فاطمة سلامة
لطالما كان لبنان منصّة للتعبير عن الرأي، ولطالما كان ملجأ للمعذّبين والمضطهدين والمُبعدين. ما إن يُذكر لبنان حتى يقترن اسمه بالحريات العامة على اختلافها. وعليه، وجد معارضون بحرينيون في لبنان قبل سنوات بلدًا آمنًا لهم بعدما ضاقوا ذرعًا بممارسات نظام آل خليفة التي لا تمت للإنسانية بصلة. لجأوا الى بلد المنظمات الحقوقية ومارسوا حقّهم المشروع في التعبير عن قضيتهم الحقوقية. في بلدهم ثمّة ضحايا ومعتقلو رأي يذوقون كل أنواع التعذيب بلا ذنب أو جرم. ثمّة نظام يمارس منذ عام 2011 كل أشكال التعذيب لقمع المعارضة السياسية وكتم أنفاسها. في البحرين، ثمّة من يُسجن ويعذّب ويُعدم. في البحرين وسجونها لك أن تتخيّل مستوى الظلم الذي يلحق بالمعذّبين والمسجونين ظلمًا وعدوانًا. سجن “جو” أكبر سجون البحرين شاهد على الكثير من الحكايا غير الإنسانية التي وثّقتها منظمات حقوقية عالمية سلّطت الضوء على مدى أكثر من قرن على معاناة ضحايا البحرين التي تحوّلت الى إمارة للقتل والتعذيب.
قبل أيام، عقد أعضاء في جمعية “الوفاق” البحرينية مؤتمرًا في بيروت وثّق انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين. لم يرُق المؤتمر لنظام آل خليفة، فطُلب من الحكومة اللبنانية “إجراء اللازم”. صحيح أنّها ليست المرّة الأولى التي يُعقد فيها هذا النوع من المؤتمرات على أرض لبنان، لكنّ السُبّحة كرّت والوقاحة الخليجية بلغت مستويات متقدّمة بعد حادثة الوزير جورج قرداحي. وما كان غير مألوف بات اليوم طبيعيًا على قاعدة أنّ “حائط لبنان بات منخفضًا”. والمفارقة، أنّ كلمات المؤتمر لم تأت بشيء جديد غريب على نظام البحرين. لم تأت بشيء لم تألفه المؤتمرات الحقوقية على أرض لبنان من قبل. ولعلّ الأمر الأكثر غرابة يكمن في ردة الفعل اللبنانية التي لم يقرأها البعض سوى بمثابة تقديم أوراق اعتماد للبحرين ومن خلفها السعودية.
وما بين اعتراض المنامة وتجاوب لبنان الذي بدا ملكيًا أكثر من الملك، ثمّة سؤال يطرح نفسه: ماذا يقول القانون في المؤتمر الذي عقدته جمعية “الوفاق” البحرينية؟ وكيف يقرأ ردة فعل الحكومة اللبنانية وعزمها ترحيل المعارضين البحرينيين؟.
إجراءات الحكومة مخالفة للدستور والقانون الداخلي ولقواعد العرف الدولي ومواثيق الأمم المتحدة
المحامية اللبنانية سندريلا مرهج تقارب القضية المذكورة من وجهة نظر قانونية حقوقية بحتة، فترى أنّ إجراءات الحكومة اللبنانية حيال جمعية “الوفاق” البحرينية مخالفة للدستور اللبناني والقانون الداخلي وتعد انتهاكًا لقواعد العرف الدولي، ولمواثيق الأمم المتحدة. وفق مرهج، نحن أمام حادثة خطيرة لا تتعلّق فقط بحرية إبداء الرأي وسيادة الدولة وبعدم وجوب الإذعان السياسي أو اتخاذ إجراءات أمنية بحق مبعدين ومعارضين، لكنها خطيرة نظرًا لحساسية تقييد مؤتمرات حقوقية أو ذات طابع سياسي خصوصًا أنّ لبنان منصة للعديد من المنظمات الدولية التي تعقد المؤتمرات على أرضه.
