورة
- ما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “من قرأها أُعطِيَ من الأجر, كمن صام رمضان، وأحيا ليلة القدر”[1].
- ما رواه الحسين بن أبي العلاء، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام: “من قرأ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ في فريضة من الفرائض، نادى مناد: يا عبد الله! قد غُفِرَ لك ما مضى، فاستأنف العمل”[2].
- ما رواه سيف بن عميرة، عن رجل، عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه السلام: “مَنْ قرأ ﴿إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ﴾ بجهر, كان كشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سرّاً, كان كالمتشحّط بدمه في سبيل الله، ومن قرأها عشر مرّات, مرّت على نحو ألف ذنب من ذنوبه”[3].
خصائص النزول
المشهور بين المفسِّرين أنّ هذه السورة مكّيّة، واحتمل بعضهم أنّها مدنيّة, لما روي أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (في منامه) بني أميّة على منبره[4]، فساءه ذلك، فأوحى الله إليه، إنّما هو مُلك يُصيبونه، ونزلت: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (قيل: إنّ المراد بألف شهر في السورة هي مدّة حكم بني أميّة)[5].
لكن المشهور أنّ هذه السورة مكّيّة، وقد تكون الرواية من قبيل التطبيق، لا سبباً للنزول.
شرح المفردات
- القدر: “القاف والدال والراء أصل صحيح يدلّ على مبلغ الشيء وكنهه ونهايته”[6].
- الفجر: “الفاء والجيم والراء أصل واحد وهو التفتّح في الشيء, من ذلك الفجر, انفجار الظلمة عن الصبح”[7].
تفسير الآيات
الآية (1): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾:
مرجع ضمير ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾ هو للقرآن الكريم[8], وظاهره جملة الكتاب العزيز، لا بعض آياته. ويؤيّد ذلك: التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة، دون التنزيل, الظاهر في التدريج. وفي معنى الآية المبحوثة, قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾[9]. وظاهره القسم بجملة الكتاب المبين، ثمّ الإخبار عن إنزال ما أُقسِم به جملة واحدة. فمدلول الآيات: أنّ للقرآن نزولاً جمليّاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، غير نزوله التدريجيّ, الذي تمّ في مدّة ثلاث وعشرين سنة, كما يشير إليه قوله: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾[10]، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾[11]. فلا يُعبأ بما قيل: إنّ معنى قوله: ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾: ابتدأنا بإنزاله, والمراد إنزال بعض القرآن.
وليس في كلامه تعالى ما يُحدّد خصوص هذه الليلة, غير ما في قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾[12], فإنّ الآية، بانضمامها إلى آية سورة القدر, تدلّ على أنّ هذه الليلة من ليالي شهر رمضان[13]. وأمّا تعيينها أزيد من ذلك، فمستفاد من الأخبار، ومنها:
– ما رواه حمّاد بن عثمان، عن حسان بن أبي علي، قال: سألت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام عن ليلة القدر، قال: “اطلبها في تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين”[14].
– ما رواه عبد الله بن بكير، عن زرارة، عن أحدهما (الباقر والصادق) عليهما السلام، قال: سألته عن الليالي التي يُستحبّ فيها الغسل في شهر رمضان؟ فقال: “ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين. ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني (اسم الجهني: عبد الله بن أنيس الأنصاريّ)، وحديثه أنّه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها, فأمره بليلة ثلاث وعشرين”[15].
– ما رواه الكليني، بإسناده عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن ابن بكير، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (الصادق) عليه السلام: “التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين”[16].
وقد ذكر المفسِّرون معانٍ عدّة للقدر، أبرزها:
- أنّ القدر, بمعنى المنزلة، وإنّما سُمّيت ليلة القدر, للاهتمام بمنزلتها، أو منزلة المتعبّدين فيها.
- أنّ القدر, بمعنى الضيق. وسمّيت ليلة القدر, لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة.
- أنّ القدر, بمعنى التقدير, فهي ليلة التقدير, يُقدِّر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها, من قابل, من حياة، وموت، ورزق، وسعادة، وشقاء، وغير ذلك, كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الدخان في صفة هذه الليلة:
- ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[17], فليس فرق الأمر الحكيم, إلا إحكام الحادثة الواقعة, بخصوصيّاتها, بالتقدير. وهذا ما يُفيده ظهور الآيات المتقدّمة في أنّ المراد بالقدر خصوص التقدير، لا الضيق، ولا المنزلة.
