تفسير الميزان : السيد الطباطبائي
16 يوم مضت
القرآن الكريم
96 زيارة
جعل الاغماض عن الحق في مقابل الاغماض، وما ذا هو حقهم لو لم يجعل الله لهم حقا؟
وتسئله ان لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، ومن المحال ذلك، فالدار دار الامتحان والاستكمال وما معنى النجاة لولا الابتلاء والامتحان؟ ثم اقض العجب مما ذكره بعض المستشرقين (1) من علماء الغرب وتبعه بعض من المنتحلين: أن الاسلام لا يربو على غيره في المعارف، فان جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد وتصفية النفوس بالخلق الفاضل والعمل الصالح، وإنما تتفاضل الأديان في عراقة ثمراتها الاجتماعية!!
(بحث آخر روائي) في الفقيه وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: الصراط المستقيم أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي المعاني عن الصادق عليه السلام قال: هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فاما الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه في الآخرة فتردى في نار جهنم.
وفي المعاني أيضا عن السجاد عليه السلام قال: ليس بين الله وبين حجته حجاب، ولا لله دون حجته ستر، نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علمه، ونحن تراجمة وحيه ونحن أركان توحيده ونحن موضع سره.
وعن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع بن الجراح عن الثوري عن السدي، عن أسباط ومجاهد، عن ابن عباس في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم، قال:
قولوا معاشر العباد! ارشدنا إلى حب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام.
أقول: وفي هذه المعاني روايات أخر، وهذه الأخبار من قبيل الجري، وعد المصداق للآية، واعلم أن الجري و (كثيرا ما نستعمله في هذا الكتاب) اصطلاح مأخوذ من قول أئمة أهل البيت عليه السلام.
(1) القسيس الفاضل كوستار لبون في تاريخ تمدن الاسلام.
(٤١)
ففي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية، ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيها حرف إلا وله حد، ولكل حد مطلع ما يعنى بقوله ظهر وبطن؟ قال؟ ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شئ وقع الحديث.
وفي هذا المعنى روايات أخر، وهذه سليقة أئمه أهل البيت فإنهم عليه السلام يطبقون الآية من القرآن على ما يقبل ان ينطبق عليه من الموارد وان كان خارجا عن مورد النزول، والاعتبار يساعده، فان القرآن نزل هدى للعالمين يهديهم إلى واجب الاعتقاد وواجب الخلق وواجب العمل، وما بينه من المعارف النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال ولا زمان دون زمان، وما ذكره من فضيلة أو رذيلة أو شرعه من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد ولا عصر دون عصر لعموم التشريع.
وما ورد من شأن النزول (وهو الامر أو الحادثة التي تعقب نزول آية أو آيات في شخص أو واقعة) لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لان البيان عام والتعليل مطلق، فان المدح النازل في حق افراد من المؤمنين أو الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم وهكذا، والقرآن أيضا يدل عليه، قال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه) المائدة – 16 – وقال: (وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) حم سجده – 42. وقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر – 9.
والروايات في تطبيق الآيات القرآنية عليهم عليه السلام أو على أعدائهم أعني:
روايات الجري، كثيرة في الأبواب المختلفة، وربما تبلغ المئين، ونحن بعد هذا التنبيه العام نترك ايراد أكثرها في الأبحاث الروائية لخروجها عن الغرض في الكتاب، إلا ما تعلق بها غرض في البحث فليتذكر.
(٤٢)
(سورة البقرة وهي مأتان وست وثمانون آية)
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم – 1. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين – 2. الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون – 3. والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون – 4. أولئك هدي من ربهم وأولئك هم المفلحون – 5.
(بيان) لما كانت السورة نازلة نجوما لم يجمعها غرض واحد إلا ان معظمها تنبئ عن غاية واحدة محصلة وهو بيان ان من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي ووحي ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك، ثم تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله والتفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الاحكام كتحويل القبلة واحكام الحج والارث والصوم وغير ذلك.
قوله تعالى: ألم، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في أوائل السور، في أول سورة الشورى إن شاء الله، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتابا.
وقوله تعالى: هدى للمتقين الذين يؤمنون الخ، المتقون هم المؤمنون، وليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الايمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الاحسان والاخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الايمان إذا تلبس الايمان بلباس التحقق، والدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والذي اخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها
(٤٣)
حال المؤمنين والكفار والمنافقين، خمس صفات، وهي الايمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والانفاق مما رزق الله سبحانه، والايمان بما أنزله على أنبيائه، والايقان بالآخرة، وقد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم انما صاروا متقين اولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) فعلمنا بذلك: ان الهداية غير الهداية، وان هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى بها صاروا متقين، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول، ويتصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) البقرة – 7، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقوله في حق المنافقين: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) البقرة – 10 فنسب المرض الأول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به الا الفاسقين) البقرة – 26، وقوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف – 5.
وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما أن الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين.
ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فان الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمر خارج عنها، وكذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدء الجميع واليه ينتهي ويعود، وانه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والأخلاق، وهذا هو
(٤٤)
الاذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي أصول الدين، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته، واستعمال ما في وسع الانسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لاحياء هذا الامر ونشره، وهذان هما الصلاة والانفاق.
ومن هنا يعلم: ان الذي اخذه سبحانه من أوصافهم هو الذي يقضي به الفطرة إذا سلمت وانه سبحانه وعدهم انه سيفيض عليهم أمرا سماه هداية، فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسطة بين هدايتين كما عرفت، هداية سابقة وهداية لاحقة، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل، ومن الدليل على أن هذه الهداية الثانية من الله سبحانه فرع الأولى، آيات كثيرة كقوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) إبراهيم – 27. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) الحديد – 28. وقوله تعالى: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم) محمد صلى الله عليه وآله وسلم – 7.
وقوله تعالى: والله لا يهدي القوم الظالمين) الصف – 7. وقوله تعالى: (والله لا يهدي القوم الفاسقين) الصف – 5. إلى غير ذلك من الآيات.
والامر في ضلال الكفار والمنافقين كما في المتقين على ما سيأتي انشاء الله.
وفي الآيات إشارة إلى حياة أخرى للانسان كامنة مستبطنة تحت هذه الحياة الدنيوية، وهي الحياة التي بها يعيش الانسان في هذه الدار و بعد الموت وحين البعث، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الانعام – 123 وسيأتي الكلام فيه انشاء الله.
وقوله سبحانه: يؤمنون الايمان، تمكن الاعتقاد في القلب مأخوذ من الامن كأن المؤمن يعطي لما امن به الامن من الريب والشك وهو آفة الاعتقاد، والايمان كما مر معنى ذو مراتب، إذ الاذعان ربما يتعلق بالشئ نفسه فيترتب عليه اثره فقط، وربما يشتد بعض الاشتداد فيتعلق ببعض لوازمه، وربما يتعلق بجميع لوازمه فيستنتج منه ان للمؤمنين طبقات على حسب طبقات الايمان.
وقوله سبحانه: بالغيب، الغيب خلاف الشهادة وينطبق على ما لا يقع عليه الحس، وهو الله سبحانه وآياته الكبرى الغائبة عن حواسنا، ومنها الوحي هو
(٤٥)
2025-07-04