وفي سياق تعليقها على القضية تدرج مرهج جُملة ملاحظات ووقائع واستنتاجات مستمدّة من قراءتها القانونية والحقوقية:
1- المؤتمر الذي عقدته جمعية “الوفاق” ليس سياسيًا بل حقوقي بامتياز. إنه مؤتمر تناول قضية تتعلق بحقوق الانسان وتحديدًا حقوق بعض المعارضين البحرينيين من الناحية الإنسانية وبعض الممارسات التي تمارس عليهم باسم القانون والتدابير المتخذة بحقهم من أحكام وإسقاط جنسيات وغيرها من الإجراءات العلنية غير السرية. وفق مرهج، الجرائم معروفة للجميع وكذلك أسماء المسجونين والمبعدين والمحكومين بالإعدام. وعليه، تناول المؤتمر قضايا ليست سرية بل معروفة للإعلام العربي والعالمي وقضايا موثّقة من مجموعة منظمات حقوقية وأثيرت أمام الأمم المتحدة ومجلس حقوق الانسان، وقد اتخذ فيها برلمان الاتحاد الأوروبي قرارًا، فضلًا عن أنّ العديد من الدول على تماس واطلاع عليها.
2- الهدف من المؤتمر كان فتح نقاش جدي حول المسائل الحقوقية، وبالفعل فتح نقاش أضيء من خلاله على وثيقة ستسجّل لدى مجلس حقوق الانسان تناولت الممارسات ضد المعارضين البحرينيين خاصة في ما يتعلق بإسقاط الجنسية وعقوبة الإعدام، القضيتين الأساسيتين بموضوع حقوق الإنسان، واللتين تثاران على مستوى دولي سواء بما يتعلق بالبحرين أو غيرها.
3-المؤتمر لم يعقد للمرة الأولى في لبنان عام 2021، وليس المؤتمر الوحيد الذي تناول قضايا حقوق الإنسان. ونحن نعلم أنّ منظمة “العفو” الدولية موجودة في لبنان وتصدر العديد من البيانات في الكثير من الندوات في هذا الإطار.
4-المؤتمر الذي عقدته “الوفاق” هو مؤتمر حقوقي وفقًا لقاعدة مقدمة الدستور التي تنص على الحريات العامة وتصون حرية الرأي. وفي هذا الإطار، تلفت مرهج الى أنّ المسار التاريخي للبنان يشهد أنّه لطالما كان ملجأ للمبعدين والمضطهدين والمعذبين على مدى التاريخ السياسي القديم والحديث بدءًا من قدوم الأرمن اليه الى الفلسطينيين الى العراقيين والسوريين والبحرينيين والسودانيين واليمنيين وغيرهم. وعليه، تشدّد مرهج على أنّ لبنان هو أرض المضطهدين والمبعدين والمعارضين لأنه دولة متميزة ليس فقط بحرية التعبير ولكن بالحريات العامة ككل كإقامة الشعائر الدينية وغيرها. لذلك، ترى مرهج أنّ ما حصل في الأيام الأخيرة غريب على وجه لبنان.
5- شكايتنا الى جامعة الدول العربية تدعنا نذكّر بأنّ لبنان عضو في الأمم المتحدة وهو يلتزم بحسب الدستور بمواثيقها وبالمعاهدات والمواثيق الدولية ما يجعله ملزمًا بقواعد القانون الدولي الإنساني وقانون العرف الدولي. وهنا تنوّه مرهج الى أنّه حتى القانون الداخلي الذي رعى موضوع قدوم الأجانب ووضع شروطًا لترحيلهم، وهي شروط حصرية جدًا ودقيقة تتمحور حول ما اذا كان قد صدر حكم بحقهم يتعلّق بجريمة شائنة ماسة بالأمن الوطني وما الى هنالك من القضايا التي تستدعي الترحيل. وفي هذا الإطار، ثمّة قيود على قضية الترحيل، اذ يلتزم لبنان بالمادتين 32 و33 من الاتفاقية الدولية التي رعت قضايا اللاجئين وعديمي الجنسية وإن لم يوقع عليها، لأنّ هذه الاتفاقية أضحت عرف دولة ولا يمكن لأي دولة مضيفة وفقًا للمادتين أن تطرد لاجئين أو عديمي الجنسية تواجدوا على أرضها، أو أن تقدم على إبعادهم قسرًا أو بالقوة الى البلد الذي هربوا منه اذا كانت العودة ستشكّل خطرًا على حياتهم.