ويُستفاد من هذه الآيات أنّ الليلة متكرّرة بتكرّر السنين, ففي شهر رمضان من كلّ سنة قمريّة ليلة تُقدَّر فيها أمور السنة, من الليلة إلى مثلها, من قابل, إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تُقدَّر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها والتي بعدها, وإنْ صحّ فرض ليلة واحدة من ليالي القدر المتكرّرة ينزل فيها القرآن جملة واحدة. على أنّ قوله تعالى: ﴿يُفْرَقُ﴾ – وهو فعل مضارع – ظاهر في الاستمرار، وقوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ﴾, تؤيّد ذلك.
وقد روي عن أبي ذر (رضي الله عنه) أنّه قال: قلت يا رسول الله! ليلة القدر هي شيء تكون على عهد الأنبياء، ينزل فيها، فإذا قبضوا رفعت. قال: “لا، بل هي إلى يوم القيامة”[18].
وعليه، فلا وجه لما سيق من أقوال أخرى في هذا الصدد, من:
- أنّها كانت ليلة واحدة بعينها، نزل فيها القرآن من غير أن يتكرّر.
- أنّها كانت تتكرّر بتكرّر السنين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ رفعها الله.
- أنّها واحدة بعينها في جميع السنة.
- أنّها في جميع السنة غير أنّها تتبدّل, بتكرّر السنين, فسنة في شهر رمضان، وسنة في شعبان، وسنة في غيرهما.
فمحصّل الآيات: أنّها ليلة بعينها من شهر رمضان، من كلّ سنة، فيها إحكام الأمور بحسب التقدير، ولا ينافي ذلك وقوع التغيّر فيها, بحسب التحقّق في ظرف السنة, فإنّ التغيّر في كيفية تحقّق المقدّر أمر، والتغيّر في التقدير أمر آخر, كما أنّ إمكان التغيّر في الحوادث الكونيّة بحسب المشيئة الإلهيّة لا ينافي تعيّنها في اللوح المحفوظ، قال تعالى: ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾[19].[20]
الآية (2): ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾:
بيان جلالة قدر الليلة وعِظَم منزلتها. ويؤكّد ذلك: إظهار الاسم مرّة بعد مرّة, حيث قيل: ﴿مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ …﴾[21].
ويؤيّد ذلك ما روي من أنّ الله يُقدّر فيها الآجال والأرزاق، وكلّ أمر يحدث, من موت، أو حياة، أو خصب، أو جدب، أو خير، أو شرّ, كما قال الله فيها: يفرق كلّ أمر حكيم إلى سنّة[22].
الآية (3): ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾[23]:
بيان إجمالي لما أشير إليه بقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾, من فخامة أمر الليلة. والمراد بكونها خيراً من ألف شهر, خيريّتها منها, من حيث فضيلة العبادة, وهو المناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس إلى الله, فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة ألف شهر، ويمكن أن يُستفاد ذلك من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾[24].[25]
وروي أنّه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نومه, كأنّ قروداً تصعد منبره, فغمّه ذلك, فأنزل الله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ تملكه بنو أميّة، ليس فيها ليلة قدر[26]. وهذه الرواية واردة مورد التفسير بالتطبيق.
الآية (4): ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾:
تنزّل, أصله تتنزّل, فحذفت إحداهما للتخفيف، وهي من باب التفعّل. وباب التفعّل, للدلالة على التدريج. فعلى هذا معنى تنزّل الملائكة هو: النزول فوجاً بعد فوج. وما يستفاد من موارد استعماله أنّه للاستمرار، وأمّا التدريج فإنّه ربّما يلازم الاستمرار. فعلى هذا تفيد ﴿تَنَزَّلُ﴾ معنى الاستمرار، وأنّ نزول الملائكة مستمرّ في كلّ سنة, كما أنّ ليلة القدر في كلّ سنة.
روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكّان سدرة المنتهى, ومنهم جبرائيل، فينزل جبرائيل عليه السلام ومعه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء في المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا يدع فيها مؤمناً، ولا مؤمنة, إلا سلّم عليه, إلا مدمن الخمر، وآكل لحم الخنزير، والمتضمخ[27] بالزعفران”[28].
وروي أنّه قيل للإمام أبي جعفر (الباقر) عليه السلام: تعرفون ليلة القدر؟ فقال: “وكيف لا نعرف ليلة القدر! والملائكة يطوفون بنا فيها!”[29].
والظاهر من ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ هو الروح الذي من الأمر، قال تعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[30].
والإذن في الشيء: الرخصة فيه, وهو إعلام عدم المانع منه.
و “مِنْ” في قوله: ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾, قيل فيها معانٍ:
– أنّها بمعنى الباء.
– أنّها لابتداء الغاية، وتفيد السببيّة, أي بسبب كلّ أمر إلهيّ.
– أنّها للتعليل بالغاية, أي لأجل تدبير كلّ أمر من الأمور.
والحقّ أنّ المراد بالأمر:
– إنْ كان هو الأمر الإلهيّ المفسّر بقوله ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾[31], فـ “من” للابتداء، وتفيد السببيّة, ومعنى الآية: تتنزّل الملائكة والروح في
ليلة القدر بإذن ربّهم, مبتدء تنزّلهم صادراً من كلّ أمر إلهيّ.
– وإنْ كان هو الأمر من الأمور الكونيّة والحوادث الواقعة, فـ “من”, بمعنى اللام التعليلية, ومعنى الآية: تتنزّل الملائكة والروح في الليلة بإذن ربّهم, لأجل تدبير كلّ أمر من الأمور الكونيّة[32].
الآية (5): ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾:
المراد: أنّ هذه الليلة سلامة، حيث قُدِّم الخبر, ليفيد الحصر, أيّ: ما هي إلّا سلامة، وكلّ ما ينزل في هذه الليلة, إنّما هو سلامة ونفع وخير. والليلة ليست السلامة نفسها، وإنّما هي ظرف لها، ومع ذلك وُصِفَت بالسلامة, للمبالغة في اشتمالها عليها.
وقيل: ما هي إلّا سلام, لكثرة ما يُسلّمون فيها على المؤمنين. وهذا السلام مستمرّ، أو هذه السلامة مستمرّة إلى أن يطلع الفجر. أو أنّ “حَتَّى” متعلّقة بتنزّل, أي تنزّل الملائكة والروح, حتّى مطلع الفجر.
وقيل: إنّها تحيّة يُحيّى بها الإمام عليه السلام إلى أنْ يطلع الفجر[33].
وعلى أيّ من المعاني المتقدّمة، ففي الآية إشارة إلى العناية الإلهيّة بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه، وسدّ باب نقمة جديدة تختصّ بالليلة، ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين[34].
بحث تفسيري: حقيقة القرآن[35]
إنّ كون القرآن ذو حقيقة محكمة عالية وراء كونه مفصّلاً بثوب الألفاظ، هو اللائح من الآيات الكريمة, ومنها:
1- قوله تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾[36]، فإنّ هذا الإحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلاً فصلاً وقطعة قطعة، فالإحكام
كونه بحيث لا يتفصّل فيه جزء من جزء ولا يتميّز بعض من بعض, لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأنّ هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنّما طرء عليه بعد كونه محكماً غير مفصّل.
2- قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾[37]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ … بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾[38]، فإنّ الآيات الشريفة، وبخاصّة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على أنّ التفصيل أمر طار على الكتاب, فالكتاب نفسه شيء، والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر. وإنّهم إنّما كذّبوا بالتفصيل من الكتاب, لكونهم ناسين لشيء يؤول إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة. وفي الآية إشعار بأنّ أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.
3- قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾[39]، فإنّه ظاهر في أنّ هناك كتاباً مبيناً عَرَضَ عليه جعله مقرؤاً عربياً، وإنّما أُلبِسَ لباس القراءة والعربية ليعقله الناس، وإلا فإنّه – وهو في أم الكتاب – عند الله، علي, لا يصعد إليه العقول، حكيم, لا يوجد فيه تفصيل. وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنّه أصل القرآن العربي المبين.