6- لبنان وقّع على اتفاقية مناهضة التعذيب وانضم اليها وفيها بند واضح يشدّد على أنه لا يمكن ترحيل المحكوم عليه اذا كان أجنبيا موجودا على الأراضي اللبنانية اذا لم يرض هو بالترحيل، واذا كان قد أتى الى لبنان قسرًا، واذا كانت هذه الخطوة ستشكّل خطرًا على حياته. وكلنا نعلم -تقول مرهج- الخطر الموجود على حياة المعارضين البحرينيين خاصة الموجودين على الأراضي اللبنانية اذا تم إبعادهم.
7- ردة الفعل اللبنانية تعد بمثابة ردة فعل إذعان سياسي من الحكومة اللبنانية للرسالة التي أتت من الحكومة البحرينية. من وجهة نظر مرهج، للبحرين الحق بأن ترى كما تريد بموضوع المعارضة سواء بالداخل أو الخارج وهذا شانها، ولكن داخل المؤتمر لم يتم التطرق الى أي رمز سياسي بالاسم ولم نطالب بأي مطلب سياسي لا بل كل ما ورد كان بمثابة توصيات ومطالب حقوقية بامتياز.
وعليه، ترى مرهج أنّ الرد اللبناني أتى كإذعان سياسي لمطالب البحرين وتبين فيه أن رئيس حكومة لبنان يريد فعلًا رضى البحرين ومعها السعودية لأنّه ذهب بالرد بالبيان الى ما يسيء للبنان وسيادته. وفق مرهج، لم يطالبه أحد بإجراء تحقيق ولأخذ العلم فكلمة تحقيق لا تستخدم أبدًا بالبيانات الرسمية على المستوى الحكومي. نحن نتفهّم أن ترد الدولة اللبنانية برسالة ودية ترفض فيها العداء للبحرين وهذا شأن سياسي دبلوماسي لكن أن يصار الى الذهاب نحو القول إننا سنفتح تحقيقًا فهذا الأمر لا يثار بالرسائل السياسية بل كان بإمكان ميقاتي القول سنطّلع عن كثب على مدى توافق هذه القضية مع العلاقات الودية بين لبنان والبحرين والدساتير والقوانين اللبنانية وسيادة لبنان. أما الحديث عن فتح تحقيق -بحسب مرهج- ففيه ما فيه من التعرض للسيادة وعدم احترام قواعد توازن القوى بين الدول.
8- الإجراءات التي قامت بها وزارة الداخلية وكلامها حول جمع معلومات عن الأشخاص الذين شاركوا في المؤتمر ليس موفقًا. وهنا تسأل مرهج: ألم تكن وزارة الداخلية على علم بأن هناك مؤتمرًا؟. وفق قناعاتها كان بإمكان وزير الداخلية استخدام مصطلح آخر يليق بالسيادة الوطنية، فهذا المؤتمر لم يرتكب فيه جرم ولم يتعرض فيه للمصلحة الوطنية، وكل دولة ترى ما تريده في ما يتعلّق بالعلاقات بين لبنان والدول الأخرى. وهنا تلفت مرهج الى أنّ البحرين في الأصل سحبت سفيرها من لبنان في وقت سابق، فمن يكون قد قطع العلاقات أولًا؟.
وفي ختام مقاربتها للقضية، تكرّر مرهج أنّ ما حصل يصب في خانة استجداء استرضاء دول الخليج لتقديم أوراق اعتماد لتحظى هذه الحكومة بالدعم الخليجي على حساب السيادة الوطنية، وهذا أمر مرفوض. ليس مسموحًا لأحد أن يغيّر وجه لبنان الديمقراطي الحر وأن يتعرّض للسيادة الوطنية من أجل ماء وجه سلطة وأن يتم تقييد حرية الناشطين والإعلاميين لتكر السبحة ويبدأ الضغط على الإعلام والوسائل الإعلامية التي تنضوي في محور المقاومة، تختم مرهج.