4- قوله تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾[40]، فإنّه ظاهر في أنّ للقرآن موقعاً هو في الكتاب المكنون لا يمسّه هناك أحد إلا المطهّرون من عباد الله، وإنّ التنزيل بعده، وأمّا قبل التنزيل فله موقع في
كتاب مكنون عن الأغيار, وهو الذي عُبِّر عنه في آيات الزخرف بـ “أمّ الكتاب”، وفي سورة البروج بـ “اللوح المحفوظ”، حيث قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾[41]،[42] وهذا اللوح إنّما كان محفوظاً, لحفظه من ورود التغيّر عليه، ومن المعلوم أنّ القرآن المنزل تدريجياً لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ، وعن التدريج الذي هو نحو من التبدّل، فالكتاب المبين الذي هو أصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنّما هذا بمنزله اللباس لذاك.
وبالجملة، فإنّ المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريجيّاً متّكئاً على حقيقة متعالية عن أن تُدركها أبصار عقول العامّة أو تتناولها أيدي الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة أُنزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنزالاً، فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه.
الأفكار الرئيسة
1- هذه السورة مكّيّة, تتضمّن 5 آيات، وتحوي مجموعة من المحاور: نزول القرآن الكريم/ ليلة القدر/ نزول الفيض الإلهيّ/ …
2- ورد في فضل قراءة هذه السورة المباركة والعمل بها ثواب كثير.
3- في تفسير السورة: إنّا أنزلنا القرآن نزولاً إجماليّاً دفعياً على قلبك يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة القدر, وهي ليلة مباركة من شهر رمضان، وهذا النزول هو غير تنزيله تدريجيّاً على قلبك طيلة مدّة بعثتك الشريفة, ففي هذه الليلة تُقدّر الأمور للسنة اللاحقة, من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء، وتتنزّل الملائكة في هذه الليلة حتى مطلع الفجر, فمن أحياها بالعبادة والدعاء شملته العناية الإلهيّة. وهذه الليلة مستمرّة التنزّل في كلّ سنة.
4- إنّ المتدبّر في الآيات القرآنية لا يجد مناصاً عن الاعتراف بدلالتها على كون هذا القرآن المنزل على النبيصلى الله عليه وآله وسلم تدريجيّاً متّكئاً على حقيقة متعالية عن أن تُدركها أبصار عقول العامّة أو تتناولها أيدي الأفكار المتلوّثة بألواث الهوسات وقذارات المادّة، وأنّ تلك الحقيقة أُنزلت على النبيصلى الله عليه وآله وسلم إنزالاً، فعلّمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه.
فكّر وأجب
1- أَجِبْ بـ ü أو û:
– مَنْ قرأ هذه السورة, أُعطي من الأجر كمن صام شهر رمضان.
– هذه السورة مدنيّة على قول أغلب المفسِّرين.
– المراد بـ “خير من ألف شهر”: أنّ العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر.
2- أَجِبْ باختصار:
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾؟
—————————————————————-
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾؟
—————————————————————-
– بيّن معنى قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾؟
[1] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص403.
[2] م.ن.
[3] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص403.
[4] تجدر الإشارة إلى أنّ منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُقِيمَ في مسجد المدينة، لا في مكّة.
[5] السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص371.
[6] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج5، مادّة “قَدَرَ”، ص62. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “قَدَرَ”، ص685.
[7] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، م.س، ج4، مادّة “فَجَرَ”، ص475. وانظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، م.س، مادّة “فَجَرَ”، ص625-626.
[8] تَدَبُّر: إنّ ضمير الجمع في الآية للدلالة على التعظيم. والتعظيم تارة يُراد منه تعظيم المتكلّم, كما هو المتعارف في الخطابات، وأخرى يُراد منه تعظيم القرآن, ويؤيّد ذلك:
– أنّ الجملة ابتدأت بحرف التحقيق والتأكيد, فتشعر الأهمّيّة من الأوّل.
– أن الله تعالى أسند الإنزال إلى نفسه, ليفهم اختصاص هذا الكتاب بذاته المقدّسة.
– الإتيان بضمير الجمع مع أنّه واحد أحد, وذلك ليدلّ هذا على عظمة المُنْزَل. ومن المعلوم أنّ ما أنزله العظيم يكون عظيماً وذا أهمّيّة لا محالة, كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ (سورة الكوثر، الآية 1)، ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (سورة الشرح، الآية 1).
– استعمال الضمير مكان الاسم الظاهر، مع أنّه لم يسبق لفظ القرآن، بقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾, وهذا يعطي أنّ هذه الصحيفة السماوية في الشهرة والجلالة, بحيث يعرفها كلّ أحد، ويتذكّر به الجميع، وكلّ يعلم أنّ ما أنزله الله هو القرآن. فلا يحتاج إلى ذِكْر اسمه الظاهر, كما هو في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ (سورة الإخلاص، الآية 1), فإنّ مرجع ضمير “هو” ذاته المقدّسة, وذلك لكمال ظهوره وجلالته، فلا يحتاج إلى مرجع ظاهر في الكلام.
– أنّه قد أنزل في أفضل الأوقات وأحسنها, وهو ليلة القدر. فالإتيان بضمير الجمع للدلالة على الذات مع الصفات, ونكتة ذلك هي: تفخيم مقام الحقّ تعالى, بمبدئيّته تنزيل هذا الكتاب الشريف. ولعلّ هذه الجمعية باعتبار الجمعيّة الأسمائيّة، والإشارة إلى أنّ الحقّ تعالى مبدأ لهذا الكتاب الشريف لجميع الشؤون الأسمائيّة والصفاتيّة، ولهذه الجهة كان هذا الكتاب الشريف صورة أحديّة جمع جميع الأسماء والصفات، ومعرّفاً لمقام الحقّ المقدّس, بجميع الشؤون والتجلّيات.
[9] سورة الدخان، الآيتان 2 – 3.
[10] سورة الإسراء، الآية 106.
[11] سورة الفرقان، الآية 32.
[12] سورة البقرة، الآية 185.
[13] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص330-331.
[14] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص407.
[15] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، م.س، ج2، ح2031، ص161.
[16] الكليني، الكافي، م.س، ج4، من أبواب السفر، باب في ليلة القدر، ح9، ص159.
[17] سورة الدخان، الآيات 4 – 6.
[18] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص406.
[19] سورة الرعد، الآية 39.
[20] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص331-332.
[21] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
[22] القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
[23] سبب النزول:
– روي أنّه كان في بني إسرائيل رجل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فلم يضعه عنه، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، فعجبوا من قوله، فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾, يقول الله: ليلة القدر خير لكم من تلك الألف شهر التي لبس ذلك الرجل فيها السلاح في سبيل الله، فلم يضعه عنه. (ابن جبر، مجاهد: تفسير مجاهد، تحقيق: عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتي، لا.ط، إسلام آباد، مجمع البحوث الإسلامية، لا.ت، ج2، ص773).
– روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاماً لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك، فأتاه جبريل، فقال: “يا محمد! عجبت أمّتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة؟! فقد أنزل الله خيراً من ذلك، فقرأ عليه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾, هذا أفضل ممّا عجبت أنت وأمّتك”، فسرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس معه. (السيوطي، الدر المنثور، م.س، ج6، ص371).
[24] سورة الدخان، الآية 3.
[25] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
[26] القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
[27] التضمخ: التلطّخ بالطيب وغيره والإكثار منه.
[28] الطبرسي، مجمع البيان، م.س، ج10، ص408-409.
[29] القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431-432.
[30] سورة الإسراء، الآية 85.
[31] سورة يس، الآية 82.
[32] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص332.
[33] القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431.
[34] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج20، ص333.
تفسير بالمصداق: في الحديث, أنّها تحية يُحيّى بها الإمام إلى أنْ يطلع الفجر. (القمي، تفسير القمي، م.س، ج2، ص431).
[35] انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج2، ص16-19, ج18، ص83-84.
[36] سورة هود، الآية 1.
[37] سورة الأعراف، الآيتان 52 – 53.
[38] سورة يونس، الآيتان 37 – 39.
[39] سورة الزخرف، الآيات 2 – 4.
[40] سورة الواقعة، الآيات 75 – 80.
[41] سورة البروج: الآية 22.
[42] سورة البروج، الآيتان 21 – 22.